في عصر تباعد فيه الأيديولوجيا بين كثير من أبناء العائلات وتفكك عديد من العلاقات، يصور فيلمنا "كوبايلوت" (الطيار المساعد) فترة سابقة على "الانفجار الكبير" للاستقطاب السياسي في نهاية تسعينيات القرن الماضي. وهو يتناول قصة حب جنوني، إذا صح التعبير، على خلفية حدث تاريخي رهيب نعرفه جميعاً خلق، بما فيه من عنف وقوة رمزية، خواءً ولغزاً طويل الأمد في نفوسنا جميعاً. فها هي أحداث هجمات سبتمبر لا تزال حاضرة معنا بعد عشرين عاماً على وقوعها.
أردت أنا وكاتبة السيناريو ستيفاني مصراحي عرض قصة حب مشحونة بهذا الاستقطاب السياسي على الشاشة الكبيرة. فكان هذا الفيلم الذي يعالج موضوعات القوة والهزيمة، والحياة والموت، وعلاقة زوجين يكافحان، ثم يكذبان من أجل حماية علاقتهما، فيؤذيان بعضهما بعضاً، ويحب كل منهما الآخر. تتورط المرأة في أحداث متشابكة تغير حياتها بأكملها... وتبدل معها أيضاً العالم برمته. آصلي هي شخصيتنا الرئيسة، التي باتت في نهاية القصة مدمرة بشكل لا ينفع معه دواء إلى درجة لا تستطيع معها إلا أن تسأل نفسها ما إذا كان بإمكانها أن تتصرف على نحو مختلف من قبل.
بدأت إلى جانب المنتجين رومان بول وغيرهارد ميكسنر، العملية الجوهرية لجمع المواد، وإلقاء الضوء على الإرهابيين القتلة وزوجاتهم. وهنا برزت شخصيتان رئيستان، جزئياً من المادة التي تراكمت لدينا، وجزئياً أيضاً من قلوبنا وعقولنا، وهما آصلي، وزوجها سعيد، ويمثل نسخة متخيلة بتصرف لشخصية الطيار – الخاطف زياد جراح الذي كان على رحلة يونايتد 93 المشؤومة التي جرى خطفها لكي تشارك في هجمات 9/11، غير أنها تحطمت في حقل في ولاية بنسلفانيا، بعد أن ثار الركاب على الخاطفين. إن معاينة الحياة العاطفية لزوجة إرهابي لا يمكن أن تتم على أساس تتبع الحقائق. ومع أن فيلم "كوبايلوت" يستند إلى أكوام من المواد المرجعية، فهو ببساطة ليس سرداً لسلسة أحداث تاريخية، وإنما عبارة عن عرض مصفى [مشذب من التعقيدات] للقصص والشخصيات التي نصادفها طوال هذه الرحلة.
يبدأ فيلم " كوبايلوت" بقصة حب ساذج بين شابين حين كانت براعمه الأولى تتفتح. في صناعة الأفلام، يجب أن يكون خلو البال الذي لا يقف في وجهه أي عائق لشخص في أوائل العشرينيات من عمره ملموساً من خلال الألوان والمواقع: عن طريق رسمه بدرجات الباستيل اللونية المختلفة، أو ربما حتى بالنظر إليه عبر عدسات وردية، إضافة إلى جو جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة الذي كان لا يزال مخيماً [على ألمانيا] في التسعينيات. ويرمز العرض الدائري في بداية الفيلم لما سيأتي لاحقاً: عالم ريفي بسيط يكاد يكون خرافياً. هكذا كان الشاطئ الألماني هو المكان الذي تلتقي فيه التركية الألمانية آصلي مع اللبناني سعيد. يتسم هذا الجزء بالشباب، وهو مشرق بألوان فاتحة وخفيفة ونماذج هادئة، ما يجعله مناقضاً للألوان الأكثر قتامة وإشباعاً والأشكال المضطربة التي تسود في نهاية قصتهما.
كان من المهم بالنسبة لي ألا أمجد أو أحتفي بفترة التسعينيات من خلال تصميم الديكور أو الأزياء (كما يحصل غالباً في الأفلام التاريخية). لم أشأ أن أضحي بالشخصيتين الرئيستين والصراع الذي تنطويان عليه، بسبب خلفيات تقحم نفسها على الفيلم، أو أن أترك الديكور يحول الانتباه عن النقطة المركزية. مع ذلك، لم يكن من المفروض بفيلمنا أن يتبنى نهجاً واقعياً بحتاً، بل أن يأسر المشاهد بأدق التفاصيل، التي لا تدرك، تماماً مثل الطريقة التي يسحر بها سعيد آصلي. وخلافاً لأفلامي الأخرى، كان من المهم بالنسبة لي أن أتحكم بشدة بمظهر الصور، ولكن أن أتركها في الوقت نفسه تبدو غير مقيدة من خلال استخدام كاميرا محمولة باليد.
نشأت في عالمين متباينين، مثل شخصيتنا الرئيسة آصلي، وزوجها سعيد
أنا ترعرعت في عالمين مختلفين، مثل شخصيتنا الرئيسة آصلي، وزوجها سعيد. وبوصفي طفلة ذات أصول جزائرية نشأت في جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الآفلة)، أعرف طبيعة عملية التوازن بين نمط الحياة الغربي والثقافة الإسلامية.
كان والدي مسلماً فقط عندما يناسبه ذلك. وحين جاءنا زوار من الجزائر، كان القرآن الكريم يفتح وكنا نتلو الصلوات، فيما يصبح لحم الخنزير شيئاً منبوذاً. وجد والدي أن من الصعب عليه أن يمارس معتقداته الدينية في ألمانيا. فيلم "كوبايلوت" هو أيضاً قصة عن الصراعات التي تواجه مهاجرين من محيط ثقافي إسلامي، وتفاعلهما مع بعضهما بعضاً ومع الغرب، والطريقة التي تعبر فيها مشاعرهم عن نفسها.
يشعر كل من آصلي وسعيد في ألمانيا أنه غريب وفي وطنه، في وقت واحد. وكان من المهم بالنسبة لي أن أظهر مجموعة متنوعة من المسلمين في ألمانيا.
هكذا، تكون والدة آصلي محافظة بالمعنى التقليدي، ولكنها ليست محافظة في الطريقة التي تمارس بها دينها. وهذا فارق [تفصيل] غالباً ما يحظى بقدر قليل من الاهتمام في الجدال ذي العلاقة. وفي العادة، المحافظون يتبعون التقاليد أكثر مما يلتزمون بفرائض الدين. وعلى سبيل المثال، لا ترتدي آصلي، أو والدتها، حجاباً، غير أن أختها اختارت أن تلبس غطاء الرأس، بهدف الالتزام بدينها بدقة أكبر. ومع أن هذا الجانب لم يخضع للمعالجة بشكل صريح في الفيلم، فهو قد تم تضمينه كجانب عرضي.
من جهة أخرى، ينتمي سعيد إلى عائلة متحررة للغاية، وإذ يشعر بالغربة عند وصوله إلى ألمانيا، فهو يجد شعوراً بالألفة في الدين، ويبدأ بالاهتمام به أكثر فأكثر. وهو لا يناقش مع آصلي التغيير الذي كانت آراؤه تتعرض له. وهي تشعر بهذا التغيير، لكنها لا تحاول التحقق من ذلك، أو أنها تسعى إلى ذلك فقط بعد فوات الأوان. قد يبدو نزوع آصلي إلى تجنب المشاكل وكبت مشاعرها واحتياجاتها، وهو الأمر الذي يربك علاقاتها الاجتماعية مع عائلتها أو مع زوجها، غريباً بالنسبة للغربيين، إلا أنه يعد على نطاق واسع من متقضيات التهذيب في الثقافة العربية أو التركية.
وهذا أمر أعرفه حق المعرفة من البيت. فغالباً، ما تكون الحقيقة ليست هي المهمة، بل المهم هو الحفاظ على العلاقات الشخصية. يجب ألا تتعرض علاقات الزواج أو الصلات العائلية إلى الخطر أو الأذى، وهي تتمتع أحياناً بقيمة أرفع من قيمة احتياجات المرء الخاصة الفعلية.
من ناحية ثانية، تظهر المشاعر مثل الحزن والفرح والغضب، بشكل مباشر، وصاخب، وعلى الفور. لهذا السبب أردت أن يحتوي الفيلم على كثير من الكلام والصراخ والبكاء، بينما تتم مناقشة الاحتياجات باعتدال. ولقد كتبت المشهد الخاص بسعيد ووالديه في لبنان، وأخرجته، وذلك في ضوء تجربة أقربائي العرب وتجربتي. وفيه نشاهد زوجين في وضع استثنائي، وهما يتصرفان على نحو متهور من دون تفكير بطريقة يصعب تخيلها في أسرة ألمانية. من جهة أخرى، نرى آصلي وهي تكافح للتعامل مع تطرف حبيبها الأثير على قلبها. نلمس الصعوبة التي تواجهها في مشاركة مشاكلها مع والديها، أو مع سعيد، لخوفها أن يجعلها ذلك زوجة سيئة، أو ابنة عاقة أو كنة غير جيدة. ولا يقف فيلم "كوبايلوت" ساكناً على الإطلاق، فالشخصيات تتحرك من خلال عواطفها، التي تكبتها أو تتفاعل معها بطريقة صاخبة.
فآصلي كانت في عين العاصفة. وكان ثمة أمل في احتمال نجاحها في استباق الكارثة والقيام بشيء حيالها لو أنها بذلت جهداً حقيقياً لمعرفة ما يجري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما على مواطني العالم الغربي أن يتعلموا، مثل آصلي، عدم إشاحة النظر عما يحصل، وأن يعترفوا، سواء كان ذلك مؤلماً ام لا، أن ثمة خللاً ما، وأننا لا نطبق الديمقراطية بالشكل الأمثل، والإقرار بأن الانكفاء أحياناً إلى ما يشبه البقعة العمياء التي لا يعود بمقدورنا أن نلقي منها نظرة [شاملة] على المشهد العام والتمسك بما يبدو أنه سلام [راحة البال]، سيرتد على الدوام علينا.
سيتقدم التطرف في لحظة معينة إلى حد يصعب معه تحرير البعض منه. تشعر آصلي بذلك حين يعود سعيد بعد غياب. وتنصحها صديقتها أن تنفصل عنه، بيد أن آصلي تفعل العكس.
يقال في البوذية إن قدرة المرء على خلق كارما (العاقبة الأخلاقية) جيدة أو سيئة تعتمد على نوايا المرء خلال اللحظات المهمة. هكذا يتساءل المرء ما إذا كانت نوايا آصلي أنانية تتمحور حولها هي أم أنها ناجمة عن حبها لزوجها. ويفكر المرء مرة تلو أخرى بما إذا كان بوسعه أن يتعاطف معها أو ما إذا كانت نواياها أثبتت ذنبها [دانتها]. وهذا يعني أننا نميز بين أفعال اللاوعي والكبت الواعي إلى حد ما ونقيم هذه الأشياء بشكل مختلف.
وصلت آصلي في نهاية فيلمنا إلى لحظة ستتذكرها على الدوام وتفكر فيها طيلة حياتها... نعرف جميعاً لحظات كهذه.
مثلاً، قام الأوروبيون في مرحلة الاستعمار بعمل واعٍ جداً للتمكين، وقللوا من قيمة الناس في الدول المستعمرة حتى يستطيعوا أن يستأثروا بثرواتهم. نحن لا نزال نغطّ في نوم عميق على هذا الصعيد حالياً، لا بل إن الأمر هو أكثر من ذلك بكثير، إذ إننا قمنا بإعادة رسم معالم ذنبنا للحط من شأن الآخرين، أو حتى من أجل إلحاق أذى مدمر بهم بغرض مراكمة الثروات. تمثل القوة هنا عنصراً أساسياً.
لم تكن آصلي تتمتع منذ اللحظة الأولى بأي قدر من القوة الملموسة التي يمكنها أن تحافظ عليها أو تطورها. والقيمة التي تستمدها من عدم رؤيتها الحقائق، يمكن العثور عليها على مستوى عاطفي، فهي لا تؤذي الآخرين بشكل واعٍ. وأنا تعمدت عدم الاستفاضة في الحديث عما إذا كانت هي حقاً تعلم، أو يمكن لها أن تعلم، ما كان سعيد يفعل من خلف ظهرها.
وبدلاً من ذلك، انطلقت لصناعة فيلم عن الدراما الإنسانية التي تتكشف حين تجبر على مشاهدة من تحب، وهو يتحول إلى شخص غريب، والذي يهمني بشكل خاص هو الطريقة التي تتعامل بها آصلي مع الشكوك التي تشغل بالها، فهي تعلم أن سعيد يخطط للقيام بشيء ما من وراء ظهرها، غير أنها لا تذهب إلا إلى أبعد من حد معين في مواجهته. فهي تحبه، وتشعر أنها إن حاولت التعمق أكثر فإن هذا من شأنه أن يطيح علاقتهما. وتبقى آصلي صامتة للحفاظ على حبهما. وهي لا تدافع عما تريده. إنها لا تفصح بصوت عالٍ عما تفكر فيه، لكنها تتصرف في الخلفية لأن هذه طبيعتها من جهة، ولأنها قد تعلمت أن تسلك على هذا النحو، من جهة أخرى.
إنها شخصية تتسم أفعالها بالسلبية. والسلبية في شخصية رئيسة أمر محظور في كتابة السيناريو. وكان هذا نوعاً من التحدي للممثلة كانان كير التي أدت دور آصلي، وأيضاً لكاتبة السيناريو مصراحي، ولي أيضاً، في سياق تصوير آليات الكبت من دون تقديم شخصيتها كامرأة جاهلة أو ساذجة. لقد زودنا آصلي بسمات الطموح والذكاء. وهي أنجزت الكثير مقارنة بخلفيتها العائلية. تعيش والدتها وأختها حياة لا علاقة لها بحياتها، وكان عليها أن تكافح بعناد من أجل أن تحظى بنمط الحياة الذي اختارته لنفسها. وبالنسبة لي، فإن آصلي شخصية قوية، حتى لو كانت لا تظهر القوة في إطار العلاقات الشخصية. ولقد صنعنا المشاهد التي تجمع بين آصلي وأمها من أجل إظهار مدى الحب الذي تكنه كل منهما للأخرى، لكنها لا تستطيع معارضة أمها المتسلطة، على الأقل ليس بشكل مباشر، تماماً كما هو الحال في علاقتها بسعيد. وهي تتابع أهدافها من خلف ظهر أمها [بالمخفي عنها] حتى لا تعرض علاقتهما للخطر. ولم تتعلم آصلي قط كيف تقاوم الهيمنة.
بالنسبة لي، يدور فيلم "كوبايلوت" حول امرأة تدرك، ولكن بعد فوات الأوان، أنه كان يمكنها أن تتصرف بطريقة أكثر انعتاقاً. وآمل أن ينجح في إثارة رغبة المشاهدين في أن يهزوا آصلي كي يوقظوها ويقولوا لها: حدثي سعيد، اطرحي المزيد من الأسئلة، لا تكوني راضية بما سيقوله لك. حرري نفسك، وأطيعي قلبك [اسمعي لصوته]، حتى ولو كان هناك ثمن يجب دفعه لقاء ذلك.
وصلت آصلي في نهاية الفيلم إلى لحظة ستتذكرها على الدوام وتفكر فيها طيلة حياتها. نحن جميعاً نعرف لحظات من هذا النوع. وإذا نظرنا إلى الخلف نسأل أنفسنا لماذا تصرفنا بالطريقة التي تصرفنا بها؟ هل كان ذلك بالفعل تصرفاً غير واعٍ، أو أنه كان شيئاً حدث لنا هكذا، أم كان هناك لحظة لإدراك الحقائق. هل قمنا بكبت تلك اللحظة، وتعمدنا أن نشيح بوجوهنا عنها؟ هذه هي اللحظة التي نريد فيها التراجع عن شيء، لكننا لا نستطيع. هذه مسألة التواطؤ التي سيتردد صداها إلى الأبد في آصلي.
أريد أن أصنع أفلاماً لا تنتهي بالإجابات، لكنها تقدم أسئلة غير سهلة للمشاهدين، وسيجيب عنها الجميع بشكل مختلف. يطرح فيلم "كوبايلوت" السؤال التالي: هل الشخص مذنب إذا لم يرغب في الاعتراف بالحقيقة، أو لم يواجه عواقبها أو تجاهلها عمداً؟ ما ذنب آصلي إذا تصرفت باسم الحب وتصرفت فقط بما يتفق مع كل ما تعلمته؟
© The Independent