Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نيران الفتنة... حرق الكتب المقدسة بين حرية التعبير وخطاب الكراهية

تكرار الحوادث والعنف المرتبط بها جعل الأمم المتحدة تدين هذه التصرفات باعتبارها "تحريضاً"

المعاقبة على هذه الأفعال يعتمد على قوانين الدول بحدّ ذاتها (أ ف ب)

للمرة الثانية خلال عامين، تندلع أعمال عنف في السويد بسبب تهديد أو إقدام عناصر من اليمين المتطرف على حرق نسخة من القرآن. فالأسبوع الماضي، هزّت سلسلة من أعمال الشغب العنيفة مدناً سويدية عدة احتجاجاً على تجمعات كانت مقررة لحركة "سترام كورس" (الخط المتشدد)، التي يتزعمها السياسي الدانماركي السويدي راسموس بالودان المعروف بعدائه للإسلام، إذ أعلنت الحركة عن خطة لحرق نسخ من القرآن في مدينة مالمو.

لم تكُن هذه المرة الأولى التي يقدم فيها أنصار بالودان، الذي  أحرق بالفعل نسخة من القرآن في لينشوبينغ (جنوب البلاد) قبل أسبوع، على إحراق نسخ من كتاب المسلمين المقدس. ففي أغسطس (آب) 2020، اندلعت احتجاجات عنيفة في مالمو بعد أن أجج فعل مماثل غضب المسلمين في أنحاء السويد، ما دفع محكمة سويدية إلى منع بالودان من دخول البلاد عامين، فيما اندلعت في أوسلو بالنرويج اشتباكات بين متظاهرين من اليمين المتطرف وآخرين مناهضين لخطاب الكراهية والعنصرية. وخلال العام ذاته، أحبطت دول أوروبية عدة خططاً قادها الزعيم اليميني المتطرف لحرق نسخ من المصحف.

وتكررت هذه الحوادث، التي لا تقتصر على المكان أو الكتاب، وباتت تحظى بانتشار أوسع في ظل التطور التكنولوجي والإنترنت. ففي الولايات المتحدة، هدد القس المتطرف تيري جونز، عام 2010، بحرق نسخة من القرآن، تزامناً مع ذكرى هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 التي شنها تنظيم "القاعدة" الإرهابي على الولايات المتحدة. وبين الحين والآخر، تقع حوادث حرق نسخ من الإنجيل من قبل بعض التيارات السياسية كنوع من الاحتجاج أو لإثارة غضب المحافظين.

وفي فبراير (شباط) الماضي، أحرق زوجان من المثليين نسخة من الكتاب المقدس لإغاظة مجموعة من المسيحيين المحافظين في ولاية تينيسي الأميركية، وفي 2020 خلال احتجاجات "حياة السود تهم"، برز مقطع فيديو لمجموعة متظاهرين في مدينة بورتلاند بولاية أوريغون الأميركية، يحرقون نسخاً من الإنجيل.

حول حرية التعبير

مع كل حادثة من هذا النوع، يتكرر نقاش مثير حول حدود حرية التعبير، التي تُعدّ حقاً أساسياً وربما مقدساً في الدول الديمقراطية، أو الحد الفاصل بين حرية التعبير، وذلك الخطاب الذي يحرض على الكراهية. ففي الولايات المتحدة، تنفس القادة السياسيون الصعداء عندما أعلن القس جونز إلغاء الحدث الذي كان مقرراً لحرق نسخ من القرآن. وفي حين دان أولئك القادة القس بشدة آنذاك، لم يشكك أحد في حقه في القيام بمثل هذا العمل، بل في الواقع، دافع كثيرون عن هذا الحق في حرية التعبير. وعلى النقيض، عندما وقعت حوادث مماثلة في إنجلترا وفرنسا، سمحت قوانين التحريض العنصري بتوجيه اتهامات إلى مرتكبي هذه الأفعال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الدنمارك، أثارت صحيفة "يولاندس بوستن" جدلاً واسعاً عام 2005، عندما نشرت سلسلة من الرسوم الكاريكاتيرية التي تصور النبي محمد. وفي حين تسبب الأمر وقتها في غضب كبير بين الجالية المسلمة، وأدى إلى هجمات على السفارات الدنماركية في دول عدة، لكن في الدنمارك جرى إسقاط التهم الموجهة إلى فريق التحرير في "يولاندس بوستن" لصالح حرية التعبير، على الرغم من أن المدعي العام الإقليمي في فيبورغ أشار إلى أنه ينبغي ممارسة حرية التعبير مع احترام حقوق الإنسان والحق في الحماية من التمييز.

وفي 2017، ألغى البرلمان الدنماركي قوانين تعود إلى قرون، تتعلق بالتجديف أو ما يعرف بازدراء الأديان، بعد توجيه تهمة مماثلة إلى دنماركي يبلغ من العمر42  سنة، لنشره مقطع فيديو لحرق القرآن على "فيسبوك". ودافع محاميه آنذاك، وهو نفسه بالودان، بالقول إن المتهم أحرق ذلك الكتاب المقدس بالنسبة إلى المسلمين دفاعاً عن نفسه. ونقلت صحيفة "نيويورك تايمز" عن بالودان قوله إن "القرآن يحتوي على مقاطع توضح كيف يجب على المسلمين أن يقتلوا الكافر، أي الدنماركيين. لذلك، فإنه عمل من أعمال الدفاع عن النفس أن يتم حرق كتاب يحرض على الحرب والعنف بهذه الطريقة".

ويشير بريان أرلي جاكوبسن، الباحث في علم الاجتماع بجامعة كوبنهاغن، الذي درس المناقشات البرلمانية حول الإسلام من الستينيات إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى أنه كان ينظر إلى المسلمين في الدنمارك على أنهم يتمتعون بثقافة لا تتوافق مع المجتمع الدنماركي. ومع تدفق موجات جديدة من اللاجئين في العقد الماضي، أدى الوضع إلى مزيد من الانقسام في المجتمع من حيث آراء الناس حول هذه المسألة، وفي ما يتعلق بالأعمال الاستفزازية ضد الأقليات العرقية، وقدرة البلدان على دمج المهاجرين.

جدل أممي

الجدل بشأن مفهوم الإساءة للأديان، الذي يتمثل في أشكال عدة من بينها حرق الكتب المقدسة وعلاقته بحرية التعبير، شغل أروقة الأمم المتحدة منذ العقدين الماضيين، في ظل تزايد الحوادث من هذا النوع، إما رداً على هجمات إرهابية تشنها تنظيمات متطرفة مثل "القاعدة" و"داعش"، أو بسبب موجات الهجرة واللجوء من الشرق الأوسط إلى الدول الغربية، حيث يواجه اللاجئون العداء والعنصرية عادة من قبل اليمين المتطرف.

وفي 2009، تبنّى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة نصاً غير ملزم، اقترحته باكستان بالنيابة عن الدول الإسلامية، يدين الإساءة للأديان، بوصفه انتهاكاً لحقوق الإنسان. وفي تلك الأثناء، قالت باكستان متحدثة باسم منظمة المؤتمر الإسلامي المؤلف من 56 دولة، إنه يتعين إيجاد "توازن دقيق" بين حرية التعبير واحترام الأديان. وذكر القرار أن الأقليات المسلمة واجهت عدم تسامح وتمييزاً ضدها منذ هجمات 11 سبتمبر، ومنها قوانين وإجراءات إدارية تشوّه صورة المتدينين. ووفقاً للنص، فإن "الإساءة إلى الأديان اعتداء خطير على الكرامة الإنسانية، يؤدي إلى تقييد حرية المؤمنين بها وإلى التحريض على العنف الديني".

وعلى الرغم من تبني القرار "غير الملزم" للدول الأعضاء، فإن حكومات غربية وتحالفاً واسعاً لجماعات ناشطين أعربوا، آنذاك، عن رفضهم النص الخاص بالإساءة للأديان، الذي أضيف إلى جهود أخرى لتوسيع نطاق مفهوم حقوق الإنسان لحماية مجتمعات المؤمنين. وأعربوا عن مخاوف من استغلال القرار لإسكات وتخويف الأصوات المستقلة وتقييد الحرية الدينية وحرية التعبير، بخاصة في الدول المسلمة، وكانت ألمانيا وكندا والهند من بين أشد الدول اعتراضاً على الربط بين فكرة "الإساءة إلى الأديان" و"العنصرية" من دون أن يلتفتا إلى أي نوع من الخطاب الذي يحرض على الكراهية. وقال ممثل كندا أمام مجلس حقوق الإنسان، "الأفراد هم الذين لهم حقوق لا الأديان. وترى كندا أن مد نطاق (فكرة) الإساءة إلى أبعد من مداها الصحيح، سيقوّض الحرية الأساسية في التعبير، وتشمل بالضرورة حرية التعبير في المواضيع الدينية".

الكراهية الدينية

لكن مع تكرار تلك الحوادث التي كثيراً ما تتحول إلى عنف، باتت الأمم المتحدة تدين مثل هذه التصرفات باعتبارها "تحريضاً على الكراهية الدينية". فعندما جرى حرق نسخة من المصحف في السويد قبل عامين، أعرب الممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة ميغيل موراتينوس عن إدانته القاطعة لتدنيس المصحف، وقال في بيان إن "مثل هذه الأعمال المؤسفة يرتكبها دعاة الكراهية، بما في ذلك المتطرفون اليمينيون، وغيرهم من الجماعات المتطرفة التي تحرض على العنف وتمزق نسيج مجتمعاتنا".

مع ذلك، فإن معاقبة هذه الأفعال باعتبارها تحريضاً على الكراهية، أو مجرد التنديد بها خشية اشتعال العنف مع الإقرار بأحقية ممارستها كحرية تعبير، يعتمد على قوانين الدول بحدّ ذاتها. ووفقاً لدراسة بعنوان "حرق القرآن والكراهية الدينية: مقارنة بين المقاربات الأميركية والدولية والأوروبية لحرية التعبير" صادرة عن جامعة واشنطن عام 2012، فإن عدداً من الدول الأوروبية تعمل على تقييد خطاب الكراهية العرقية والدينية، وهذه الدول تطبق تدابير أكثر صرامة من الولايات المتحدة في تقييد الكلام غير المقبول. وحفزت حوادث في دول أوروبية أخرى، مثل الدنمارك وفرنسا، على مناقشة التوازن بين مختلف حقوق الإنسان، ومهّدت الطريق للحوار في دول أخرى مثل بريطانيا بشأن التعامل مع حوادث مثل حرق القرآن.

وفي بريطانيا، جرّم قانون "النظام العام" لعام 1986 عدداً من الأفعال التي تحرض على الكراهية العنصرية، وقد جرى تعديله بموجب قانون الكراهية العنصرية والدينية لعام 2006، ليوسع نطاق جرائم الكراهية لتشمل تلك الدينية أيضاً. وبموجب تلك القوانين، سردت الدراسة حالات عدة لمحاكمة أشخاص في المملكة المتحدة على أساس التحريض على الكراهية ضد مسلمين بسبب بعض الأقوال.

وتشير الدراسة إلى أن معظم دول أوروبا تسن قوانين بشأن خطاب الكراهية تسمح بمقاضاة التعبير عن الرأي، وهو ما لا يوجد في الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، أشارت صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأميركية إلى أنه لو ذهب القس الأميركي جونز إلى السويد لحرق القرآن، كانت ستجري إدانته بموجب "حظر التعبير عن عدم احترام جماعة على أساس عقيدتهم"، بينما دعوته داخل الولايات المتحدة لحرق القرآن يتم التعامل معها بموجب حماية حرية التعبير.

ولتوضيح الحد الفاصل بين حرية التعبير ورفض الأعمال الاستفزازية، أوضحت ماريا ماغنوسون، صحافية دانماركية تعيش في السويد، في تعليقات سابقة، أن "القانون السويدي صارم في ما يتعلق بحماية حرية التعبير طالما لا يجري التمييز ضد أي مجموعة". ولكل حزب سياسي في السويد الحق في إلقاء خطاب مفتوح والرد على أسئلة من الجمهور في حدث عام، بما في ذلك حزب للنازيين الجدد يدعى "حركة المقاومة الاسكندنافية"، لكن شريطة ألا ينخرطوا في خطاب كراهية. وعندما منعت السويد بالودان من دخول أراضيها عام 2020، لم يكُن ذلك لمنعه من الحديث، ولكن بسبب نيته حرق القرآن. ومع ذلك اكتسبت أحزاب مثل "سترام كورس" و"الديمقراطيين السويديين" مكانة بارزة في الأعوام الأخيرة من خلال زيادة الاستقطاب حول مسائل الهجرة واللجوء في بلدان الشمال الأوروبي.

المزيد من تقارير