بعد فترة ضبابية ليست بقصيرة، كشفت المؤسسة العسكرية في الجزائر، أخيراً، عن أسباب رفضها المطلق لدخول البلاد "مرحلة انتقالية". وأعلن الجيش عن مخاوف من "نقاشات أيديولوجية لا أول ولا آخر لها"، بشكل يوحي أنها "خطوط حمراء"، وقصد بذلك مطالب المجلس التأسيسي الذي يقول خصومه إنه "قد يفتح نقاشات عن ملفات الهوية ومصدر التشريع".
لم يسبق لرئيس أركان الجيش الجزائري، أن جاهر بدواعي الرفض المطلق لخيار المجلس التأسيسي، بمقابل دفاعه المعروف عن الخيار الدستوري الذي "لا يتعارض مع تطلعات الشعب" وفق وصفه. لكن خطاب صالح، من محافظة بشار، حيث مقر الناحية العسكرية الثالثة، الثلاثاء 18 يونيو (حزيران) 2019، كان مغايراً حينما خاض في دواعي "فيتو" الجيش ضد "خطوط حمراء".
وفي كلمة جديدة له، الأربعاء 19 يونيو، قال رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح "للجزائر علم واحد وراية واحدة تمثلان رمز السيادة والاستقلال، إن رفع رايات أخرى من قبل أقلية قليلة جداً، أمر حساس". وأضاف "صدرت أوامر صارمة لقوات الأمن لتطبيق القوانين بصرامة في هذا المجال". الرايات التي تحدث عنها صالح قصد فيها الرايات المتعلقة بـ "الهوية" منها العلم "الأمازيغي" وعلم "أولاد نايل" الذي برز مرات قليلة في المسيرات ثم اختفى.
نقاشات أيديولوجية
في حديثه عن الخيارات الدستورية المتاحة أمام الجزائر للخلاص من الأزمة السياسية في البلاد، هاجم قائد الجيش من يشير إلى "وجود تناقض ما بين هذه الخيارات ورأي عموم الجزائريين". فقد كثر الحديث عن أهمية إيجاد حل توافقي بين أحكام الدستور وبين المطالب الشعبية، فهل "يعتقد هؤلاء أن هناك تناقضاً أو تباعداً بين ما ترمي إليه الأحكام الدستورية في أبعادها الحقيقية وبين ما يطالب به الشعب الجزائري في مسيراته المتتالية؟".
وتابع "الشعب الذي زكى دستوره هو أحرص من غيره على صيانة قانون بلاده الأساسي وحفظ أحكامه ودوام العمل به، فلا يمكن أن يُحطم باسم الشعب إنجاز الشعب الجزائري المتمثل في قانونه الأساسي أي الدستور".
وتساءل قايد صالح "هل يدرك من يدعي عن جهل أو عن مكابرة وعناد أو عن نوايا مبهمة الأهداف، نعم نوايا مبهمة الأهداف، بأن سلطة الشعب هي فوق الدستور وفوق الجميع، وهي حق أريد به باطل، كونهم يريدون عن قصد تجاوز، بل تجميد العمل بأحكام الدستور"، مضيفاً "قلت هل يدرك هؤلاء أن ذلك يعني إلغاء مؤسسات الدولة كافة والدخول في نـفـق مظلم اسمه الفراغ الدستوري؟".
ورؤية المؤسسة العسكرية للفترة الانتقالية يعني "تهديم أسس الدولة الوطنية الجزائرية والتفكير في بناء دولة بمقاييس أخرى وبأفكار أخرى وبمشاريع أيديولوجية أخرى، تخصص لها نقاشات لا أول لها ولا آخر، هل هذا هو المقصود، فالجزائر ليست لعبة حظ بين أيدي من هب ودب وليست لقمة سائغة لهواة المغامرات، فهي تحتاج من أبنائها الأوفياء "التحلي بالكثير من الحكمة والتبصر والعقلانية، والكثير من الاتزان الفكري والعقلي وبعد النظر. فالدستور الجزائري هو حضن الشعب وحصنه المنيع، وهو الجامع لمقومات شخصيته الوطنية وثوابته الراسخة التي لا تحتاج إلى أي شكل من أشكال المراجعة والتبديل".
مصدر التشريع وحساسية الهوية؟
كثيراً ما ضجت وسائل التواصل الاجتماعي، بنقاشات بين شخصيات من "النخبة"، بعضها يدفع رافضاً فكرة المرحلة الانتقالية للمبررات ذاتها التي جهرت بها المؤسسة العسكرية، ولو أن الأخيرة لم تفصل في معنى "النقاشات الأيديولوجية"، إلا أن ما سبق من نقاشات يؤشر على ملفات تتصل بالدين والهوية واللغة.
ويعتقد خصوم المرحلة الانتقالية أن أي فترة سياسية خارج نص الدستور، تعطي "الفرصة لأعداء الخارج قبل الداخل"، كما قد تفتح المجال، بحسب هؤلاء، لفتح ملفات الهوية والديانة، بالتالي المساس بالمواد الصماء في الدستور الجزائري، وهي مواد تشير إلى وحدة الجزائر وحدة لا تتجزأ، وأن الإسلام دين الدولة، وأن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية، والأمازيغية هي كذلك لغة وطنية ورسمية، وأن العلم الوطني والنشيد الوطني من مكاسب ثورة أول نوفمبر وهما غير قابلين للتغيير".
وينظر إلى بعض الأحزاب أنها قد تحمل مشاريع نقاشات تطرح فكرة "الفيدرالية" وهو مشروع تقسيم جهوي تطرحه بعض الدوائر، للتعاطي مع مساحة الجزائر الكبيرة وتغطية الفوارق التنموية، لا سيما في جنوب البلاد، كما يتهم أصحابها (دعاة التأسيسي) بالاستعداد للتعرض لمكانة التشريع من دين الدولة (الإسلام)، لا سيما في قضايا الأسرة.
قانون الأسرة
في تصور أنصار "خطة الجيش"، فإن احتمال أن يكون قانون الأسرة في البلاد، معنياً بمعادلة المراجعة من جديد في حال "خيار الدستور قبل الرئاسيات". ويستمد هذا القانون أغلب نصوصه من الشريعة الإسلامية، وكاد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، أن يسقط "شرط الولي من زواج المرأة" في تعديل شهير عام 2006، ومع ذلك فقد قدم مزايا جديدة للمرأة مقارنة بقانون عام 1984 .
وفي السياق ذاته، يطرح حقوقيون ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام من قانون العقوبات، وهو ملف صنع سجالاً بينهم وبين رجال دين، فكانت خطة بوتفليقة سابقاً، أن جمّد العقوبة من دون سحبها من القانون، بمعنى أن "إصدار أحكام الإعدام ما زال قائماً، لكنه غير مجسد".
خلط بين "الانتقالية" و"التأسيسي"
لكن بعض المدافعين عن الخيار، يركزون على "خلط" بين "الانتقالية والمجلس التأسيسي". ويقول المحلل السياسي مروان لوناس، إن "هناك معاداة لمفهوم الفترة الانتقالية وخلطاً بينها وبين المجلس التأسيسي، على الرغم من أن الفرق بينهما واضح وضوح الشمس"، ويضيف "هذه العداوة يتبناها البعض عن جهل والبعض وقع ضحية تضليل وتخويف والبعض الآخر عن قصد كي لا تحدث القطيعة مع النظام السابق".
ويميل خصوم "الانتقاليين" في هذا الملف بالذات، لاستذكار مواقف لحزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، لما فتح باب النقاش حول "ميراث المرأة" في التشريع الجزائري، حين لم ينف التجمع مطالبه بالمساواة في الميراث بين الرجل والمرأة "بناء على نص الدستور"، الذي يقر المساواة بين الجنسين.
لكن الطرف المعني بهذه المخاوف، يحاول دفع هذه الاتهامات بعيداً، بل يصفها بالتي تستهدف "تحوير النقاش عن الأصل وهو ضرورة رحيل النظام ورموزه"، فقال نسيم ياسع القيادي بحزب "التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية"، إن "النظام القائم يدرك أن الانتخابات الرئاسية المقبلة غير محاطة بالمقاييس التي تضمن النزاهة والشفافية والقطيعة مع ممارسات الماضي".
ويذكر ياسع أن "الانتقال يمر بانتخاب هيئة جماعية لشخصيات لم يبلغوا من العمر 60 سنة، ثم حكومة إنقاذ وطنية من شخصيات غير متحزبة تقوم بتعيين هيئة مستقلة من خبراء لتحضير دستور جديد للدولة قبل عرضه للاستفتاء، بالتالي بعد توافر هذه المعطيات يمكن تنظيم انتخابات رئاسية وهذا في فترة لا تقل عن ستة أشهر".
وتبدي السلطة الجزائرية توجساً من ملف "الهوية" لما فيه من حساسية لسنوات طويلة، وأقرت حكومات بوتفليقة السابقة، انتصارات للغة الأمازيغية، سواء بترسيمها لغة وطنية في الدستور، أو تحديد "يناير" عيداً وطنياً وهو تاريخ الـ12 من الشهر الأول في السنة الميلادية.
بيد أن الطرف الآخر في المعادلة، سارع لتثمين أية خطوات لا تصب في صالح "فترة انتقالية" بنقاشات "عدمية لا طائل منها الآن"، وفي هذه الخانة يوجد، نور الدين بحبوح رئيس حزب "اتحاد القوى الديمقراطية الاجتماعية"، وهو وزير سابق وأحد أطراف التحالف المعارض المشكل من ثمانية أحزاب زائداً إثنين (لحقا في الفترة الأخيرة).
ويرفض هذا التكتل بشدة ما يسميه بحبوح "نقاشات تجاوزها الجزائريون وقد حددها بيان أول نوفمبر (تشرين الثاني)"، وقصد بيان اندلاع الثورة الجزائرية. وتابع "نحن ندعم الحوار لكننا نتساءل عن آلياته، أما الخطوط الحمراء بخصوصه فإنها شرط رحيل الوزير الأول الحالي نور الدين بدوي، ويمكننا التنازل عن مطلب تنحي رئيس الدولة عبد القادر بن صالح، إذا توافرت شروط تقنية وسياسية قبل الرئاسيات".