أُعلن أمس فوز الفنان المصري محمد عبلة بجائزة غوته الألماني لعام 2022، وهو أرفع وسام رسمي تُقدمه سنوياً ألمانيا، ويُمنح لأصحاب التجارب العالمية المميزة التي أثرت الثقافة الإنسانية بتجارب مهمة، ولها علاقة بالتبادل الفكري والأدبي والفني مع الثقافة الألمانية المنفتحة على العالم. وجاء في حيثيات استحقاق عبلة لهذا الوسام طبيعة أن تجربته الفنية تُعد جسراً بين الشرق والغرب، وتجسد تعبيراً مميزاً عن ثقافته المصرية والعربية، وإيمانه كذلك بأن الفنان يحمل مسؤولية اجتماعية لا يمكن فصلها عن ممارسته الإبداعية... وهو ما ينعكس على أعمال عبلة وتجاربه الفنية على نحو واضح.
محمد عبلة هو أول فنان عربي يحصل على هذا الوسام، وقد حصل عليه منذ عام 1954 أكثر من ثلاثمئة شخصية عالمية، من بينهم أسماء من العالم العربي هم الشاعر السوري أدونيس، والشاعر اللبناني فؤاد رفقة، وأستاذ الفلسفة والمترجم المصري عبد الغفار مكاوي. ومن المقرر أن يتسلم عبلة هذا الوسام الرفيع في حفلة تنظم في الثامن والعشرين من أغسطس (آب) المقبل، والذي يوافق ميلاد الفيلسوف الألماني غوته. ويعد عبلة واحداً من الفنانين المصريين البارزين، وتمثل أعماله انعكاساً لانغماسه التام في الثقافة المحلية، وقد نجح بالفعل في تطوير لغة فنية خاصة ساعدته على التعبير عن رؤيته للمجتمع والعالم من حوله.
الفن وعلم النفس
تخرج محمد عبلة في قسم الرسم في كلية الفنون الجميلة - الإسكندرية عام 1977، وتعلم النحت والحفر في سويسرا، ودرس علم النفس في النمسا، وهو مُحب للفوتوغرافيا ويوظفها في أعماله. بعد أن انتهى من الدراسة في كلية الفنون الجميلة في مصر ذهب ضمن منحة إلى إسبانيا لاستكمال دراسته العُليا في الرسم. حين ذهب عبلة إلى إسبانيا فوجئ بأنه سيعيد من جديد كل ما درسه في مصر، فترك المنحة على الفور وتوجه إلى النمسا لدراسة فن الحفر، فهو لم يكن يريد الحصول على شهادة أو درجة علمية، بقدر ما كان يرغب في أن يتعلم شيئاً جديداً ومختلفاً عما درسه من قبل.
في سعيه إلى تعلم أمور جديدة اتجه الفنان عبلة إلى دراسة علم النفس والتحق بمعهد يونغ في سويسرا لمدة عام، واختار التخصص في مجال العلاج بالفن. بعد انتهائه من الدراسة افتتح عيادة متخصصة في هذا المجال، بالتعاون مع طبيبة مسؤولة عن تشخيص الحالات. استمر العمل في هذه العيادة قرابة عام ونصف، وكانت من أولى التجارب في هذا المجال في مدينة زيوريخ. أضافت له هذه التجربة الكثير، فهو بات أكثر وعياً كما يقول، برمزية اللون وتأثير الألوان في النفس البشرية، وجعلته يلتفت إلى فكرة الرموز. كانت تجربة مفيدة أيضاً على مستوى الممارسة الفنية، فقد أصبح أميل إلى الاختزال والتلخيص.
جماليات الصورة
المتأمل في أعمال الفنان محمد عبلة يدرك جيداً أن لها علاقة وثيقة بالفوتوغرافيا، فهي من المكونات الرئيسة في تجربته. يوظف عبلة الصورة الفوتوغرافية في أعماله ويستعين بها كوسيط بالغ التعبير والمباشرة عن رؤيته وأفكاره. وإلى جانب هذا التوظيف اللافت للفوتوغرافيا في أعماله، خاض عبلة مغامرات وتجارب إبداعية متعددة. من هذه التجارب التي خاضها الفنان تبرز تجربته مع المنمنمات الإسلامية والرسوم القديمة. ودفعته هذه التجربة مع المنمنمات الإسلامية إلى تعلم تقنيات جديدة، واكتشاف مناطق مختلفة، فالفن بحسب رأيه، هو سلسلة ممتدة ومتواصلة ومرتبطة بعضاً ببعض، وغالباً ما يميل الفنان إلى الاستناد إلى شيء ما في الواقع الحالي أو التاريخي. هو يحب الواقع ويستند إليه، كما يحب دائماً أن تكون لديه مرجعية ما.
من بين هذه المرجعيات الملهمة التي يلجأ إليها محمد عبلة يبرز انشغاله بالصور القديمة. أقام الفنان معرضين سابقين استلهمهما من الصور الفوتوغرافية القديمة، وهما "نوستالجيا" و "العائلة". عمل عبلة على هذين المشروعين في أعقاب فترة كان يشعر خلالها بأنه غير قادر على التعايش مع العالم، كما يقول. كان ذلك خلال العقد الأول من الألفية، حين برز اهتمامه بجمع الصور الفوتوغرافية القديمة من مصر. كان كل تركيزه حينها منصباً على صورة الطبقة الوسطى؛ هذه الطبقة التي طالما حملت روح مصر وعبقها الحقيقيين خلال النصف الأول من القرن الماضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من بين التجارب البارزة في مسيرة عبلة، والتي كان لها ارتباط وثيق بقناعاته حول طبيعة الفن ودوره الاجتماعي، تأتي مشاركته في تجميل "حي كوم غراب"، وهو من المناطق العشوائية الكائنة في قلب القاهرة القديمة. كان لهذا المشروع دور في الحيلولة دون إزالة الإدارة المحلية، لهذا الحي العشوائي، بعد أن تم تحويل واجهات البيوت إلى مساحات ملونة ومزينة بالرسوم، وبعدما كان مصدراً للتشوه تحول إلى محط أنظار الصحف ووسائل الإعلام المحلية والدولية.
ينظر عبلة إلى هذه التجربة اليوم كواحدة من التجارب المُلهمة، فالفن في رأيه لا بُد أن يكون له هدف، ومن الأهمية أن يكون قادراً على اختراق مناطق الخلل والأزمات، كما يجب أن يطرح تصوراً أو حلاً أو أملاً للناس.
لامست هذه التجربة بلا شك جانباً من قناعات الفنان الشخصية ورؤيته إلى مفهوم الممارسة الفنية، فهو دائم الانشغال بالناس والمحيط العام. هو يؤمن أن النهضة الحقيقية يجب أن تدفع الناس إلى حب المكان الذي يعيشون فيه، حينها سيشعرون بأهميتهم ووجودهم كما يقول. فأهم دور للفن يتمثل في قدرته على اكتشاف مناطق الجمال واختراقه لجوانب الخلل والقبح.