Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هارولد بلوم يبحث في ألغاز شكسبير ودواخله العميقة

كتاب موسوعي في مجلدين يلقي أضواء ساطعة على عالم الشاعر والمسرحي وشخصياته المبتكرة

شكسبير شاغل النقاد والقراء في العالم (مؤسسة شكسبير)

انتهى الناقد الأكاديمي الأميركي هارولد بلوم (1930) من كتابه الموسوعي الضخم "شكسبير: ابتكار الشخصية الإنسانية" عام 1998،  وشكل حدثاً كبيرا في حقل الدراسات الشكسبيرية ،وحديثاً صدرت ترجمة له إلى العربية (المركز القومي للترجمة - القاهرة) في مجلدين يضمان نحو ألف صفحة من القطع فوق المتوسط، أنجزها شيخ المترجمين العرب الدكتور محمد عناني (1939)، وهو من أكثر مَن ترجموا مسرحيات الكاتب الإنجليزي الأشهر إلى اللغة العربية. وهو أستاذ الأدب الإنجليزي في كلية الآداب في جامعة القاهرة، وله أكثر من 75 كتاباً ما بين مؤلَف ومترجَم. ولهارولد بلوم، أستاذ الأدب الإنجليزي والدراسات الإنسانية في جامعة ييل، ما يزيد عن خمسين كتاباً في مجالات النقد الأدبي والدراسات الإنسانية المتنوعة، وتُرجِمت أعماله إلى أكثر من 40 لغة، ويعد واحداً من ألمع - وأشهر-  النقاد الغربيين، كما أن كتابه "شيكسبير: إبتكار الشخصية الإنسانية"، يعد من أفضل ما كُتِب عن شكسبير ويتناول الأسباب التي جعلت الكثير من القراء والمثقفين حول العالم ومن شتى الثقافات، ينجذبون إلى أعمال هذا الكاتب العظيم على مر العصور. ومعروف أن الاهتمام بحياة وليم شكسبير (1564 – 1616) وأعماله لم يظهر إلا بعد نحو نصف قرن على رحيله، ومن وقتها وإلى الآن، هو محل اهتمام النقاد والباحثين والأدباء والمسرحيين والسينمائيين في بلده وفي مختلف أنحاء العالم.

يركز كتاب بلوم على أساليب بناء الشخصية الإنسانية عند وليم شكسبير، موضحاً ما يعنيه بالإنسان، وكيف نجح الكاتب الإنجليزي الأشهر في ما لم ينجح فيه معاصروه الذين تعرضوا للظروف التاريخية نفسها، وللظواهر الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية ذاتها، بل مَن شاركوه بعض الأفكار أو من تأثر بهم أو أثَّر فيهم. ولكنه اختلف بسبب الرؤية الفنية الكاشفة والأداة الفنية الفعالة، فأبدع لنا ما يسميه بلوم "الشخصية الإنسانية ذات الثراء والتنوع"؛ بفضل إحكامه للأداة التي ساعدته على عمق الرؤية وخصوصيتها.

الأدب والعلوم الإنسانية

وجاء في تصدير محمد عناني لترجمته لهذا العمل الضخم، أن هذا كتاب نحتاجه في عصر المناهج العلمية البينية، الذي اختلفت فيه دراسة الأدب باعتباره نشاطاً إنسانياً يشارك الفنون البشرية الأخرى جمالياً؛ بقدر ما يشارك العلوم الإنسانية منهجياً.

وأضاف عناني أن حاجتنا لهذا الكتاب ترجع إلى أنه يشجعنا على أن ننظر في سبب من أسباب تفوق شاعر مسرحي مشهود له بالعمق، ألا وهو تصويره للإنسان من حيث هو كيان حي كامل، لا مجرد شخصية ينقل إلينا الكاتب من خلالها نظرته للدنيا أو فكره مهما يكن أصيلاً. وهو منهج يذكرنا بمنهج عالم النفس يونغ الذي كان يرفض اعتبار أي "مريض" نفساني مجرد مريض، بل يصر على اعتباره إنساناً أولاً وقبل كل شيء. وتصوير الإنسان على نحو ما أصبحنا نعرفه في الأدب الحديث، الأجنبي والعربي، لا ينتمي ببساطة كما يتصور بعضنا إلى فن الصنعة، بل ينتمي في المقام الأول إلى موهبة الكاتب التي تجعله يرى في الإنسان – في ذاته وفي حياته الخاصة والعامة – ما نرى أو ما نبصره ولا نتوقف عنده. فنحن – يقول عناني – نجد لذة في اكتشاف أشياء في أنفسنا لم نكن واعين بها حين نقرأ نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أو دوستويفسكي أو تشيخوف أو شكسبير. وقد يتفاوت أسلوب الكشف عن هذه الخبايا أو الظواهر التي يفوتنا إدراكها تفاوتاً يرجع إلى "طريقة" الأديب في النظر إلى الدنيا وتحليلها أو ما يسمى رؤيته للعالم، بقدر ما ينتمي إلى تدريبه اللغوي وإحاطته بدقائق التعبير وألوان الصوغ. أي إن التصوير يبدأ بالرؤية ويتوسل بالجماليات، وتتفاوت هذه جميعاً تفوات أبناء البشر بين أنفسهم.

الشخصية الأدبية

يؤكد المؤلف أن الشخصية الأدبية قبل شكسبير كانت ثابتة نسبياً، فالصور التي تمثل النساء والرجال كانت تصور أفراداً يتقدمون في السن ويموتون من دون أن يتغيروا؛ لأن علاقتهم بأنفسهم قد تغيَّرت. أما عند شكسبير – يضيف المؤلف – فإن الشخصيات تتطور بدلاً من أن تتكشف لنا وحسب، وهي تتطور لأنها أعادت تصور ذواتها، وهو ما يحدث أحياناً لأنها تسترق السمع إلى نفسها أثناء كلامها، سواء كانت تخاطب أنفسها أو تخاطب غيرها، على حد تعبير بلوم، الذي يرى، أن كلما ازدادت قراءة المرء لمسرحيات شكسبير وازداد تأمله فيها، ازداد إدراكه أن الموقف الدقيق الذي يتخذه إزاءها هو موقف الرهبة، "أما كيف كان ذلك؟ فلا أستطيع أن أعرف، وبعد عقدين قضيتهما في تدريس هذه المسرحيات، أجد أن اللغز لا حل له".

تصدير الشخصيات

ابتكر شكسبير أو أحكم ما ابتكره تشوسر من قبل، من طريقة التمثيل المعتمدة على تصدير شخصياته. أي أن شيكسبير يدعو جمهوره إلى أن يحدس كيف وصل فولستاف وهاملت وإدموند إلى ما أصبحوا عليه، "وأنا أعني بذلك - يقول المؤلف - مواهبهم واهتماماتهم وشغلهم الشاغل. لن أسأل ما الذي جعل فولستاف يتمتع بهذه اللماحية الهائلة وحدا بهاملت إلى اتخاذ موقف الشك البالغ، وأكسب إدموند ذلك البرود الثلجي، إذ إن تصدير شكسبير ينحي أسرار الشخصية الإنسانية أو ألغازها جانباً، إلى حد ما".

والواقع أن الفن الأدبي عند شكسبير، وهو الأرفع بين ما كُتِب لنا أن نعرفه، - يضيف بلوم- يعتبر فن إيجاز بالحذف بقدر ما هو ذو ثراء فائق. فالمسرحيات تعلو عظمتها حيث تتسم بأكبر قدر من الإيجاز القائم على الحذف. فعطيل يحب ديدمونة، ولكنه في ما يبدو لا يرغب فيها جنسياً، فمن الواضح أنه لا يعرف إن كانت عذراء، ولا يجامعها قط . لكن المترجم يدحض هذا الرأي، مستداً إلى خبرته الطويلة في ترجمة مسرحيات شكسبير وسوناتاته، مع تسليمه في الوقت نفسه بأن رأيه الشخصي في هذه الجزئية لا ينقض القول بالحذف، فشكسبير - كما يرى - يعتمد على فطنة القارئ في افتراض بناء عطيل بزوجته ويحذف تفاصيل ذلك لدواعي اللياقة والصنعة المسرحية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يرى بلوم أن مسرحية "هاملت" تمثل أقصى ما وصل إليه فن شكسبير معرفياً وجمالياً. ويعتبر هاملت أغرب شخصية بين جميع شخصيات شكسبير، فهو إلى جانب صفات كثيرة أخرى، فيلسوف يائس، وموضوعه الرئيس هو العلاقة المعضلة بين الذاكرة والغرض، وطريقته المختارة في تناول تلك العلاقة هي المسرح، وهو الذي سوف يعرض فيه معرفة محترف المهنة والآراء الصلبة للكاتب المسرحي. ويعتبر بلوم  أن ياغو أنسب تلاميذ هاملت... "وهناك شيء قريب قرابة شديدة من انصهار هاملت في شكسبير الشاعر التراجيدي. فهو تولى حتى وظيفة شكسبير بصفته الممثل وكاتب المسرح، كما كان يتولى أيضاً سلطة جعل شكسبير يتكلم بلسانه، أي الممثل الذي يلعب دور الملك ويتلقى التعليمات. حياة شكسبير الإنسان لا تكاد تقدم لنا أية مفاتيح تفسيرية تساعدنا على فهم هاملت".    

الملك لير وعطيل وأنطونيو

إن رصد خلفية شكسبير، يراه بلوم عملاً مضنياً؛ "لأنه لا يقدم أي شيء يساعد على تفسير تفوقه الهائل على معاصريه، حتى أفضلهم مارلو وبن جونسون". ويرى المؤلف كذلك أن "التصدير" لشخوص شكسبير يبدأ بملاحظة ما يذكره شكسبير نفسه عنهم بصورة مضمرة. ولكن لا يمكنه أن ينتهي بتجميع ما يوحون به عنده. ففي ما يتعلق بالملك لير – وإلى حد أقل بعطيل وأنطونيو – نشعر أن شكسبير يسمح لنا بمعرفة حدودهم، في إطار ما سماه تشيسترتون "الأرواح العظمى المغلولة". وربما كان تشيسترتون المناصر لفولستاف يرى أن هاملت شخصية من هذا النوع، إذ إننا إذا نظرنا بمنظور كاثوليكي وجدنا أن هاملت (وبروسبرو) من الشخصيات التي تتعذب كي تتطهر، في أحسن حالاتها، فيما دانتي لا "يصدر" إلا دانتي المحج، وسائر الآخرين لديه لم يعودوا قادرين على التغيير، مادامت الأرواح الموجودة في المطهر لا تستطيع أن تتغير تغيراً جوهرياً. وفن التصدير عند شكسبير - يقول بلوم - هو الذي يتيح لرجاله ونسائه التغيير إلى حدود مدهشة، حتى في اللحظات الأخيرة، مثلما نشهد تغيير إدموند في آخر مسرحية "الملك لير".

ويخلص بلوم إلى أن هاملت وبروسبرو وفولستاف وياغو وإدموند، قد نشأوا جميعاً من خلال زمن سابق يعتبر في ذاته خلقاً مضمراً لتخيلات شكسبير... "ومن المناسب أن أختتم هذا الكتاب بفولستاف وهاملت، ماداما يمثلان أكمل صور الشخصية الإنسانية الممكنة عند شكسبير. فسواء كنا ذكوراً أو إناثاً، مسنين أو شباباً، فإن فولستاف وهاملت يتحدثان باسمنا وإلينا في عجلة. فهاملت يمكن أن يكون متعالياً أو ساخراً، وفي الحالين يبدي قدرة مطلقة على الابتكار. أما فولستاف في أشد حالاته تفكهاً وأشد حالاته تأملاً، فإن مبدأ الحيوية لا يتخلى عنه قط، وهو الذي يجعله ذا حياة تستعصي على التصديق. وعندما نشعر باكتمال إنسانيتنا ونعرف أنفسنا حق المعرفة، فإننا نصبح أشبه ما نكون بهاملت أو بفولستاف".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة