يدخل المشاهد إلى الصالة مأخوذاً بالفضول ولكن متردداً في الحين نفسه. "ماذا لو كان فيلم سيرة آخر؟" قد يسأل في سره، ومع ذلك لا يتوانى في اعطاء فرصة لعمل يحمل عنواناً ملتبساً ولا يسلّم ما في جعبته بسهولة. إلا أن ربع ساعة، لا أكثر، يكفي كي يجد نفسه داخل عوالم الفيلم، ويفهم أن المخرجة لا تمازحنا، فعملها لا يريد لنا سوى المتعة والفائدة. هذه كانت تجربتي، باختصار شديد، مع “ألين”، الفيلم الفرنسي الذي جذب أكثر من مليون و٣٠٠ ألف مشاهد داخل بلاده، ولو كان ناطقاً بالانكليزية لاجتاح مناطق أخرى، لكن المخرجة الفرنسية فاليري لومرسييه في سادس عمل لها كمخرجة، فضّلت أن تصنعه بالفرنسية الكندية، وهي اللغة التي ليس لها متحدثون كثر حول العالم.
الفيلم مستوحى من سيرة المغنية الكندية سيلين ديون، الأشهر من أن تعرف. لكن صنّاعه لم يرغبوا بعمل يأخذ طابعاً مباشراً أو دعاية مقنّعة لها، فلجؤوا إلى تغيير اسم الشخصية من سيلين إلى ألين (مع الحفاظ على الوزن)، لكن لا ينكرون البتة أن ديون كانت مصدر الإلهام الأساسي للفيلم، فالحياة التي نراها على الشاشة حياتها بكل تفاصيلها، والأغاني التي تؤديها في جولاتها الدولية هي أغانيها وشغف الفن الذي يلفها هو شغفها. كل شيء في الفيلم عن ديون، لكن البطلة اسمها ألين.
أسطورة الغناء
شكلت ديون بالنسبة لجيل الثمانينيات والتسعينات صوتاً ترك صدى كبيراً في وجدانهم من خلال أغانيها باللغتين الانجليزية والفرنسية. إنها أسطورة الغناء التي لم تقف قط على خشبة مسرح فيه كرسي واحد شاغر. كثيرون منا لا يزالون يتذكرون عندما فازت في مسابقة الأوروفيجن في العام 1998، ممثلةً سويسرا، بأغنيتها الشهيرة ”لا ترحلوا من دوني". لكن لومرسييه لم تصنع فيلمها لهواة موسيقى ديون أو للذين يعشقون فنها. المفارقة أن أي شخص لم يسمع بديون قد يخرج من الفيلم مكتفياً بما شاهده وسمعه طوال ساعتين. فهذه هي ميزات الأفلام الكبيرة التي تتخطى دائرة المهتمين بالموضوع الذي تقدمه.
حكاية صعود ديون الموسيقي الذي جعل منها واحدة من أهم المغنيات في العالم خلال العقود الثلاثة الماضية، تتوفر فيها شروط السينما كاملة، من إخراج ديناميكي يكتفي بالضروري وكل ما يخدم الحكاية، إلى سيناريو يعرف ما يختاره من تفاصيل ويتخلى عن الحشو، فإلى التمثيل الذي يبلغ الذروة مع لومرسييه التي لا تكتفي فقط بالإخراج بل تقف أيضاً قبالة الكاميرا في دور ألين/سيلين. هذا كله يساهم في أن يبقى المشاهد ملتصقاً بكرسيه طوال ساعتين من عمل بصري يحلق عالياً في فضاء الفن السابع. الخلاصة: فيلم جماهيري حيث الضحك يختلط بالدموع واحياناً في المشهد نفسه. ما من لحظة ملل واحدة تبتعد فيها عيوننا عن الشاشة.
المدهش أيضاً أن لومرسييه التي نالت "سيزار" أفضل ممثّلة عن دورها في الفيلم (جائزة مستحقة)، تجسد دور ألين من عمر الخامسة حتى آخر سنوات حياتها. هذا إنجاز يكاد يكون غير مسبوق في تاريخ الأداء، خصوصاً أن عمر الممثّلة الحقيقي 58 سنة!! صحيح أن الكثير من المواقف والتفاصيل والحكايات الجانبية اخترعت لضرورات درامية، ولا تتبع حياة المغنية بحذافيرها، إلا أن رد فعل ديون وطلتها والنحو الذي تتحرك فيه وتحكي وتغني، كل هذا استعادته لومرسييه بأمانة كبيرة.
كيبيك السبعينيات
يعود بنا الفيلم إلى كيبيك في مطلع السبعينيات، حين كانت ألين فتاة يافعة وبدأت عائلتها في اكتشاف صوت يعتبر منجماً من ذهب. العائلة متماسكة يدعم أفرادها بعضهم بعضاً، ولعل أكثر ما يلفت في هذه الاسرة التي يهمين عليها الأب والأم بشكل واضح هو حجمها، فهي مؤلفة من ١٤ شقيقاً وشقيقة وألين آخر العنقود. ولكم أن تتخيلوا كيف يتشارك كل هؤلاء القرارات المتعلقة بألين. في هذا المجال نجد بوضوح البصمة الكوميدية الفرنسية جداً للومرسييه، التي تبقى هي هي حتى لو انتقلت إلى بلاد (كندا) بعيدة عن بلادها. أحد أجمل المشاهد في هذا المجال حيث تتداخل الكوميديا بالجدية، يصوّر التواصل الأول عبر الهاتف مع مدير الأعمال غي كلود بعد إرساله له كاسيتاً فيه أغان بصوت ألين وهي في الثانية عشرة، هذا الرجل الذي سيضطلع لاحقاً بدور مهم في إطلاق ألين. لا يدوم الاتصال الهاتفي إلا دقائق قليلة في حضور كافة أفراد العائلة المتحلقين حول الأب والأم على طاولة المطبخ، لكن هذا الاتصال سيصنع مصير ألين، إذ سيقرر غي كلود على إثره أن يأخذها تحت جناحه ويحلق بها عالياً في سماء الأغنية الشعبية.
ومع تطور التعاون الوثيق بين غي كلود وألين وتحوله المحتم إلى قصة غرام بين الطرفين، سنكتشف التأثير الكبير لأم ألين على حياتها. الفيلم يخصص مشاهد كثيرة لهذه العلاقة الإشكالية بين الإبنة وأمها، خصوصاً عندما تصر الأخيرة ألا تتزوج من رجل يكبرها 23 عاماً رغم أهميته ورغم أهمية مكانته بالنسبة لها ولمسيرتها الفنية. فلولاه لما كان تحقق هذا كله. باقي الفيلم سيكون على الشكل الآتي: تفاصيل النجاح الإستثنائي لنجمة الغناء، من عندما كانت تغني في غرفتها إلى أكبر مسارح العالم في باريس ونيويورك ولاس فيغاس. تنتقل الأحداث من العام إلى الخاص، لترينا كواليس هذه الحياة المجيدة، من صراع مهني كالحفاظ على الصوت، ومعاناة شخصية كالرغبة في الإنجاب، وصولاً إلى المرض والموت. تصور لومرسييه سيرة ديون كقصص الساحرات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يتحول الفيلم إلى محاكاة أو كاريكاتور في أي لحظة. لا يسقط في الميلودراما والدموع حتى في لحظات تدعو إلى التعاطف. تتفادى لومرسييه الوقوع في كل هذه الفخاح، وتتجنب تقديم عمل غير قابل للتصديق. أما السر فهو أنها تعرف من أي مسافة تقارب سيرة ديون. فمثلاً، ما نسمعه في الفيلم هو أغاني ديون لكنها سجلت بصوت فيكتوريا سيو، صاحبة الصوت القريب من صوت ديون. لماذا لجأت لومرسييه إلى هذا الخيار علماً أنه كان في إمكانها استعمال أغاني ديون بصوتها؟ قد يكون السبب قانونياً في الأساس، لكن من الناحية الفنية يمكن فهم هذا الخيار في أنها أرادت اعطاء طابع حقيقي ومزيف في الحين نفسه.
لم نسمع آراء سيلين ديون عن الفيلم، لكن عائلتها انتقدت العمل وقالت بأنه لم يقدم صورة جيدة عن أفرادها، الأمر الذي ردت عليه لومرسييه بالقول بأنها اقترحت عملاً خيالياً لا وثائقياً وأنها أخذت الكثير من الحريات بالمقارنة مع الواقع، وكانت حريصة جداً ألا تشوه لا ديون ولا عائلتها. في النهاية، يجب القول إنه مهما كانت المقاربة، سيظل الإعتراض موجوداً من جانب من تتحدث عنهم، وهذا ليس بالجديد. عن الشهرة والموهبة والفقد ومحاولات العودة إلى الذات بعد الإبتعاد عنها. "ألين" فيلم رقيق يجمع بين جوانب حميمية ولقطة عريضة للوجود، مصوغ على نحو يصعب مقاومته، فيذكرنا أن السينما هي اللقاء بين المتعة المجانية وغذاء للعقل والروح.