Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل نطق "متحدث الكرملين" بهواجس رئيسه؟

تصريحات بيسكوف حول "المأساة الروسية" في أوكرانيا تشعل الجدل: غباء أم خيانة؟

بوتين قال إنه يقف مشدوهاً تجاه ما ينطق به بيسكوف باسمه في بعض الأحيان (أ ب)

تباينت تقديرات الساحة الروسية تجاه ما أعلنت عنه المصادر الرسمية من تقدم على صعيد العمليات القتالية في جنوب شرقي أوكرانيا، بقدر تباين مواقع أصحابها، لا سيما بين ممثلي الأوساط السياسية والإعلامية في روسيا وخارجها. وإذا كان كثيرون من أصحاب الرأي الآخر، الرافض للعملية العسكرية الروسية، سارعوا إلى مغادرة البلاد أو اكتفوا بالرفض المكتوم، فإن المتابع لتحركات ومفردات الإعلام الروسي يمكنه أن يلمس قدراً من التغيير في اتجاه الاعتراف بالمستجدات التي تأتي على طرفي نقيض مما كانت موسكو وضعته في صدارة أهداف هذه العملية العسكرية.

لكن المثير للدهشة أن هذه المتغيرات صارت تصدر في الآونة الأخيرة عن شخصيات ومصادر وثيقة الصلة بالكرملين، بل ومنها من يمثل الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً على الصعيد الرسمي من جانب، وبين ضيوف البرامج الحوارية من المعلقين والمراقبين المحسوبين على النظام الرسمي والكرملين، من جانب آخر.

بداية، نتوقف عند ما أعلنته المصادر الرسمية الروسية حول ما تحقق من نجاح على صعيد المواجهة العسكرية، وما أسفر عن سقوط ماريوبول، الحصن العسكري الاستراتيجي الأكثر أهمية في جنوب شرقي أوكرانيا، ووقوع 1026 أسيراً من عناصر مشاة البحرية، التي يعتبرونها من أبرز المقاتلين الأوكرانيين، ومعهم عدد من المرتزقة الأجانب. وقد جاء ذلك مواكباً لما أعلن عنه الرئيس فلاديمير بوتين حول أن "العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ستحقق مهامها وأهدافها من دون أي شك". وكشف بوتين عن أن "صدام روسيا مع القوى المناهضة لها في أوكرانيا، كان حتمياً"، مشيراً إلى ما سبق ووضعه في صدارة المهام المستهدفة من وراء هذه العملية العسكرية، ومنه وأد النزعات النازية، التي قال بوتين إنها "نمت وترعرعت تحت سمع وبصر السلطات الرسمية" منذ الإطاحة بالرئيس الأوكراني الأسبق، فيكتور يانوكوفيتش، فبراير (شباط) 2014. وجاءت بوادر سقوط ماريوبول على ضفاف بحر أزوف، لتشد من أزر القوات الروسية.

لكن ما احتدم من جدل في أعقاب سقوط ماريوبول، وانفجار مشكلة القبض على المعارض الأوكراني البارز، فيكتور ميدفيدتشوك، المعروف بعلاقاته الوثيقة مع الرئيس بوتين، وما واكب ذلك من رفض الرئيس فلوديمير زيلينسكي استقبال نظيره الألماني، فرانك شتاينماير، مع وفد رؤساء بولندا وبلدان البلطيق، وما سبق ذلك من اعتراف المستشار النمساوي، كارل نيهامر، بفشل مباحثاته مع الرئيس بوتين، زاد من حدة البلبلة وتضارب التصريحات في الساحة السياسية الروسية والأوروبية، على المستويات كافة، ومنها النسق الأعلى للسلطة.

بيسكوف.... حمامة سلام!

أثارت تصريحات المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، التي أدلى بها في معرض حديثه لقناة "سكاي نيوز" حول أن القوات الروسية تكبدت خسائر كبيرة، كثيراً من الجدل داخل روسيا وخارجها، حول مدى عقلانية الإدلاء بمثل هذه الاعترافات في مثل هذا التوقيت بالغ الحرج. وكان الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، ومعه أندريه تورتشاك، السكرتير العام للمجلس التنفيذي لحزب "روسيا الموحدة" الحاكم، سارعا إلى انتقاد بيسكوف، في حين قال آخرون، إن الناطق باسم الكرملين، لم يكن ليدلي بمثل هذا الاعتراف من دون التنسيق مع الرئيس بوتين. وإذا كان هناك من حاول انتزاع الاعتراف من سياق ما تلاه من تصريحات، في محاولة للإيحاء بوجود ما يمكن وصفه بالانقسامات في النسق الأعلى للسلطة، إن ما أعقب ذلك من كلمات يمكن أن يفسر ما غمض أو استعصى على الفهم والتفسير.

وكان بيسكوف حرص على إلحاق وصف الخسائر بأنها "مأساة كبيرة"، بما قاله حول أن الجيش الروسي "يبذل قصارى جهده لاستكمال هذه العملية، التي ستحقق خلال الأيام القليلة المقبلة أهدافها أو تنتهي بمفاوضات بين الوفدين الروسي والأوكراني"، وهو ما أراد به أن يضع النقاط على الحروف، وإن كان ذلك لا يمكن أن ينفي أن ما اعترف به بيسكوف، كان رسالة يوجهها إلى كل من يهمه الأمر. وذلك تحديداً ما يمكن أن نلمسه فيما احتدم من جدل حول هذه التصريحات. فقد انبرى تورتشاك، أحد كبار قيادات الحزب الحاكم، ليعود بالذاكرة إلى سنوات الحرب العالمية الأولى، مستشهداً بما قاله بافيل ميليوكوف، أحد كبار السياسيين في ذلك الزمان، في تعليق له على موقف مماثل مفاده "هل هذا غباء أم خيانة؟".

تورتشاك مضى ليحذر من مغبة الإدلاء بتصريحات على غرار تلك التي أسفرت آنذاك عن "خراب البلاد وسقوط الملايين من الضحايا، والهزيمة في الحرب، وما كان بداية للحرب الأهلية". ومن وجهات النظر المعارضة لتفسير تورتشاك، نتوقف عند ما قاله جليب بافلوفسكي، المستشار الأسبق لرئيس ديوان الكرملين، الذي انتقل إلى صفوف المعارضة، حول أن "بيسكوف يدعم خط بوتين في مفاوضات السلام في الوقت الذي يمارس فيه الضغط العسكري على كييف"، بينما "يعارضه أولئك الذين يريدون إطالة أمد العملية العسكرية الخاصة، لأسباب مختلفة". وخلص بافلوفسكي إلى القول إنه "من السخف الافتراض أن السكرتير الصحافي للرئيس يستطيع التحدث، معبراً عن آرائه الشخصية". ومع ذلك، ومن منطلق ضرورة اعتماد أسس نظرية الشك الديكارتي أساساً لا يمكن استبعاده لدى التحليل السياسي، نجد ضرورة للاستشهاد بما سبق وقاله بوتين حول أنه يقف مشدوهاً تجاه ما ينطق به بيسكوف باسمه في بعض الأحيان، في إشارة إلى أن ما يقوله بيسكوف ليس حتماً أن يتفق مع قناعاته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثمة من يقول، إن ما يدور في الساحة السياسية على الصعيد الرسمي لا يمكن أن يكون تعبيراً عن انشقاق حقيقي، بقدر ما قد يبدو في إطار عملية طالما شخصت حقائقها ومفرداتها بما يصفونه بـ"توزيع الأدوار"، وهو ما نلمسه لدى متابعة البرامج الحوارية على شاشات القنوات الإخبارية الرسمية، ومنها "روسيا- 1" و"روسيا- 24". وفي هذا الصدد نشير إلى ما قاله فلاديمير سولوفيوف، أحد أبرز نجوم الإعلام الروسي الرسمي، حول تقديره أهمية نتائج "العملية العسكرية الخاصة". قال سولوفيوف اعتراضاً على استنتاج أحد ضيوفه في إحدى الحلقات الأخيرة لـ"أمسية مع سولوفيوف"، إن "هذه العملية لن تضع حداً لعالم القطب الواحد"، بما يعني استبعاده ما سبق وقاله سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسية، حول أن "هذه العملية ستضع حداً للهيمنة الأميركية". كما قال أيضاً، إن "العملية التي كانت تستهدف الحد من توسع الناتو، يمكن أن تسفر نتائجها عن توسع الأخير إلى ما هو أبعد من حدوده الحالية"، في إشارة إلى احتمالات انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الذي يمكن أن يكون بذلك على مقربة مباشرة من الحدود الروسية. أما ما لم يقله سولوفيوف، وخلص إليه آخرون في عدد من البرامج الحوارية الأخرى، فهو أن القوات الروسية فرغت من مهمتها الأولى، التي تمثلت في كسر قدرات الجيش الأوكراني، وتشتيت قواه العسكرية، لتتحول لاحقاً صوب تحرير ما بقي من أراضي منطقة الدونباس، في إطار الحدود الإدارية التاريخية لجمهوريتي "لوغانسك ودونيتسك"، المعترف بهما من جانب موسكو، وهو ما تبدو على مقربة من تحقيقه.

شخص غير مرغوب فيه

في المقابل، فإن المتابع لتصريحات الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، يلمس الشيء ونقيضه. وقد توقفت الأسرة الأوروبية ومعها المجتمع الدولي طويلاً أمام تصريحاته الأخيرة، التي اعتبر فيها الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، شخصاً "غير مرغوب فيه" في أوكرانيا، وكان الرئيس البولندي، أنجي دودا، اتفق مع شتاينماير حول زيارة يجريانها مع رؤساء بلدان البلطيق الثلاث، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، إلى كييف إعراباً عن التأييد والتضامن في معركتها مع موسكو. لكن زيلينسكي اعترض على انضمام شتاينماير للوفد على اعتبار أنه على علاقة طيبة مع روسيا، على الرغم من كل ما بذله شتاينماير من جهود لتقريب وجهات النظر بين روسيا وأوكرانيا من موقعه السابق كوزير للخارجية في إطار "مجموعة نورماندي"، وهو ما أثار كثيراً من السخط المكتوم في الأوساط الألمانية والأوروبية.

مع ذلك، فقد ظهر في الساحة السياسية الأوروبية من اعتبر أن الإعراب عن مثل هذا الموقف من الرئيس الألماني في مثل هذا التوقيت يستهدف ضمناً إرسال ما هو أكثر من رسالة إلى المستشار الألماني، أولاف شولتز، في صيغة تتسم بالعجرفة، على حد تعبير مراقبين في موسكو.

وثمة من يقول، إن ذلك "غيض من فيض"، فأن يضع فلوديمير زيلينسكي أولاف شولتز في موقف بالغ الحرج، وهو الذي كان وعد أوكرانيا بالمزيد من الدعم المالي والعسكري، اضطر الأخير إلى الإعراب عن دهشة مفعمة بكثير من الإدانة لخطوة الرئيس الأوكراني، التي اعتبرها "إهانة"، وصفها بأنها "غير محترمة" سياسياً. ومن هذا المنظور يتوقع مراقبون في موسكو قدراً من الفتور الذي لا بد أن يعتري علاقات الشركاء الأوروبيين، في وقت من المنتظر أن تتسم الأوضاع في جنوب شرقي أوكرانيا بما تتوقعه موسكو من ارتباك في صفوف القوات الأوكرانية، على وقع تعزيز وتقدم القوات الروسية لاستكمال مهمة فرض كامل السيطرة على أراضي منطقة الدونباس، مع بقاء احتمالات المزيد من التقدم في اتجاه توسيع رقعة توسعاتها في منطقة خيرسون حتى أوديسا، النقطة الأخيرة المطلة على ضفاف البحر الأسود.

ذلك ما أشار إليه سيرجي ماركوف، الباحث السياسي الروسي، الذي كان حتى الأمس القريب ضمن فريق الخبراء السياسيين المحسوبين على الكرملين، في حديثه لصحيفة "موسكوفسكي كومسومليتس". قال ماركوف، إن الغموض لا يزال يكتنف كثيراً من جوانب الخطة الروسية، وإن ظلت احتمالات استمرار القتال واردة، بموجب "الخطة الأميركية" التي تقضي بمواصلة دعم القوات الأوكرانية ومساعدتها على الصمود في مواجهة القوات الروسية. إلى جانب "احتمالات اتحاد جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، ومنطقة خيرسون، ومنطقة زابوروجي، وتوفيرها ممراً برياً لروسيا إلى شبه جزيرة القرم، والسيطرة على قناة شمال القرم"، على حد توقعات سيرغي ماركوف.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل