Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا استخف بوتين بالغرب؟

وكيف يحافظ الغرب على الوحدة الجديدة التي تجمع دوله؟

قادة مجموعة السبع يقفون لالتقاط صورة في بروكسل، في مارس 2022 (هنري نيكولز/ رويترز)

أثبت قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا أنه خطأ استراتيجي له أبعاد تاريخية. وبما أنه أخفق في تحقيق انتصار سريع لصالح موسكو، يواجه الغزو غير المبرر تمرداً أوكرانياً عنيفاً كبّده حتى الآن سقوط نحو 15 ألف شخص من الجيش الروسي خلال المعارك، أي ما يقارب عدد الضحايا عينه الذي خسره الاتحاد السوفياتي طيلة 9 سنوات من الحرب في أفغانستان. ولقد تلقى الاقتصاد الروسي ضربات موجعة بسبب عقوبات دولية استثنائية. وقد ترددت من كل حدب وصوب أصداء المطالبة بمحاكمة بوتين على أنه مجرم حرب. والحال أن بوتين لم يكن يتوقع أياً من ردود الفعل هذه عندما شن هجومه.

كيف أخطأ بوتين إلى هذه الدرجة في فهم الأمور؟ من جهة، لقد بالغ بشكل واضح في تقدير قوة روسيا العسكرية، واستخف بالمقاومة الأوكرانية، ولكن من جهة أخرى، وبالأهمية نفسها، أساء بوتين في توقع موقف الغرب من الغزو. والحال أن تجربته الشخصية الطويلة التي اكتسبها جراء مراقبة ردود الفعل الدولية الضعيفة - إزاء الحروب التي شنتها روسيا على الشيشان وجورجيا، وضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ودعم الديكتاتور السوري بشار الأسد - أقنعته بأن الغرب سيتخلى عن أوكرانيا. وبما أن أوروبا لديها شكوك حيال التزام واشنطن [بضمان] الأمن الأوروبي في أعقاب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان الذي قامت به رئاسة ترمب وإدارة بايدن، قد يكون بوتين قد استبق الأمور وتكهن بأن يتسبب الغزو بانقسام بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، ما سيؤدي بالتالي إلى إحراز انتصار استراتيجي أكبر من مجرد تنصيب حكومة صورية في كييف.

ولو كان بوتين مطلعاً بشكل أفضل على تاريخ استجابة الديمقراطيات الغربية إلى تهديدات حيوية لأمنها، لكان فهم أن افتراضاته تلك هي خاطئة. صحيح أن أحد الدروس المستخلصة من القرن الماضي يتمثل في أن الديمقراطيات الغربية غالباً ما تجاهلت التهديدات الأمنية الناشئة، على غرار ما فعلته ديمقراطيات عدة في الفترة التي مهدت للحربين العالميتين، وللحرب الكورية، وأيضاً لهجمات 11 سبتمبر (أيلول). وكما قال جورج كينان، الدبلوماسي والمؤرخ الأميركي ذات مرة: تشبه الديمقراطيات وحش من عصور ما قبل التاريخ، لا يكترث البتة لما يجري من حوله، إلى درجة أنه "يترتب عليك عملياً أن تضرب ذيله ليدرك أن مصالحه تتعرض للتخريب"، لكن الدرس المهم الآخر المستخلص من القرن الماضي هو أن الديمقراطيات الغربية تستجيب بسرعة وتصميم وقوة عندما يضرب ذيلها بقوة كافية. فبالنسبة للولايات المتحدة ولحلفائها الأوروبيين، يجسد الغزو الروسي لأوكرانيا ضربة من هذا القبيل، لا سيما أنه، من حيث الحجم ورقعة الامتداد، الاستخدام الأضخم للقوة العسكرية في القارة الأوروبية منذ عام 1945، بالتالي، يشكل تهديداً مباشراً لمناطق سيطرة حلف شمال الأطلسي (الناتو).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع ذلك، فعلى الرغم من أن رد الفعل الغربي جاء قوياً بشكل يثير الدهشة، فإنه من السابق لأوانه أن يعلن الغرب النصر. وإذا  كانت الديمقراطيات قادرة على تشكيل جبهة سريعة وموحدة ضد تهديدات استثنائية، فهي كانت أيضاً لوقت طويل عرضة لتغيير أولوياتها وتحويل انتباهها إلى الداخل بمجرد انتهاء الأزمة المباشرة. وبعد أن وحد القادة الغربيون صفوفهم بسرعة لمواجهة عدوان بوتين، فإن التحدي الآن يتمثل في كيفية الحفاظ على هذه الوحدة. وقد شدد جو بايدن رئيس الولايات المتحدة على هذه النقطة حين اعتبر في وارسو في شهر مارس (آذار) أنه "يجب علينا أن نبقى متحدين اليوم وغداً وبعد غد وعلى امتداد السنوات والعقود المقبلة". وهذه ليست بمهمة سهلة. ولتحقيق هذا الهدف على المدى الطويل، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها التغلب على الاستقطاب السياسي والأعباء الاقتصادية المتغيرة والتبدلات في القيادة، وكلها عناصر أدت غالباً إلى تشرذم الغرب في الماضي. وإلا، فإن هذه الوحدة حول أوكرانيا يمكن ألا تدوم طويلاً، فينتهي الأمر بالغرب منقسماً مجدداً، والطغاة أقوى مما كانوا.

غلطة بوتين

ليس بالمفاجئ أن يفترض بوتين أن الغرب سيرد على غزو روسيا لأوكرانيا بالخطاب القاسي ولا شيء سواه. ففي عام 2008، حين أرسل بوتين القوات الروسية لتقطيع أوصال جورجيا، هب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بسرعة للتفاوض على وقف لإطلاق النار أبقى المكاسب الروسية على حالها، فيما رفضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الأخرى أن تقرن استياءها الرسمي حتى بعقوبات رمزية. بعد ست سنوات، أتى رد الفعل على ضم بوتين لشبه جزيرة القرم وتحريضه على حرب انفصالية في شرق أوكرانيا، أكثر صرامة بقليل فقط، فعلى الرغم من أن روسيا قد طردت من مجموعة الثماني وتعرضت لعقوبات محدودة، فإن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الأميركي باراك أوباما كلاهما استبعد إرسال مساعدات عسكرية فتاكة لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها.

وبطريقة مماثلة، رفضت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون فرض عقوبات موجعة على روسيا بعد أن تدخلت في الحرب الأهلية السورية عام 2015، وأخذت تقصف المدنيين بشكل عشوائي، وتستهدف المستشفيات، ومن ثم قامت بتسوية مدينة حلب بالأرض في النهاية. كما أن محاولات اغتيال خصوم بوتين في السنوات الأخيرة في البلاد وخارجها بغازات الأعصاب، أدت فقط إلى فرض عقوبات من مستوى محدود على روسيا وطرد بعض دبلوماسييها من دول غربية. وعندما تدخلت روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016، فقد انتقدت الديمقراطيات والمنابر الإعلامية الغربية الكرملين لكنها لم تفعل شيئاً آخر.

كيف أخطأ بوتين إلى هذه الدرجة في فهم الأمور؟

إن سلوك الزعماء الغربيين في الأشهر التي سبقت الهجوم على أوكرانيا أوحى بأنه كان من المرجح أن يتبع الغرب بالنمط نفسه. ورفض العديد من القادة الأوروبيين الأدلة التي قدمتها الحكومتان الأميركية والبريطانية والتي كانت تفيد بغزو وشيك، وافترضوا أن بوتين كان يحشد القوات بالقرب من أوكرانيا لممارسة ضغط يؤدي إلى التفاوض على ترتيبات أمنية جديدة. وسافر العديد منهم إلى موسكو في محاولة للتوصل إلى صفقة. وقد أحجمت الحكومة الألمانية على وجه الخصوص عن احتمال الرد بصورة قوية على عدوان بوتين المتزايد، وعرقلت محاولات تفعيل قوات الرد التابعة للناتو، ورفضت منح حلفاء الناتو إذناً بإرسال معدات فتاكة ألمانية الصنع إلى أوكرانيا. ورفض المستشار الألماني أولاف شولتز بحدة في مؤتمر صحافي في البيت الأبيض في مطلع فبراير (شباط)، التعهد بوقف خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2 إذا غزت روسيا أوكرانيا. وكانت الانقسامات الظاهرة في الغرب واضحة للغاية إلى درجة أن بايدن أبدى قلقه بشكل علني من أن يؤدي أي "توغل طفيف" إلى اقتتال دول الغرب "بشأن ما يجب وما لا يجب فعله".

عززت هذه التطورات قناعة بوتين بأن الغرب كان قوة مستهلكة. وكان الزعيم الروسي قد قال لصحيفة "فاينانشيال تايمز" عام 2019، "هناك أيضاً ما يعرف بالفكرة الليبرالية التي عمرت أكثر من غرضها". ومن دون شك فإن الرئيس الصيني شي جينبينغ، المتعاون مع بوتين في شراكة استراتيجية "لا حدود لها"، شجع ذلك التفكير. فشعار الرئيس الصيني هو منذ زمن طويل "الشرق ينهض، والغرب ينهار"، بيد أن حسابات من هذا النوع قد أخطأت في تفسير ما الذي يمكن أن يحصل عندما تقدم روسيا على غزو لا مبرر له وفاضح لبلد ديمقراطي أوروبي سيد، وهو عمل ذهب إلى أبعد مما بلغه أي من اعتداءات بوتين السابقة.

رص الصفوف

بدلاً من أن يتسبب هجوم بوتين على أوكرانيا بانقسام الغرب، فقد أدى إلى توحيده. ففي غضون أيام من [بدء] الغزو، وحدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الصف من أجل فرض نظام عقوبات شاملة على روسيا يجعلها الدولة الأكثر تعرضاً للعقوبات في العالم. وهكذا، منعت البنوك الروسية من استخدام نظام سويفت لتحويل الأموال، وجرى تجميد احتياطي البنك المركزي الروسي في دول أجنبية، كما حظرت [عنها] صادرات تقنيات بالغة الأهمية، الأمر الذي يؤثر في 50 في المئة من واردات التكنولوجيا الروسية و20 في المئة من الواردات كافة. وفرضت عقوبات على بوتين وكبار المسؤولين في إدارته، وأيضاً على مجموعة من الأوليغارش الروس النافذين الذين صودرت أصولهم. ومنعت الطائرات الروسية من دخول المجال الجوي لـ33 دولة، كما علقت ألمانيا مشروع "نورد ستريم 2"، فيما توقفت الولايات المتحدة ودول أخرى عن استيراد النفط الروسي، ومضى الاتحاد الأوروبي لخفض اعتماده على الطاقة الروسية. وغادرت نحو 500 شركة غربية السوق الروسية. وكان هدف الغرب هو "التسبب بانهيار الاقتصاد الروسي"، على حد تعبير برونو لومير، وهو وزير المالية الفرنسي.

وقامت الدول الغربية بالتعبئة سياسياً أيضاً ضد روسيا. وصوت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأغلبية 11 صوتاً مقابل صوت واحد مع امتناع 3 أعضاء عن التصويت، بإدانة الغزو، على الرغم من أن الفيتو اليتيم الذي استعملته روسيا قد منع إنفاد القرار. وحذت الجمعية العامة للأمم المتحدة حذو المجلس فصوتت بواقع 141 مقابل 5 على المطالبة بانسحاب روسيا من أوكرانيا. وأمرت محكمة العدل الدولية روسيا بوقف كل العمليات العسكرية في أوكرانيا. وانضمت منظمات ثقافية ورياضية دولية، على غرار الفيفا وهي الهيئة الحاكمة لكرة القدم العالمية، أيضاً إلى [جهود معاقبة روسيا] من خلال حظر المشاركة الروسية في نشاطاتها.

بدلاً من أن يتسبب هجوم بوتين على أوكرانيا بانقسام الغرب، فقد أدى إلى توحيده

وكان رد الغرب العسكري مثير للإعجاب أيضاً. فعوضاً من سحب القوات من أوروبا الشرقية كما طالب بوتين، عمد حلف الناتو إلى مضاعفة وجوده القتالي في المنطقة، كما فعل "قوة الرد" التابعة له، ووضع 40 ألف جندي تحت قيادة هذه القوة. وبدأت أكثر من 35 دولة بإرسال شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا، أو بزيادة هذه الشحنات. وتراوحت هذه المساعدات من الأساسات، كبنادق وذخيرة وخوذ والسترات الواقية من الرصاص وقذائف مدفعية وبنادق قاذفة، إلى [الأسلحة] المتطورة، مثل صواريخ ستنغر المضادة للطائرات، وصواريخ جافلين الأميركية المضادة للدبابات، وقاذفات صواريخ "أ ت – 4" السويدية، وأسلحة بريطانية مضادة للدبابات من الجيل المقبل، وطائرات مسيّرة مسلحة. وأسهمت الولايات المتحدة بما يزيد على 1.7 مليار دولار (نحو 1.30 مليار جنيه استرليني) كمساعدات للقوات المسلحة الأوكرانية منذ بدء الحرب، فيما التزم الاتحاد الأوروبي تقديم 500 مليون يورو (نحو 417 مليون جنيه استرليني) للدفاع الأوكراني، في خطوة غير مسبوقة للكتلة التي لم تقدم سابقاً على الإطلاق دعماً عسكرياً لدولة أخرى.

إن الدعم لهذه الإجراءات كان واسع النطاق وعميقاً أيضاً، بما في ذلك في دول كانت تاريخياً بين الأكثر تردداً في الانجرار إلى صراعات دولية. هكذا فإن كلاً من سويسراً، وهي الدولة المحايدة بشكل محض، وسنغافورة، التي تفخر بأدائها لجهة تحقيق التوازنات بين القوى العظمى، قد فرضتا عقوبات اقتصادية على روسيا. واليابان ذات السمعة السيئة باتباع سياسات هجرة صارمة، قد وافقت على فتح أبوابها للأوكرانيين الذين تم إجلاؤهم. والأهم من ذلك هو أن شولتز أعلن "محوراً تاريخياً"، التزمت فيه ألمانيا بإمداد أوكرانيا بمساعدات فتاكة، وتعهدت بتجاوز هدف الإنفاق الدفاعي لدى حلف الناتو الذي يبلغ 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، كما أنشأت صندوقاً دفاعياً بقيمة 100 مليار يورو من أجل شراء معدات لقواتها المسلحة المستنزفة، ووعدت بأن تنهي بسرعة اعتمادها على الطاقة الروسية. وقال شولتز أمام البوندستاغ (البرلمان الألماني) في 27 فبراير (شباط) "من الواضح أن علينا أن نستثمر أكثر بكثير في أمن بلادنا من أجل حماية حريتنا وديمقراطيتنا". وكانت تلك مشاعر شائعة على نطاق واسع في عواصم غربية أخرى.

اليقظة بالصدمة

يعكس فشل بوتين في توقع هذا الرد الموحد سوء فهم لكيفية عمل الديمقراطيات. فتحليله الشائب هو جزئياً متأصل في حقيقة أن الديمقراطيات تميل، بوصفها مسؤولة أمام شعوبها، إلى أن تكون أكثر اهتماماً بالمشاكل الداخلية منها بالتهديدات التي تتراكم في الخارج. وعلاوةً على ذلك، بدت حكومات أوروبية عديدة منذ نهاية الحرب الباردة وكأنها تشك غريزياً في أن دولاً أخرى قد تلجأ إلى الحرب لتحقيق مآربها الجيوسياسية، وافترضت أن التكامل الاقتصادي والعولمة في العقود الأخيرة قد جعلا الحرب في القارة الأوروبية أمراً عفا عليه الزمن. فلماذا القتال حين تدر التجارة والتبادل أرباحاً كبيرة؟

لكن، وكما لاحظ كينان، فعلى الرغم من أن الديمقراطيات لا تغضب بسرعة، فإنها تستجيب بغضب حين تتعرض مصالحها إلى التهديد بشكل مباشر. هكذا لم يتوقع القيصر الألماني فيلهلم الثاني أن دعمه للإنذار النهائي الذي وجهته النمسا إلى صربيا سيؤدي إلى اندلاع حرب مع فرنسا والمملكة المتحدة، وهي آلية كررت نفسها بعد 25 عاماً حين غزا أدولف هتلر بولندا. سعت واشنطن إلى البقاء بعيدة عن الحربين العالميتين ولم تسهم فيهما إلا بعد أن استأنفت ألمانيا حرب الغواصات المفتوحة [اشتملت على استهداف السفن المدنية من دون سابق إنذار] وهاجمت اليابان بيرل هاربر. إن سياسة الاحتواء التي اتبعتها الولايات المتحدة، والتي حاولت منع انتشار الشيوعية خلال الحرب الباردة لم تترسخ إلا في أعقاب غزو كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية. وتبنى القادة الغربيون بشغف مكاسب السلام التي نتجت من انهيار الاتحاد السوفياتي ولم يستيقظوا من سباتهم إلا بشكل جزئي بعد هجمات 9/11.

يجب عدم السماح للجبهة الغربية الموحدة ضد الغزو الروسي بأن تضعف أو تتآكل مع تقدم الحرب

إن ميل الديمقراطيات إلى التحول من الخمول إلى الفعل هو مجرد ميل وليس قاعدة. وغالباً ما يتم تحديد ما إذا كانت ستتحول هكذا أم لا عن طريق الخيارات التي يتخذها القادة الغربيون. وهنا كانت دبلوماسية بايدن البارعة في مواجهة أزمة متفجرة أمراً ذا أهمية حاسمة، فقد استعمل هو وفريقه التهديد الذي يشكله اعتداء بوتين، وذلك من أجل الوفاء بتعهده الطويل الأمد لتعزيز العلاقات عبر الأطلسي وفي المجتمع الديمقراطي الأوسع نطاقاً. وحين خلصت الاستخبارات الأميركية في أواخر عام 2021 إلى أن القوات الروسية كانت تستعد لغزو أوكرانيا، اتخذ بايدن قرارين حاسمين. تمثل الأول في أن الولايات المتحدة لن تدافع [بشكل مباشر] عن أوكرانيا نفسها. أما الثاني فنص على أنه سيعمل مع أعضاء حلف الناتو وشركاء آخرين لتنفيذ استراتيجية ثلاثية المحاور لفرض عقوبات اقتصادية هائلة على روسيا، وتدعيم موقف الناتو في أوروبا الشرقية، وإرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا لمساعدتها في الدفاع عن نفسها.

واشتغل بايدن بدءاً من منتصف شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 على بناء استجابة غربية جماعية للغزو الروسي الذي كان مرجحاً. وقد أحاط مسؤولو الاستخبارات الأميركية الحلفاء علماً بخطط بوتين، وتشاركوا معهم معلومات حساسة لا يطلع عادة حتى كبار المسؤولين الأميركيين. وانخرط الدبلوماسيون الأميركيون مع نظرائهم في رسم خريطة حزم العقوبات المحتملة. والتقى القادة العسكريون الأميركيون مع [قادة] حلف الناتو والحلفاء الآخرين لمناقشة كيفية تحسين الجاهزية وإعداد مساعدة أمنية محتملة لأوكرانيا. وعكست هذه الدبلوماسية المضنية الاقتناع بأن تقديم مطالب للحلفاء سيؤدي إلى نتائج عكسية. واحتاجت واشنطن بدلاً من ذلك إلى إعطاء الحلفاء الوقت والفضاء الكافيين لاتخاذ قراراتهم بأنفسهم. ولم يكن بايدن يسعى إلى كسب التقدير على قيادته الاستثنائية، بل كان يسعى إلى تشكيل استجابة غربية موحدة يمكنها أن تفي [بالمتطلبات] الراهنة.

هكذا، تم تحقيق هذا الهدف الأولي بسبب جسارة ما حاول بوتين أن يفعله. ولو أنه استولى ببساطة على جزء آخر من أوكرانيا، كما فعل حين وضع يده على شبه جزيرة القرم، فلربما كان قد ترك بايدن يواجه حلف الناتو منقسماً حول ما إذا كان الخط الأحمر قد تم تجاوزه أم لا، بيد أن بوتين لم يبق أي مجال للشك بشأن الخطورة البالغة لأفعاله حين اختار أن يقوم بغزو شامل.

معاً أقوى

ولكن، لكي ينجح نهج بايدن، يجب عدم السماح للجبهة الغربية الموحدة ضد الغزو الروسي بأن تضعف أو تتآكل مع تقدم الحرب. تقف عقبات عدة في وجه الحرب، فبوتين سيحاول من دون شك أن يستغل الانقسامات ضمن التحالف، وقد تنشأ خلافات حول الخطوات الواجب اتخاذها لاحقاً أو بشأن التنازلات التي ينبغي تقديمها، وستتحمل الدول بشكل غير مُتساوٍ حتماً عبء معاقبة روسيا، ما سيذكي الاستياء والخلاف. وكما حذر كينان، ستتضاعف هذه المشاكل إذا ردت الديمقراطيات بغضب بالغ فلم تلحق الضرر بالخصم وحده، ولكن أيضاً بنفسها. وهذا ما يمكن أن يحصل إذا تحول الهدف من استعادة سيادة أوكرانيا واستقلالها إلى سياسة فعالة لتغيير النظام في روسيا. من الممكن القيام بقدر أكبر بكثير، وكذلك أقل بكثير، مما يجب.

سيتطلب حل هذه التحديات وجود دبلوماسية ماهرة. وبينما يحاول القادة في واشنطن وبروكسل وطوكيو وعواصم أخرى التعامل مع مشكلات كهذه، يجب عليهم أن يتطلعوا إلى إضفاء طابع رسمي على التعاون الذي حفزته وحشية بوتين، وذلك من خلال خلق نواة تحالف جديد للديمقراطيات الذي لطالما دعا إليه كثيرون. من المرجح أن يكون هناك في السنوات المقبلة المزيد من التهديدات الجيوسياسية، مثل الانتقام الروسي، التي ينبغي التصدي لها عن طريق تعاون مؤسساتي قوي ضمن الديمقراطيات الكبرى. ولأن الوحدة تولد القوة، يجب على الدول الغربية أن تحسن دفاعاتها المتبادلة وتعمق علاقاتها الاقتصادية، بما في ذلك عبر إشراك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الاتفاق التقدمي الشامل للشراكة عبر المحيط الهادي والتفاوض على حلف استثماري وتجاري. وكخطوة أولى، يجب عليهم توسيع نطاق مجموعة السبع لكي تشمل أستراليا وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، الأمر الذي من شأنه أن يجمع الديمقراطيات الكبرى المتقدمة في أميركا الشمالية وأوروبا وآسيا تحت مظلة واحدة، ويوفر ثقلاً قوياً يمكنه أن يوازن الضغوط التي تعصف بالدول الديمقراطية كافة. ويجب على الغرب أن يتمترس استعداداً لخوض معركة أطول، ذلك أن تحدي بوتين للمصالح والقيم الغربية لن يكون الأخير بأي حال من الأحوال.

إيفو إتش. دالدير هو رئيس مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، وقد خدم كسفير أميركي لدى الناتو من 2009 إلى 2013.

جيمس إم ليندسي هو النائب الأول للرئيس، ومدير للدراسات، في مجلس الشؤون الخارجية.

وهما المؤلفان المشاركان لـكتاب "العرش الفارغ: تنازل أميركا عن القيادة العالمية".

مترجم من فورين أفيرز، أبريل (نيسان) 2022

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل