بعد عشرة أيام فقط من قصف صاروخي شنته ميليشيات عراقية موالية لطهران على مصفاة نفطية في أربيل، نفّذ "الحرس الثوري الإيراني" قصفاً مدفعياً وجوياً مكثفاً استهدف مواقع مفترضة لمعارضين أكراد، في إطار ضغط إيراني متصاعد على قادة إقليم كردستان لثنيهم عن ممارسة سياسة "معادية" لمصالح طهران في العراق، وفقاً لسياسيين ومراقبين أكراد، فيما دانت بغداد القصف، داعية الأطراف إلى الحوار بما يحفظ "سيادة البلاد".
وكانت وكالة أنباء "تسنيم" الإيرانية أعلنت شن "قوات برية تابعة للحرس الثوري قصفاً بالمدفعية صباح الأربعاء 11 مايو (أيار)، على مواقع الجماعات الإرهابية في أربيل"، بحسب وصفها، في إشارة إلى المسلحين الأكراد المعارضين لطهران، وهو ما أكده مدير ناحية سيدكان (120 كلم شمال شرقي أربيل عند المثلث الحدودي مع تركيا وإيران) إحسان الجلبي، الذي قال إن "قصفاً مكثفاً مرات عدة طاول مرتفعات بربزين قرب منطقة برادوست في ناحية سيدكان، من دون وقوع إصابات بشرية". وأردف أن "المنطقة لا يقطنها سوى المزارعين الذين يتعرضون باستمرار لعمليات قصف".
وبعد وقت قصير، أعلن مسؤولون محليون في منطقة جومان "عن قيام طائرات إيرانية مسيّرة بقصف أهداف في المنطقة الحدودية، من دون وقوع خسائر بشرية".
رد سريع للحوار والتهدئة
ويأتي القصف الإيراني فيما يواصل الجيش التركي عمليته العسكرية التي بدأها منتصف أبريل (نيسان) الماضي في المناطق الجبلية الحدودية بمحافظة دهوك شمال الإقليم، لملاحقة عناصر حزب "العمال الكردستاني" المعارض لأنقرة، في مسعى "لإقامة منطقة آمنة"، على ما أفاد به قادة عسكريون أتراك.
وجاء رد فعل الخارجية العراقية على القصف سريعاً، إذ قالت في بيان "حكومة العراق تدين القصف الإيراني"، مضيفة "نجدد التأكيد على المضمون الدستوري، أن لا تستخدم الأراضي العراقية مقراً أو ممراً لتهديد أمن دول الجوار، فإننا في الوقت ذاته نشدد على أهمية الارتكان للحوار واستدامته لمواجهة التحديات، لا سيما الأمنية منها، بما يحفظ سيادة العراق ويعزز أمن المنطقة واستقرارها".
أذرع إيرانية
وسبق لطهران وفصائل عراقية "شيعية" موالية لها، أن شنت عدداً من الهجمات الصاروخية، مستهدفة مصالح أميركية في العراق، أبرزها قواعد عسكرية قرب مطار أربيل الدولي وفي محافظة الأنبار، عقب مقتل قائد "فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني" قاسم سليماني ونائب رئيس "الحشد الشعبي" الشيعي في العراق أبو مهدي المهندس في يناير (كانون الثاني) عام 2020.
وفي مطلع الشهر الحالي، تعرّضت مصفاة نفطية مملوكة لشركة "كار" الكردية لقصف بستة صواريخ بعد شهر من تعرضها لقصف مماثل. وحمل حينها مجلس أمن الإقليم من وصفهم بمسلّحي "عصائب أهل الحق" و"الحشد الشبكي" المقربين من طهران والمنضوين ضمن قوات ما يعرف بـ"الحشد الشعبي"، مسؤولية الهجوم.
ويذكر أن شركة "كار" يرأسها رجل الأعمال الشيخ باز البرزنجي، الذي كان تعرض منزله في مدينة أربيل الواقع على بعد بضعة كيلومترات من مبنى القنصلية الأميركية قيد الإنشاء، لهجوم بتسعة صواريخ باليستية منتصف مارس (آذار) الماضي. وأعلن حينها "الحرس الثوري الإيراني" مسؤوليته عن القصف بذريعة أن المنزل "يؤوي عناصر تابعة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد"، وهو ما نفاه البرزنجي.
التماهي في ضرب المصالح الإيرانية
وتتباين القراءات حول الفحوى من الرسائل التي توجهها إيران إلى أكراد العراق عبر عمليات القصف، بين من يربطها باتخاذ أربيل خطوات لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر تركيا "بمشاركة إسرائيلية"، ما يهدد مصالح طهران باعتبارها مورداً رئيساً للغاز إلى كل من العراق وتركيا، لا سيما أن رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني كان أعلن أخيراً خلال منتدى الطاقة العالمي في الإمارات، أن "الهجمات الإيرانية وإجراءات حكومة بغداد ضد الإقليم، إشارات إلى وجود معارضة لتطوير قطاع الطاقة في الإقليم"، وآخر يعتبرها تحذيراً لأربيل التي يحكمها الحزب "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني، لمساهمته في احتواء النفوذ الإيراني على القرار العراقي عبر تشتيت "البيت الشيعي" في أعقاب تحالفه مع زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الشيعي، وتحالف رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، على حساب تحالف "الإطار التنسيقي" الحاضن للقوى المقربة من طهران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وحول الفحوى من الرسائل الإيرانية، يرى المحلل السياسي الكردي هيوا عثمان أن "طهران تحاول توجيه رسائل بشتى الوسائل إلى أربيل، فهي تستهدف بيوت المدنيين أو البنية التحتية النفطية، واليوم تقول للإقليم إنها قادرة على استهداف أي مكان فيه"، وأردف "بالنسبة إلى الإيرانيين، فإنهم ينظرون للعراق كدولة مفتوحة، ويتبيّن من خلال التقرير الذي صدر عن نتائج التحقيق في القصف الصاروخي الذي استهدف منزل باز، أنهم عبّروا في السابق لبعض المسؤولين في الإقليم عن قلقهم من وجود معارضة كردية - إيرانية في الإقليم. لكن في الواقع، حتى لو وجدت هذه المعارضة فإنها غير مسلحة، ولا تشن هجمات على إيران انطلاقاً من أراضي الإقليم، لكنها مجرد حجج ليس إلا".
ويشير عثمان إلى أن إيران تستغل "الصمت" الأميركي على الساحة السياسية العراقية في محاولة للتحكم بالقرار العراقي، وقال إن "طهران تعمل على إخضاع أربيل (منطقة نفوذ حزب بارزاني) للابتعاد عن التحالف الثلاثي والرضوخ للإرادة الإيرانية في رسم السياسات العراقية. طبعاً كل ذلك يحدث في ظل غياب تام للدور الأميركي، والرسائل الإيرانية واضحة تقول للإقليم: بإمكاننا أن نؤذيكم ولا تستطيع واشنطن أن تحميكم". وحول مدى المخاوف الإيرانية من المسعى الكردي لتصدير الغاز، أوضح "ليست عملية تصدير الغاز فقط، فحتى لو حصلت أية زيادة في إنتاج الغاز المحلي من قبل أية جهة كانت، سواء حزب الاتحاد الوطني (بزعامة بافل طالباني) أو الحزب الديمقراطي، ستؤثر في المصالح الإيرانية بالعراق. ومعلوم أن العراق يعتمد على الغاز الإيراني بنسبة كبيرة لسد حاجاته ويشتريه بأسعار مضاعفة". واعتبر عثمان أن "أية خطوة من شأنها تطوير البنية التحتية لقطاع الغاز العراقي، بالتالي تحقيق الاكتفاء الذاتي، من قبل أية جهة كانت بما فيها القوى الموالية لإيران، ستواجه معارضة حازمة من طهران".
تدخلات وذرائع
من جهته، أقرّ نائب زعيم "الحزب الديمقراطي الكردستاني" المعارض لطهران محمد نظيف قادري، بوجود مشروط لأنشطة قوى كردية - إيرانية في الإقليم، وقال لـ"اندبندنت عربية": "نعم لدينا مقار، لكن نشاطنا لم يشكل قط أي تهديد يجعل إيران تتخذه ذريعة لشن الهجمات على الإقليم أو العراق عموماً، لأن ساحتنا النضالية وأنشطتنا محصورة بكردستان الشرقية (المناطق الكردية في إيران)، ولا علاقة للإقليم بهذه الأنشطة مطلقاً". وزاد أن "إيران منذ سقوط نظام صدام حسين، عملت لتكون قوة في مواجهة واشنطن وحلفائها عبر تشكيل أذرع لها، والمتمثلة في الميليشيات المسلحة".
وبشأن انعكاسات سياسة أربيل على المصالح الإيرانية، قال قادري إن "طهران دائماً ما كانت تمارس سياسة التدخل والفرض على دول المنطقة، خصوصاً العراق ومن ضمنه إقليم كردستان، إلى جانب تدخلاتها في سوريا ولبنان واليمن عبر أذرعها المتمثلة في الميليشيات المسلحة والقوى الموالية لها". وأوضح أن "السياسة الإيرانية تجاه العراق واضحة، فهي تعارض وجود قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، وكذلك القوى العراقية الساعية لتحقيق السيادة وانتهاج سياسة مستقلة تصب في مصلحة الشعوب العراقية، خصوصاً الشعب الكردي في إقليم كردستان. وترى طهران أن هذه المساعي تتعارض مع مصالحها القومية، وفي الواقع أن بغداد وأربيل لا تشكلان أي تهديد لتلك المصالح".
وتقول حكومة أربيل إن وجود القوى الكردية المعارضة لإيران في الإقليم قائم، وفق اتفاق يسمح لها بممارسة الأنشطة السياسية فقط، ولا يسمح لها بشن هجمات مسلحة ضد المصالح الإيرانية انطلاقاً من الأراضي العراقية.
سياسة "فرض الإرادة"
ويؤكد قادري أن طهران "تحاول فرض نفسها بكل الذرائع، منها وجود قوات التحالف الدولي أو مكاتب للاستخبارات الإسرائيلية أو المعارضة الإيرانية، لكنها فشلت من الناحية العملية، ولم تستطِع تحقيق ما تسعى من أجله. لذا، فإن وعي شعوب المنطقة ومنها الشعب الكردي وقيادته السياسية لم تعطِ الفرصة لطهران لتحقيق مآربها"، لافتاً إلى أن "الأنشطة الاقتصادية للعراق وكردستان مع دول العالم بما فيها تطوير مشروع الغاز حق مشروع، أما بشأن الانسداد السياسي القائم، فإنه لا يحق لطهران أن تفرض قرارها على بلد يتمتع بالسيادة. طهران تحاول عبر قوى سياسية موالية لها إخراج القوات الدولية من البلاد، وتضع العقبات أمام العملية السياسية ومسار الإعمار، وأمام أي خطوة من شأنها أن تسهم في استعادة العراق سيادته ومكانته وعلاقاته الدولية".