Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المنشق الأكبر عن بلاد السوفيات والخيبة المتبادلة مع الغرب

سولجنتسين يكشف في "خطاب هارفارد" عن عداء للعالم الرأسمالي فاق عداءه لسياسات الكرملين

ألكسندر سولجنتسين (1918 – 1998) (أ.ف.ب)

"ربما يكون انحطاط الشجاعة واحداً من السمات الأكثر بروزاً في الغرب اليوم (...) فالعالم الغربي فقد شجاعته المدنية في مجموعه كما بشكل إفرادي في كل بلد من بلدانه كما لدى كل حكومة من حكوماته في الوقت نفسه؛ وفي منظمة الأمم المتحدة بشكل عام. وهذا الافتقار إلى الشجاعة يمكن تلمسه بشكل خاص لدى الطبقات الحاكمة، ولكن كذلك لدى الشرائح المثقفة المهيمنة ما يعطي انطباعاً بأن الشجاعة قد هجرت المجتمع بأسره. من المؤكد أنه لا يزال ثمة قدر كبير من الشجاعة الفردية، لكن هؤلاء الشجعان الأفراد ليسوا هم من يقود حياة المجتمع. أما الموظفون في عالم السياسة والموجهون في عالم الثقافة فإنهم هم من يظهرون هذا الانحطاط ويبدون الضعف واللا قرار في أفعالهم وخطبهم، وأكثر من هذا في الاعتبارات النظرية التي يلجأون إليها للبرهنة على أن أسلوبهم هذا في التصرف الذي يقيم سياسة الدولة على قاعدة الجبن والعبودية، إنما هو أسلوب براغماتي، عقلاني ومبرر على المستوى الذهني وحتى الأخلاقي الذي يموضعونه عليه...". قائل هذا الكلام الذي ينم عن خيبة شديدة وغضب أشد وربما سخرية لئيمة أيضاً، ليس الرئيس الأوكراني الشاب الذي يقود في أيامنا هذه حرب بلاده دفاعاً ضد الهجوم الروسي عليها، وكان يمكن له على أية حال أن يقول هذا الكلام نفسه بحذافيره طوال الشهرين الفائتين، وهو الذي قال ما يشبهه على أية حال عشرات المرات وفي خطب أوصلها إلى محافل الغرب الذي هو المعني بمثل هذا الكلام. بيد أن المعبر بهذه الصيغة الأدبية الرفيعة والحافلة بالمرارة إنما هو سلف في الغضب للرئيس الأوكراني أتى من روسيا هذه المرة. وهو قاله قبل أكثر من ثلث قرن من الآن في عام 1987 حين كان من الصعب على أحد أن يوافقه على هذا التوصيف للغرب.

خيبة الحليف

طبعاً اليوم، أمام قسوة الحرب الروسية على أوكرانيا ودمار هذا البلد والنفاق البين الذي يعامل به الغرب، أميركياً كان أو أوروبياً، القضية الأوكرانية، وأمام فروغ صبر الرئيس الأوكراني، يشاطر كثر من الناس ما يقوله هذا الحليف الخائب للغرب، ولكن قبل ثلث قرن من الآن كان من الصعب على أحد، ليس فقط أن يوافق قائل هذه العبارات على ما يقول، بل أن يصدق أن الأمور وصلت بألكسندر سولجنتسين، المعتبر حينها كبير المنشقين السوفيات في زمن كان فيه الانشقاق عن الاتحاد السوفياتي عملة رائجة وسلاحاً فعالاً في الصراع الأيديولوجي بين الكتلة الشرقية "الاشتراكية" و"عالم الغرب الحر" كما كانا يسميان. في ذلك الحين كان الغرب لا يزال يعتبر أملاً، ولا سيما بالنسبة إلى ألوف المثقفين والمبدعين في بلدان "ما وراء الستار الحديدي" لإنقاذهم من الستالينية التي ظلت تحاصرهم وتدمر حياتهم وتقبض على أنفاسهم حتى بعد عقود طويلة من رحيل ستالين. في ذلك الحين إذاً، بدا كلام سولجنتسين مباغتاً بالنسبة إلى كثر، وبخاصة أنه أطلقه في خطاب ألقاه في جامعة هارفارد الأميركية بعد سنوات من مبارحته وطنه الروسي ودائماً بفضل الغرب الذي مارس على موسكو ضغوطاً هائلة كي يمكنه من الخروج. وكانت كتاباته التي شبهت بكتابات تولستوي، واستخدمت في الغرب نفسه لـ"فضح" الممارسات السلطوية في بلد "الاشتراكية الأم"، كانت قد سبقته وبالتالي كان من المتوقع أمام نجاحيه السياسي والأدبي الكبيرين، أن يجعل سولجنتسين من نفسه بوقاً للغرب يشد أزره في صراعاته ويلهج بالثناء عليه ويدعمه فكرياً وسياسياً، لكن صاحب "أرخبيل الغولاغ" و"جناح السرطان" سرعان ما اكتشف تلك الحقيقة التي كانت غائبة عنه وهو داخل سجنه السوفياتي الكبير. اكتشف أنه ليس سوى بيدق في لعبة شطرنج تقودها سياسات الغربيين تبعاً لمصالحها السياسية لا أكثر وبصرف النظر عن قيمته ككاتب. ومن هنا كان ذلك الخطاب الاتهامي الذي بدا مذهلاً مع أن المراقبين من كثب كانوا قد توقعوه منذ حطت قدما سولجنتسين في الغرب.

...كانت الحقائق غائبة

فهذا الكاتب الذي لا شك أنه كان صاحب واحدة من أعظم المواهب الأدبية التي بارحت بلاد الموسكوب منشقة، كان قد بدأ يكتشف وهو في الغرب، تلك الحقائق التي كانت غائبة عنه، وهكذا، ملاحظة بعد ملاحظة وتصريحاً بعد تصريح راح يصعد مواقفه حتى كان ذلك الانفجار الكبير في خطاب جامعة هارفارد يوم 8 يونيو (حزيران) عام 1987 حيث عمد للمرة الأولى وبكل صراحة وعنف إلى إدانة المنظومتين الاشتراكية والرأسمالية واضعاً إياهما على قدم المساواة، كاشفاً من خلال ذلك عن حقيقة ما سماه "السقوط المدوي للبعد الروحي في الحضارة الحديثة" مهما كان توجهها. ولعل ذلك الخطاب كان الشعرة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى قطاعات عريضة من الرأي العام المثقف في الغرب، مثلجة في الوقت نفسه صدور كثر من الذين كانوا أبدوا تجاهه حذراً، بل عداء كبيراً منذ البداية، معتبرين أنه سيكون مزعجاً للغرب في نهاية المطاف بقدر ما هو مزعج لموسكو، بل إن حصوله على الحرية في منفاه الغربي، سوف يريح موسكو التي ستنظر حينها إلى نفيه كــ"هدية مسمومة" يحصل عليها الغرب. والحقيقة أن هذا ما حصل بالفعل. وحتى لسنوات قبل خطاب هارفارد.

مدافع عن النازية!

وذلك ما كانت تنبأت به على أية حال الصحافة السوفياتية التي شنت عليه هجوماً واسعاً عند بدايات عام 1974، معلنة أنه "خائن لبلاده ومدافع عن النازية" بسبب توالي نشر رواياته المهربة إلى خارج الاتحاد السوفياتي، وهي الروايات التي كانت منحته جائزة نوبل قبل ذلك بأربعة أعوام ما افتتح الصراع بينه وبين سلطات بلاده. ومن الواضح أن صدور جزأي روايته الكبرى "أرخبيل الغولاغ" في باريس ولكن بالروسية كان هو ما جدد حينها الهجوم عليه وكان هجوماً أفضى إلى طرده من البلاد محروماً من جنسيته، حيث توجه إلى زيوريخ في البداية. ومن هناك انطلق في معركته الجديدة، ولكن ضد الغرب وقيمه هذه المرة، وإن بشيء من "الخجل". لكنه في العام التالي وإذ دعاه مجلس الشيوخ الأميركي للتحدث إلى العالم من على منصته، كانت دهشة الأميركيين كبيرة حين أعلن أمام العالم كله عن إيمانه بالأمة السلافية والمذهب المسيحي الأرثوذكسي كقيمتين مناهضتين للكوزموبوليتية الغربية "الكريهة". ولقد كانت الصحافة الفرنسية يومها من بدأ الهجوم المضاد عليه، ولو بشكل خجول إذ وصفته بأنه "محافظ"، فيما تحدثت عنه الصحافة اليسارية بكونه "رجعياً" بل وصل بعضها إلى ذكر شيء من الفاشية في مواقفه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

... وضد الثورة الفرنسية

ولقد تلا ذلك نزوحه إلى الولايات المتحدة وصدور روايته "العجلة الحمراء" التي أوصلت انشقاقه الأدبي إلى ذروته، ولكن بعد حين لم تلبث موسكو أن أصدرت للمرة الأولى وفي عهد غورباتشيف وسياسته الانفتاحية، طبعة من "أرخبيل الغولاغ" وراح نقاد روس يحيون أدب صاحبها معتبرين إياه "الرجل الذي كان ولا يزال على حق". وبدا من الواضح أن الفرنسيين لم يتمكنوا من أن يهضموا ما يدور من حول الرجل، وهو أوصل حنق الفرنسيين إلى ذروته على أية حال في خريف عام 1993 حين دعاه نائب يميني فرنسي متطرف إلى منطقته الانتخابية في منطقة "الفانديه" كي يشارك في افتتاح متحف تذكاري لشهداء المنطقة المعروفة بالقتلى الكثر الذين سقطوا من أبنائها إبان الثورة الفرنسية، حين تصدوا للثوار من منطلق مناصرتهم الملكية. ما يجعل "الفانديه" تعتبر المنطقة الأكثر كاثوليكية ورجعية في فرنسا منذ ذلك الحين. يومها لم يكتفِ سولجنتسين بتلبية الدعوة، بل ألقى للمناسبة خطاباً رجعياً عنيفاً شبه خلاله ثورة أهل "الفانديه" بانتفاضة الروس البيض ضد الثورة البلشفية، معتبراً الثورة الفرنسية "وصمة عار في جبين الشعب الفرنسي". وكان هذا أكثر مما يحتمل الفرنسيون بالطبع.

شرط ألا يتكلم في السياسة

ولكن كان من حسن حظ سولجنتسين حينها أن الاتحاد السوفياتي كان قد انتهى فعاد هو إلى بلاده وقد بات من المتاح له أن يتكلم في السياسة كما يشاء. وهو تكلم فيها كثيراً بين عام 1994 الذي عاش فيه معززاً مكرماً في بلاده، حتى عام رحيله (1998) عن 89 سنة في وقت كان الغرب كله قد بدأ ينساه كمتكلم رجعي بل فاشي شوفيني في السياسة، وإن كان قد بقي على تقديره كأديب يمكن اعتباره من كبار الكتاب الذين أنجبتهم البلاد الروسية في القرن العشرين "شرط ألا يتكلم في السياسة" كما قال ناقد فرنسي... ممازحاً!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة