Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"لقمة عيش" مسرحية عُمانية تكسر عزلة دمشق الثقافية

عرض بصري يقدم توليفة بين الخشبة الفارغة وحركة الممثلين ولعبة الضوء

من المسرحية العمانية "لقمة العيش" (اندبندنت عربية)

استعادت الفرقة العمانية "مسرح الدن للثقافة والفن" العلاقات الثقافية مع دمشق، فقدمت في مسرح الحمراء عرضاً عنوانه "لقمة عيش" للمخرج محمد سعيد الرواحي. حظي العرض الزائر بحفاوة وحضور شعبي لافت، فما إن أعلنت "مديرية المسارح والموسيقى" عن تقديم العرض الآتي من عُمان على صفحتها الرسمية في "فيسبوك" حتى نفدت البطاقات من شباك التذاكر في المسرح الدمشقي العريق، وتقاطر العديد من النقاد والمخرجين السوريين إلى المسرح، في سابقة لم تشهدها البلاد منذ توقف مهرجان دمشق المسرحي عام 2010، واعتذار العديد من الفرق الفنية العربية عن القدوم إلى دمشق.

العرض العُماني فاجأ جمهور المسرح السوري بتفوقه الفني وقدرة ممثليه الستة على تقديم فرجة مسرحية غنية في مفرداتها الحركية والأدائية من دون استخدام أي قطع للديكور أو الأكسسوارات، فقد عول مخرج "لقمة عيش" على مسرح المساحة الفارغة متتبعاً نظرية المخرج البريطاني بيتر بروك في الاقتصاد بكل ما يعوق أداء الممثل ومقولة العرض، وهي ركزت على هموم معيشية مشتركة بين أبناء المجتمعات العربية من غلاء وارتفاع الأسعار وشح الرواتب، إضافة إلى مشكلات الفساد والمحسوبيات في الانتخابات البلدية وسواها من آفات اجتماعية تعوق طموح الشباب العربي لتحقيق أحلامه بعيش كريم وعدالة اجتماعية.

قضية فساد

تدور أحداث "لقمة عيش" الذي ألّف نصه الكاتب البحريني جمال صقر حول شخصية رمضان (سالم بن هلال الرواحي) الشاب الذي يكتشف قضية فساد في بيع مادة الرز المنتهي الصلاحية، فيبذل جهده لإيصال شكواه إلى أعلى المستويات لكشف الفاسدين ومعاقبتهم ضمن قالب كوميدي لم يخل من القفشات الضاحكة واللعب وفق أداء جماعي لكل من الممثلين أحمد بن سعيد الرواحي ووليد بن سالم الدرعي وأحمد بن راشد الصالحي وهيثم بن سيف المعولي وخميس بن سليمان البرام. وأدى هؤلاء أدواراً متعددة لشخصيات بشرية وحيوانية وجمادات وفق أسلوب التغريب المسرحي، متنقلين ببراعة من ظرف إلى آخر ومن حال إلى أخرى عبر جمل حركية محكمة التكوين ومتغيرة تبعاً لتدفق أحداث العرض والتكيف الجسدي المطلوب منهم للإيحاء بالأماكن التي تؤدي فيها هذه الشخصيات أدوارها من حجرات في منزل وملعب ومراكز اقتراع للانتخابات ومضافة وسيارة ومحطة وقود، وسواها من الأماكن التي نجح المخرج في الإيحاء بوجودها المادي عبر أجساد ممثليه وحركتهم.

وتمكن الرواحي خلال إعداده للنص الأصلي الذي حمل عنوان "البلاليط" وهو الاسم المتداول لطبق شعبي في الخليج العربي مكون من الشعيرية والبيض والزيت والسكر، من توضيب مادة أكثر درامية وملائمة لخشبة المسرح وذلك بالتخلي عن فرضية السجن والسجناء في النص الأصلي نحو مساحة حرة للعب، وهذا ما مكنه من إبراز طاقات الممثل وقدراته الصوتية والجسدية ضمن "سينوغرافيا" محمود بن سليم المخرومي التي اعتمدت إضاءة متناوبة لحزم كثيفة استطاعت خلق الفراغ الموازي للحركة وتوجيه انتباه الجمهور نحو بؤرة الحدث، من غير اللجوء إلى الاستعراض المجاني بل في تخليق مجالات ومناخات لونية عكست أجواء متجاورة بين يمين الخشبة ويسارها وعمقها، وتزامن الضوء مع الموسيقى (زياد بن عبد الله الحربي) التي جمعت بين لوحات العرض ومناظره تبعاً لإيقاع لاهث ومتنوع، مع توظيف للأغاني الشعبية درامياً بما ينسجم مع رشاقة الممثلين ولياقتهم البدنية.

المسرح الجسدي

وتمكنت فرقة الدن التي تأسست عام 1994 على أيدي نخبة من الفنانين العمانيين من السيطرة على فضاء اللعب في مسرح الحمراء بأداء يقترب من أسلوب المسرح الجسدي، وهذا ما عكسته القدرة اللافتة لحركة ممثلي "لقمة عيش" ومهاراتهم في تقديم  لوحات "أكروبات" أو بهلوانية مدروسة على الخشبة والاشتغال على جسد الممثل وإيماءاته طوال فترة العرض الذي امتد ساعة من الزمن بلا توقف، مما أسهم في تقديم فرجة تفاعلية تجلت في تجاوب الجمهور السوري مع ارتجالات الفرقة العُمانية، وهي بدورها توجهت بالخطاب للمتفرجين مباشرة في نوع من محاولة لكسر الجدار الرابع والاقتراب من مسرح الكوميديا "ديللارتي" الإيطالي، مما أسهم في إغناء فرضية العرض والانتصار للبطل الشعبي المنافح عن حقوق الفقراء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العرض الذي نال العديد من الجوائز في مهرجانات الخليج العربي أعاد إلى الأذهان مسرحية سعد الله ونوس "الفيل يا ملك الزمان" التي تروي قصة خذلان الجماعة للفرد حين يثور لأجلها بلا طائل.

جسد عرض "لقمة عيش" المقولة السابقة بمعالجة فنية استغنت عن الخطاب المباشر لمصلحة تشكيلات حركية عكست المقترحات الجديدة في المسرح الخليجي والخروج من أسلوب المدارس التقليدية نحو الاندماج مع حركة المسرح المعاصر، وكذلك التعويل أكثر على تقنيات حديثة من غير الانجرار إلى السائد والمتعارف عليه، ومن دون طغيان التقنية على عمل الممثل بل بالاتكاء على أداء حي ومتحرر من الصيغ الفنية التي كانت متداولة في المسارح الرسمية، وهذا ما يشي بنضج فني على صعيد الشكل الفني ويفتح الآفاق واسعة أمام خبرات شبابية بدأت تجد طريقها إلى مسرح يشتبك مع الواقع ويأخذ موقفاً نقدياً منه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة