شاء المسرح أم أبى، فإنه دائماً ما يلامس السياسي ولايستطيع تجاهله أو الانفصال عنه. ولكن يظل الفارق في كيفية الملامسة وطبيعة السؤال، فهل هي ملامسة فجة وخشنة ومباشرة تجعل الفني مطية للسياسي أم إنها ملامسة ناعمة تجرح من دون إسالة دماء وتتوسل بالفني وحده لتطرح أسئلتها وتمتع جمهورها وتطور وعيه؟
يلجأ بعض العروض إلى إلقاء المقولات المباشرة وكأنه تقدم منشوراً سياسياً لا عملاً فنياً يشير ولا يصرح، يهمس ولا يصرخ، فيتوارى الفني كثيراً ويتم نفيه لمصلحة السياسي، أما بعضهم الآخر فيصدر عن وعي بأن للفن أدواته التي يستطيع من خلالها تقديم أصعب القضايا وأكثرها سخونة عبر الإيماءة والحركة والصورة والعلامة. يستطيع أن يمرر كل شيء بسلاسة ونعومة، ويترك التأويل وزوايا النظر لمشاهديه.
في العرض المسرحي "سجن القردان" الذي قدمته فرقة جمعية كلباء للفنون الشعبية والمسرح في الشارقة، نحن أمام عمل من النوع الثاني، امتلك صناعه وعياً بطبيعة العرض المسرحي، الذي يقدم موضوعه، أياً كانت خشونته، بشيء من الرهافة والمتعة الفنية والفكرية. فيتيحون لأدواتهم تلك المساحة الواسعة لتمارس لعبتها على الخشبة، وتتواصل مع جمهورها عبر العلامة والموقف الذي يفجر السخرية، ولكن ليس عبر الأثر أو "الإفيه" وامتهان الجسد في ألعاب لاغاية لها سوى الإضحاك وليس مهماً على أي شيء يضحك الجمهور.
غريب الأطوار
العرض الذي كتب نصه علي جمال وتولى الإخراج والسينوغرافيا فيه عبدالرحمن الملا يتناول حكاية "الوالي" الغريب الأطوار الذي تأتيه أحلام وكوابيس غريبة وأحياناً لا معقولة، ولأنه يحكم فأحلامه وحتى كوابيسه أوامر واجبة التنفيذ.
يحلم الوالي مثلاً بأن سجونه خالية تماماً من السجناء فيتم إخلاء السجون من نزلائها، مع إنه من الطبيعي ألا يخلو بلد، مهما كان متقدماً وآمناً من جرائم. لكنه حلم الوالي ولابد من تحقيقه ولو على حساب أي شيء. لكن الحلم نفسه لا يلبث أن يتغير فجأة إلى سجون ممتلئة بالنزلاء. وهكذا في مفارقات فجائية وغير مبررة، إلا في أحلام أو خيالات ذلك الوالي الذي يعاني شعبه الفاقة وضيق الرزق ويعاني هو جنون العظمة ويظن أنه وحده الذي يعرف، وأن كل ما يصدر عنه واجب التنفيذ.
يعاني آمر أحد السجون ومساعده من خلو السجن من النزلاء، ولكونهما أصبحا بلا عمل يتعرضان للتقاعد والاستغناء عن خدماتهما. وفجأة يأتيهما الفرج عندما يتغير حلم الوالي من سجون خاوية إلى سجون تضج بنزلائها، فيأتيهما الأمر بضرورة شغل الزنازين الفارغة. ولأن لا قضايا تتيح لهما إيجاد مسجونين، فإنهما يستعينان بفرقة من الشحاذين يتم الاتفاق معها على تمثيل ادوار المساجين لفترة قصيرة الى حين مرور المفتشين ليتابعوا أحوالهم، ويتأكدوا أن كل شيء يمضي على نحو جيد. لكن فرقة الشحاذين هذه تجد في السجن ملاذاً آمناً، فالسجن يوفر لهم ما لا يتوافر خارجه من مأكل وأماكن للمبيت. وعبثاً يحاول آمر السجن إخراجهم بعد أن أدوا مهمتهم على خير وجه لكنهم يصرون على البقاء، فالأحوال في الخارج أصعب وأمرّ وهم يضحون بحريتهم في مقابل الأكل والمبيت، وكلها إشارات إلى وضع هذا البلد الذي جاء مجرداً مكانياً وزمانياً، وبدا من الملابس (صممها خلفان الدرمكي) أننا في زمن قديم نسبياً.
التخلص بالسم
وبعد أن يعجز آمر السجن عن إخراج المسجونين يتفق مع مساعده على وضع السم في الطعام لأفراد هذه الفرقة بعد أن باتوا يشكلون خطراً عليهما، ويهددون بفضح أمرهما. ويتصادف أن يأتي الوالي ومساعدوه إلى السجن لتفقد أحواله، ويصر الوالي إمعاناً في إظهار عدله وسماحته على تناول الطعام مع المسجونين. وعبثاً يحاول الآمر صرفه عن هذه الرغبة الخطرة لكنه في النهاية يرضخ لأوامره ويتناول الجميع الطعام. وبدلاً من أن يموتوا جميعاً يدخلون في نوبة ضحك هيستيرية، وتنقلب العلاقة بين الطرفين فيصبح المهيمن عليه مهيمناً، والمسجونون هم الذين يقودون سجانيهم، ويوجهونهم بحسب أهوائهم. تتغير العلاقة إلى النقيض تماماً ويدخل الجميع أقفاصاً واحدة ليصبح البلد سجناً كبيراً.
أما لماذا لم يفعل السم فعله، فلأن المساعد استبدل عن غير قصد بالسم حبوب "القردان" التي تسبب مثل هذه النوبات من الضحك.
ربما الموضوع نفسه ليس جديداً وهو يناقش فكرة الحرية والعدل التي طالما تم طرحها مئات المرات وبصيغ مختلفة، منها ما يقترب من هذه الصيغة التراثية المقدمة. لكن الجديد هنا هو كيفية تناوله بشكل ساخر أقرب إلى الكوميديا السوداء من خلال مجموعة ممثلين ظرفاء وليسوا مستظرفين، واعين طبيعة النص وقادرين على تجسيد شخصياتهم بتوازن بعيداً من المبالغات، سواء اللفظية أو الجسدية، فجاء الأداء على قدر عال من الانضباط حركة ولفظاً. يقودهم آمر السجن الذي لعب دوره جمال السميطي وكان بمثابة المايسترو لمجموعة الممثلين الرئيسيين: راشد النقبي في دور المساعد وسلوى أحمد وعبير الجسمي وعادل سبيت وعيسى مراد في أدوار الشحاذين وجوهر المطروشي في دور المفتش وعلي دريدر في دور الوالي وصالح الجداع في دور الحارس.
موسيقى حية
فضلاً عن التمثيل فقد تضافرت معه موسيقى حية قدمت الراب والإيقاعات الشعبية مع عبدالله عبدالرحمن وطلال المسعدي وحمد المطروشي وحسين المازمي. وعلى إيقاعات هذه الموسيقى رسم المخرج حركة الممثلين ووظفها كعلامة ضمن علامات العرض، حتى إنه في تصرف ذكي حجب أفراد الفرقة الموسيقية عن الجمهور خلف ستار لبعض الوقت، ثم أزاح هذا الستار في ذروة العرض معلناً عن وجودهم كعناصر محركة للأحداث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما ديكور العرض (صممه عيسى مراد) فكان عبارة عن أقفاص شبه معدنية تمثل عالم السجن ويتم تحريكها باستمرار لتشكيل صور مختلفة بحسب طبيعة المشهد وبواسطة الممثلين أنفسهم، لتنتج هذه الأقفاص المتفاوتة الأحجام علاماتها هي الأخرى، بخاصة في ظل هذا التوافق المحسوب بعناية في عملية التحريك التي اتسمت بالانضباط الشديد، وكذلك السرعة التي حافظت على إيقاع العرض من دون فجوات، فلا شيء سوى هذه الأقفاص مع بانوراما خلفية سوداء واقتصاد تام في الديكور.
إضاءة العرض (صممها المخرج) غلبت عليها الإنارة في معظم الأحيان، لكنها راعت مقتضى الحال، فالأمر كله يدور داخل أحد السجون، فكانت عنصراً مهماً في تشكيل صورة العرض، بخاصة في قدرتها على إظهار انفعالات الممثلين بشكل واضح ومن دون شوشرة على العناصر الأخرى.
"سجن القردان" عرض جريء في طرحه، وفي تناول قضية تتعلق بالحرية والعدل، جريء في قدرته على توظيف أبسط الأدوات في صناعة صورة مسرحية على قدر عال من الصفاء. واستطاع تحقيق معادلة المتعة الفكرية والبصرية، وجذب انتباه مشاهديه منذ البداية حتى النهاية.