Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"توظيف الأموال"... فخ قديم للاحتيال على المصريين

3922 مجنياً عليه و37 متهماً في محافظة واحدة منذ مطلع الشهر والحصيلة 25 مليون دولار و"الحاج خالد" يهرب بـ13 مليوناً ويخلّف 13 ميتاً بالحسرة

في كل مرة كانت النتيجة واحدة وهي الاستيلاء على تلك الأموال والاختفاء عن أعين أصحابها وأجهزة الأمن (أ ف ب)

لم تكن جديدة على المصريين أنباء مصطفى البنك، المتهم بالنصب على عدد هائل من المواطنين لجمع أكثر من 200 مليون جنيه (11 مليون دولار) خلال أقل من شهرين، فالبيوت المصرية لا يكاد يخلو أي منها من ضحية لما يعرف بتوظيف الأموال، بدءاً من الشركات التي ظهرت في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، قبل انتقال ذلك النشاط للأفراد بعد منع إنشاء شركات جمع وتوظيف الأموال.

في كل مرة كانت النتيجة واحدة، وهي الاستيلاء على تلك الأموال والاختفاء عن أعين أصحابها وأجهزة الأمن، إذ تمكن بعضهم من الفرار، وألقى القبض على آخرين، تاركين الحسرة والندم وأحياناً المرض لمن كانوا ينتظرون الأرباح والفوائد الكبيرة.

ووفق بيان لوزارة الداخلية المصرية، فإن مصطفى البنك، الذي ألقي القبض عليه في 12 مايو (أيار) الحالي، جمع 200 مليون جنيه من المواطنين بزعم توظيفها في تجارة المواشي، وكان يقنعهم ببيع مواشيهم مقابل أثمانٍ تجاوز القيمة العادلة لها، في مقابل تأجيل الدفع لمدة 21 يوماً، وهو ما يعرف بنظام "الوعدة" في التجارة المعروف بصعيد مصر.

عشرات القضايا

منذ مطلع الشهر الحالي تلقت النيابة العامة بلاغات من 3922 مجنياً عليهم في محافظة أسوان بأقصى جنوب مصر، منحوا أموالاً تقدر بأكثر من 456 مليون جنيه (نحو 25 مليون دولار) إلى 37 شخصاً لاستثمارها مقابل أرباح. وأوضح بيان للنيابة العامة أنها تحقق في 28 قضية متهم فيها الأشخاص الـ37 "بدعوة الجمهور علناً لتلقي أموال متمثلة في مبالغ مالية وسيارات ورؤوس ماشية للاستثمار فيها مقابل الربح، وتوظيفها واستثمارها على خلاف الأوضاع المقررة قانوناً، مع كونهم غير مرخص لهم بمزاولة نشاط الشركات المقيدة بالهيئة العامة لسوق المال، فضلاً عن امتناعهم عن رد تلك الأموال". وأوضح البيان أن النيابة أمرت بحبس 17 منهم وضبط وإحضار المتهمين الآخرين الهاربين.

بعد أسبوع من كشف "مستريحي" أسوان، تقدم 14 شخصاً ببلاغات ضد شخص استطاع جمع 50 مليون جنيه (2.74 مليون دولار) منهم لتوظيفها في التجارة الإلكترونية مقابل أرباح شهرية تتفاوت بين 30 و50 في المئة، وبدأت النيابة التحقيق في تلك البلاغات.

كذلك، ألقت قوات الأمن القبض على "الحاج خالد" الذي جمع أكثر من 230 مليون جنيه (12.59 مليون دولار) من قرابة 2300 مواطن بمنطقة كرداسة الريفية في محافظة الجيزة غرب القاهرة، وأدت صدمة اختفائه بالأموال إلى وفاة 13 شخصاً، وفق تقارير صحافية محلية.

من يمارسون هذا النوع من النصب يطلق عليهم الإعلام المصري "المستريحين"، نسبة إلى "أحمد مصطفى" الذي ألقي القبض عليه عام 2014، وكان يرفع شعار "اربح وأنت مستريح"، إذ جمع أموالاً من ضحاياه بزعم توظيفها في تجارة الهواتف المحمولة والعقارات، وصدر بحقه لاحقاً حكم قضائي بالسجن لمدة 15 سنة وتغريمه 150 مليون جنيه (8.2 ملايين دولار)، إضافة لرد 266 مليوناً إلى ضحاياه من مقدمي الدعاوى.

توظيف الأموال

بداية نشاط "المستريحين" كان في السبعينيات من القرن الماضي، مع ظهور شركات توظيف الأموال التي امتد عملها لقطاعات الاقتصاد كافة، ووصل عددها إلى 60 شركة، وتعطي عوائد مالية مرتفعة تفوق فائدة البنوك، ما ضاعف الإقبال عليها، بخاصة من العاملين في الخارج، حتى وقع خلاف في نهاية الثمانينيات بين تلك الشركات والدولة حين تم اكتشاف ضياع أموال المصريين وتحويلها للخارج بغرض المضاربة في البورصات العالمية.

وأصدرت الحكومة المصرية قانوناً عام 1988 يجرم أنشطة جمع الأموال بغرض استثمارها من دون ترخيص. وكان مصير رجل الأعمال أحمد الريان صاحب أشهر تلك الشركات السجن لمدة 20 عاماً في قضايا عدة أبرزها توظيف الأموال، وقد بلغ إجمالي إيداعات المواطنين في تلك الشركات أكثر من 1.1 مليار جنيه (60 مليون دولار) وفق ما أعلنه رئيس الحكومة المصرية الأسبق أحمد نظيف عام 2006، مع إعلانه غلق ملف شركات توظيف الأموال نهائياً، بسداد مستحقات عشرات الآلاف من الأسر عبر تكفل الدولة سداد 85 في المئة من أموال المودعين، بينما لم تتخطَّ حصيلة بيع أصول تلك الشركات عشرة في المئة من حجم أموال المودعين.

هجر البنوك

ومع تكرار ظهور أنباء "المستريحين" في السنوات الأخيرة، كانت تظهر التساؤلات بشأن أسباب لجوء المواطنين لهؤلاء من أجل استثمار مدخراتهم، على الرغم من تقديم البنوك المصرية أوعية ادخارية عالية الفائدة، آخرها طرح شهادة ادخار مدتها عام بفائدة 18 في المئة، منذ مارس (آذار) الماضي. ورأى المتخصص الاقتصادي هاني أبو الفتوح، أن تكرار ظهور "المستريح" يرجع إلى "غياب الوعي وعدم وصول المؤسسات المالية لبسطاء المواطنين"، مضيفاً في تصريحات تلفزيونية أن على تلك المؤسسات "العمل على توعيتهم وتقديم أوعية مالية مناسبة تناسب فكرهم وتلبي احتياجاتهم، بخاصة أن معظم تلك الحوادث تقع في مناطق ريفية".

بحسب أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية سعيد صادق فإن النصاب يبحث عن أشخاص محدودي التعليم يعانون "الفقر الفكري" ويستغل جهلهم بالقوانين ليبدأ في استغلالهم مادياً. وأشار إلى ضرورة توعية المواطنين بعدم اللجوء لهؤلاء النصابين، مؤكداً في تصريحات صحافية أن على القطاع المصرفي استقطاب تلك الشريحة وتقديم شرح مبسط لخدماتها، إضافة لتوعية رجال الدين المواطنين بما لهؤلاء من تأثير ضار بخاصة في القرى والمناطق الريفية، مع استغلال النصابين جهل بعض الناس وترويج أن فوائد البنوك حرام شرعاً.

الحكم الشرعي

على الرغم من صدور فتوى رسمية من شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت عام 1963 بجواز التعامل مع البنوك باعتبار أن الشخص يودع أمواله بها طائعاً، ما زال البعض يثير تلك القضية الفقهية ويشكك في الحكم الشرعي للبنوك. وقال كثير من ضحايا "المستريحين" إنهم لم يودعوا أموالهم في البنوك لأنهم يعتقدون بحرمتها، واستعانت شركات توظيف الأموال في الثمانينيات ببعض مشاهير رجال الدين للترويج لخدماتهم.

كما يتمسك مشايخ الدعوة السلفية في مصر بحرمة التعامل مع البنوك وكونها "ربا"، وتكرر دار الإفتاء المصرية بين الحين والآخر تأكيد فتاواها السابقة بجواز التعامل مع البنوك، وأنها لا تقع في نطاق الربا بعد التعديلات الحديثة في أنظمتها، فيما اعتبر الأستاذ بجامعة الأزهر مبروك عطية في تصريحات تلفزيونية أن من يودع أمواله لدى "المستريحين" آثم شرعاً، بينما من يضعها في البنوك "يتقرب من الله" ويسهم في اقتصاد بلده.

لكن عامل الطمع يظل بارزاً ضمن أسباب ظاهرة "المستريحين"، فمصطفى البنك الذي ألقي القبض عليه في أسوان كان يشتري المواشي بأثمان تقارب ضعف السعر السوقي لها، إذ قال أحد ضحاياه إنه كان يشتري البقرة مقابل 60 ألف جنيه (3281 دولاراً)، بينما سعرها العادل في السوق 20 ألفاً (1093 دولاراً) فقط، ما جعل المئات يتوافدون عليه لبيع مواشيهم، التي جمعها في حظيرة امتدت على مساحة عشرة أفدنة من أراضي الدولة، وفي غياب الرقابة الحكومية، وفق تقارير صحافية محلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكاتب الصحافي عماد الدين حسين، عضو مجلس الشيوخ، وصف ضحايا "المستريحين" بأنهم مجرمون أيضاً، مضيفاً في مقال بصحيفة "الشروق" المصرية أن السعي وراء الكسب السريع كان الدافع لإيداع المدخرات لدى النصابين في قصة متكررة تظهر بين الحين والآخر مع اختلاف التفاصيل، مشيراً إلى أن العوائد التي يعد بها النصابون بقيمة 50 في المئة شهرياً وأحياناً أكثر، لا تتحقق سوى بالتجارة غير المشروعة، ومع ذلك يقبل المودعون على هؤلاء النصابين.

قيمة الأموال التي استولى عليها "المستريحون" منذ ظهورهم على السطح من جديد في الأعوام الأخيرة ليست معروفة، لكن بالنظر إلى ما أعلنته النيابة العامة بشأن المتهمين في أسوان، الذين جمعوا ما يفوق 450 مليون جنيه (24.63 مليون دولار)، فإن الحصيلة من المؤكد أنها تتخطى مليارات الجنيهات.

مصير الأموال

ينص قانون العقوبات المصري على أن يعاقب مرتكب جريمة النصب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات، أما إذا كان يمتلك شركة ارتكب من خلالها الجريمة فتتراوح عقوبته بين ثلاث وخمس سنوات.

ويعد مصير أموال المودعين لدى هؤلاء المستريحين غامضاً أيضاً، إذ يصعب على كثير منهم إثبات مقدار خسارته، في ظل اعتمادهم على الاتفاقات الشفهية والعرفية في وجود كبار رجال القرى الذين يعتبرون الضامن للمعاملات التجارية، على عكس ما حدث في الثمانينيات من القرن الماضي حين أغلقت الحكومة شركات توظيف الأموال التي كانت تمتلك دفاتر وإطاراً مؤسسياً أمكن الرجوع إليه في إعادة أموال المودعين، الذين خسروا بالطبع قيمة فوائد تلك الأموال على مدى سنوات.

ومن الصعب الوصول إلى كامل الأموال التي يستولي عليها المستريح باعتبارها خارج الإطار الرسمي، فعلى سبيل المثال قالت وزارة الداخلية إن مصطفى البنك جمع قرابة 200 مليون جنيه (10.9 مليون دولار) من المودعين، وعثرت معه على 9.5 مليون جنيه (نحو نصف مليون دولار) أثناء القبض عليه، ومع إجراء النيابة العامة معاينة للمزرعة التي كان يحتفظ فيها بالمواشي، أمرت ببيع 447 رأس ماشية بالمزاد العلني، أسفرت عن توريد خمسة ملايين جنيه (273479 دولاراً) إلى خزينة المحكمة على ذمة القضية، إضافة إلى مبالغ أخرى تم ضبطها. وقررت النيابة العامة منع المتهمين الـ37 في أسوان من التصرف في أموالهم، ويتيح القانون تعويض المجني عليهم، وهو ما سيتضح مع بدء إجراءات المحاكمة وسير القضية.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي