على بعد 23 كيلو متراً غرب السماوة، تتوسط بحيرة رائعة الجمال كواحدة من العجائب في العراق البلد الذي مزقته الأزمات. تشكلت هذه البحيرة منذ آلاف السنين وسط الصحراء القاحلة من دون مصدر للمياه الواضحة للعيان، معتمدة على ما يصلها من تشققات التربة الداخلية من المياه الجوفية التي تتمتع بها المنطقة.
وعلى الرغم من أن البحيرة تعد من البحيرات المالحة، إلا أن منظرها وسط الصحراء واحتواءها على أسماك نادرة، جعلها من عجائب البحيرات، وملاذاً للثروة السمكية والطيور المهاجرة، لتشكل معلماً سياحياً في المدينة.
وعلى الرغم من أهمية البحيرة السياحية والطبيعية، غير أنها لم تلق الاهتمام الكبير سوى بعض المحاولات في فترة زمنية سابقة من خلال إنشاء بعض الشقق السياحية ولا تزال إطلالتها شاخصة إلى الآن.
الآبار السبب
ويبدو أن أزمة الجفاف التي ضربت المنطقة والعراق على وجه الخصوص وتوسع المحافظة في المجال الزراعي، كلها أسباب جعلت البحيرة تفقد رونقها وتميزها بعد أن فقدت المصدر الرئيس الذي يغذيها من المياه الجوفية، التي استُنزفت عبر مئات الآبار المحفورة من قبل المستثمرين الذين أنشأوا مزارع بالقرب من البحيرة، ما أفقدها موردها المائي وباتت عبارة عن واحة وسط الصحراء بعد أن كانت بحيرة عامرة.
ولعل إظهار صور البحيرة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بعد الجفاف وحجم الكارثة التي تعرضت لها البحيرة، رفع الصوت المطالب بإعادة إحياء البحيرة، وإعطائها الاهتمام الذي تستحق.
منظومات الري
وكشفت وزارة الموارد المائية في بيان سبب نضوب مياه البحيرة، وهو إدخال عدد من المستثمرين في الأراضي الزراعية منظومات ري غير مجازة، من دون أخذ الموافقات الرسمية من هيئة المياه الجوفية.
وقال بيان الوزارة "تم رصد أكثر من 1000 بئر نصبت عليها مضخات تعمل بإنتاجيات عالية تصل إلى 25 ليتراً في الثانية".
وبينت الوزارة أن "المزارعين هناك استخدموا الري التقليدي (السيح)، وامتصوا كميات وفيرة من الآبار التي تقع في مسار التغذية لبحيرة ساوة".
وأشار إلى أن التغيرات المناخية التي يشهدها العراق من ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار كانت سبباً آخر في انخفاض مناسيب مياه البحيرة.
لا نؤيد الزراعة بمساحات
وأعلنت الوزارة عدم تأييدها الاستثمار الزراعي بهذه المساحات الكبيرة، وذلك لمحدودية المخزون الجوفي، مؤكدة أن هدفها هو الحفاظ على هذا المخزون الاستراتيجي المهم، وحسب الأولويات لأغراض الشرب وعدم استخدامه بزراعة الأراضي وبمساحات كبيرة.
ووفق وزارة الموارد المائية، فإن بحيرة ساوة هي عبارة عن مسطح مائي ضحل مغلق يتغذى بصورة رئيسة من المياه الجوفية عن طريق الفوالق والتكسرات أسفل البحيرة (فالق أبو جير وفالق السماوة)، التي تخترق طبقات عدة، وتقع أسفل البحيرة، وتتغذى تلك الطبقات من طريق الجريان تحت السطحي من المناطق الحدودية في الغرب نحو الشرق.
ومنذ إعلان محافظة المثنى عاصمة الزراعة العراقية سنة 2014، بدأت محافظة المثنى بتشجيع الاستثمار الزراعي، إذ قامت دائرة الزراعة في المحافظة بمنح عقود زراعية بملايين الدونمات.
الجفاف يضرب الرزازة
وفي وسط العراق عند حدود محافظتي كربلاء والأنبار، تقع بحيرة الرزازة التي أنشئت في العهد العثماني بمساحة تقدر بـ1810 كيلو مترات مربعة وبسعة مخزون تصل إلى 26 مليار متر مكعب، ما يجعلها من البحيرات المهمة في العراق. وكان الهدف من إنشائها درء خطر الفيضان.
وكانت البحيرة خلال العقود الماضية مصدراً مهماً للثروة السمكية إضافة إلى تنوعها البيئي، ومعلماً سياحياً مهماً قبل أن تزداد نسبة الملوحة فيها بشكل كبير، ما أدى إلى نفوق عدد كبير من الأسماك نتيجة قلة المياه المتدفقة نحو البحيرة من نهر الفرات.
وبحسب المتحدث باسم وزارة الموارد المائية علي راضي فإن "بحيرة الرزازة تعاني من الجفاف وملوحة المياه ما تسبب بنفوق أعداد كبيرة من أسماكها، عازياً السبب بعدم مدها بالمياه منذ سنوات نتيجة مواسم الجفاف المتتالية في البلاد، وقلة الحصص المائية الواردة من دول الجوار".
وبين أن "تغذيتها بالمياه سابقاً كانت لا تتم إلا في حالة فيضان نهر الفرات أو في حال ارتفاع مناسيب بحيرة الحبانية بشكل كبير خلال موسم الوفرة المائية"، كاشفاً عن خطة كانت أعدتها الوزارة لإحيائها، غير أن الشح المائي أوقفها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حمرين تعاني
ويبدو أن أزمة الجفاف لم تؤثر فقط على البحيرات ذات المياه المالحة، التي تُعد مصدراً للثروة السمكية إضافة إلى كونها معلماً سياحياً، وإنما انسحب هذا التأثير على البحيرات التي تُعد مصدراً مهماً لتخزين المياه للاستخدامات اليومية والزراعة.
فبحيرة حمرين التي تُعد من أهم البحيرات التي يعتمد عليها سكان محافظة ديالى شرق العراق، التي يبلغ مخزونها المائي أكثر من ملياري متر مكعب، وتعد المصدر المهم لري المزروعات وتأمين المياه الصالحة للشرب، وهي تتغذى من روافد عدة غالبيتها تأتي من إيران وباتت معرضة للجفاف بعد أن قطعت الأخيرة تلك الروافد وغيرت مسارها إلى داخل الأراضي الإيرانية.
الأمطار لم تعزز الخزين
وأكدت مديرية الموارد المائية في محافظة ديالى، أن أمطار العام الحالي لم تعزز المخزون المائي لبحيرة حمرين، فيما كشفت عن تطبيق إجراءات ومشاريع لمعالجة قلة الأمطار وواردات المياه.
وقال معاون مدير الموارد المائية في ديالى قاسم يحيى حمود في تصريح صحافي، إن "شح المياه لا يزال مستمراً في ديالى للعام الثاني نتيجة قلة الأمطار والغطاء الثلجي، إضافة إلى انعدام الواردات من خارج العراق التي تمثل 80 في المئة من نسبة المخزون المائي لبحيرة حمرين، بينما تشكل العيون والينابيع نسبة 20 في المئة المتبقية".
وأضاف أن "أمطار العام الحالي لم تكن مؤثرة ولم تعزز المخزون المائي الذي نسبته حالياً في حوض حمرين أقل من 10 في المئة من مقدار المخزون الاعتيادي البالغ مليارين و431 مليون متر مكعب. وفي عام 2019 وصل مخزون بحيرة حمرين من المياه إلى مليارين و700 مليون متر مكعب".
تخفيض الاستهلاك
وتابع أن "الموارد المائية اتخذت قراراً بتخفيض الاستهلاك بسبب انعدام الواردات المائية للبحيرة واستخدام التخزين المائي فيها، وشمل تخفيض التصاريف المطلقة، وأن يكون الاستهلاك للضرورة القصوى لتغطية الاحتياجات الأساسية مثل مياه الشرب وري البساتين".
عودة الحياة تحتاج سنوات
ويقول مستشار وزارة الموارد المائية عون ذياب، إن عودة الحياة لبحيرة ساوة تحتاج إلى عدد كبير من السنوات، فيما أشار إلى أنه سيتم إيجاد حلول لبحيرة الرزازة لاستمرار الحياة البحرية فيها.
وأضاف ذياب لـ"اندبندنت عربية"، "محافظة المثنى لُقبت بعاصمة العراق الزراعية، وقام مستثمرون بحفر آبار عميقة وصلت 250 متراً ما أدى إلى استنزاف حاد للمياه الجوفية المغذية للبحيرة في المنطقة المحيطة بمنطقة ساوة".
سنوقف التجاوزات
ولفت إلى أن الأمطار في صحراء السماوة كانت محدودة ما أسهم في جفاف البحيرة، قائلاً "سنقوم بحملة لإيقاف التجاوزات وسنحاسب المسؤولين عن إعطاء الموافقات للحؤول دون مزيد من التدهور".
وأعرب عن أمله في أن تحمل السنوات المقبلة أمطاراً لعودة الحياة مجدداً للبحيرة، وتابع "نحتاج لأعداد سنوات هائلة لإرجاع البحيرة إلى ما كانت عليه، إذ إن ما تبقى عبارة عن واحة بعد أن كانت بحيرة كبيرة".
حمرين بانتظار الأمطار
وعن بحيرة حمرين ونقص المياه فيها، بين ذياب "أنها بحيرة صناعية ممكن إعادة المياه لها في حال تساقط الأمطار، فهي تعرضت للجفاف بسبب قلة الأمطار وكذلك قطع روافد الأنهر، ومن الممكن عودة البحيرة إلى سابق عهدها عند حدوث فيضانات".
مياه البزل
وأضاف ذياب "أما الرزازة منخفض مغلق للتخزين، وضمن الدراسة الاستراتيجية، فإن استخدامها لتوجيه مياه الفيضانات وإن مياهها مالحة غير صالحة للري، ومنذ سنوات لم نحول المياه لها لعدم وجود مياه فائضة".
وعن إمكانية إحيائها من جديد، قال ذياب "الجزء القريب من كربلاء ستحول له مياه البزل في محافظة كربلاء، وسيكون تدفق المياه بشكل مستمر، وبعض الأحيان تأتي مياه من الصحراء الغربية نتيجة حدوث سيول ما يزيد من منسوب البحيرة".
وأكد أن نقص المياه ليس له تأثير إلا على الحياة البحرية، لا سيما السمكية.
فقدان التنوع البيولوجي
اعتبر عمر الشيخلي المتخصص بعلوم الأحياء، المدير الفني لمنظمة المناخ الأخضر، أن فقدان بحيرة ساوة هو فقدان أهم مصدر للتنوع البيولوجي.
وأضاف "أن بحيرة ساوة هي منطقة مهمة في وسط العراق، وتعد بؤرة للتنوع البيولوجي. وفقد العراق أحد التزاماته الدولية لأن التنوع البيولوجي فيها أدخلها في اتفاقية رامسر للأراضي الرطبة، وفقدانها يعني فقدان السلسلة البيولوجية".
وأضاف أن البحيرة تضم أنواعاً مهمة من الطيور مثل طائر الحبارى الذي يهاجر من كازاخستان وروسيا إلى الصحراء العراقية. وتعد منطقة لهجرة الجوارح من روسيا وسيبيريا باتجاه المنطقة، وفيها أعداد من الطيور المهاجرة، فضلاً عن تنوع الأسماك النادرة في تلك البحيرة.
العراق في منطقة الخطر
وأشار إلى أن بقية البحيرات المهددة بالجفاف تجعل العراق في منطقة الخطر وخسارة للمسطحات المائية.
بدوره، وصف الناشط البيئي مهدي ليث جفاف بحيرات في العراق بـ"الكارثة البيئية"، لا سيما وأن بعضها دخل على لائحة التراث العالمي.
وأضاف "بعض هذه البحيرات كانت تعتاش على تفرعات نهري دجلة والفرات، التي تضم تنوعاً أحيائياً مهماً وحاضنة للطيور المهاجرة والحيوانات المهددة بالانقراض".
وأشار إلى أن جفاف هذه البحيرات كارثة طبيعية، لا سيما أن بعضها دخل لائحة التراث العالمي.
ولفت إلى أن بحيرة ساوة موجودة منذ عشرات آلاف السنين، وهي معجرة في وسط الصحراء، لكن جفت بسبب التغير المناخي والإهمال الحكومي، وستتحول إلى مكب للنفايات فضلاً عن فقدانها للتنوع الإحيائي.
ندرة الأسماك
يبين رئيس الجمعية الوطنية لمنتجي الأسماك إياد الطالبي "أن بحيرة الرزازة تضم أنواعاً مهمة من الأسماك مثل البني والشبوط والكطان والبيز، وأن هذه الأسماك باتت نادرة وأسعارها عالية لندرتها لأنها تعيش في المياه المالحة".
وأشار إلى أنه في العقود الماضية كانت مصدر رزق للصيادين، لا سيما بحيرة الرزازة، إلا أن الأسماك باتت قليلة في البحيرة بسبب نسبة الملوحة العالية.
وازدادت أزمة المياه في العراق خلال السنوات الماضية مع تراجع معدلات هطول الأمطار، وقلة مناسيب المياه من دول الجوار التي تمد نهري دجلة والفرات بالمياه، ما أدى إلى تفاقم الجفاف، إلى أن بات العراق البلد "الخامس في العالم" الأكثر تأثراً بالتغير المناخي، بحسب الأمم المتحدة.