Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كاتبة نيويوركية شاركت في الحرب العالمية وكتبت "رحلات إلى الجبهة"

إديث وارتون تفاجئ الفرنسيين بعد أن "اكتشفوها" لدى بروست وفي "عصر البراءة"

إديث وارتون (1862 – 1937) (مكتبة جامعة يال)

من المؤكد أن قلّة من القراء الفرنسيين كانت تعرف الكاتبة الأميركية إديث وارتون، أو سمعت باسمها قبل أن يقتبس مارتن سكورسيزي روايتها "عصر البراءة"، أواخر القرن العشرين في فيلمه "الأرستقراطي" الذي أتى لديه كنوع من التمهيد لفيلمه الكبير "عصابات نيويورك" الذي أتى من ناحيته شريطاً عن الحثالة التي أسهمت في مواجهة أرستقراطية المدينة في بناء هذه التي اعتبرت دائماً على أية حال الأكثر أوروبية بين مدن العالم الجديد، بل حتى الأكثر فرنسية، كما سيستنتج كثر.

شخصية بروستية عابرة

لكن هؤلاء الكثر لن يتنبهوا سريعاً إلى أن إديث وارتون كانت من أوائل من توصلوا إلى ذلك الإستنتاج، بل سيفوتهم أن الكاتبة النيويوركية بامتياز مرت عبورا في واحد من أهم نصوص كاتبهم المفضل مارسيل بروست، ولكن دون أن يمنحها الاحترام أو المكانة اللذين تستحقهما. وسيفوتهم ما هو أهم من ذلك: وهو أن وارتون قد عاشت معظم القسم الثاني من حياتها في فرنسا، فكانت رائدة بين أبناء تلك الأجيال المتتالية من المثقفين الفرنسيين الذين انتقلوا للعيش في باريس بخاصة، وفرنسا بعامة، قبل من سمي "الجيل الضائع" من أمثال إرنست همنغواي وسكوت فيتزجيرالد وجردرود شتاين وغيرهم من الذين جعلوا باريس مربط خيلهم وصورهم وودي آلن ببراعته المعهودة في فيلمه "منتصف الليل في باريس". غير أن هؤلاء جميعاً سبقتهم وارتون، وغالباً في معية هنري جيمس بخاصة، بعد أن انفصلت عن زوجها في باريس عام 1913، وكانا قدما للعيش فيها منذ عام 1907، وكانت هي في الخامسة والأربعين.

"فرنسية" من نيويورك

حسناً، كل هذا كان يبدو من التاريخ المعروف حين التقى الفرنسيون بفضل السينمائي سكورسيزي بأدب إديث وارتون (1862 – 1937) للمرة الأولى، فأدهشهم بأوروبيته، ولكن قبل أن تدهشهم بقية الحكاية، حيث اكتشفوا "عبورها" لدى بروست، ثم كونها ماتت ودفنت في فرنسا بعد ثلاثين عاماً من مجيئها إليها، ولكن كل ذلك سيكون ضئيلاً أمام ما سوف يكتشفونه لاحقاً من كون الكاتبة المغامرة والحاذقة التي وجدت من الوقت خلال النصف الأول من حياتها ما يكفيها كي تكتب رباعية نيويوركية تعتبر اليوم من أشهر ما كتب عن المدينة الأميركية - الفرنسية حتى اليوم، من كونها شاركت في الحرب العالمية الأولى إلى جانب القوات الفرنسية، ثم كتبت عن ذلك نصاً اشتهر في حينه قبل أن يطويه النسيان ليعود إلى الحياة ويترجم إلى الفرنسية وينشر في عام 2007 بعنوان "فرنسا تخوض الحرب 1914 – 1915". ولعل علينا أن نوضح هنا أن صاحبة "عصر البراءة" لم تخُض الحرب مقاتلة، بل أولاً ممرضة ومواسية للجنود الفرنسيين الذين كانوا قد راحوا يتدفقون آتين من الشمال الذي كانت القوات الألمانية تغزوه وتتقدم فيه. غير أنها لن تكتفي لاحقاً بذلك كما تفيدنا صفحات هذا الكتاب الذي صيغ بلغة شديدة التعاطف مع فرنسا، وكل ما يمثله هذا البلد، بل ستتوجه إلى الشمال، حيث تدور المعارك، ويشتد القتل والخراب لتعيش مع الحنود الفرنسيين في الخطوط الأمامية مباشرة.

شاركت الفرنسيين أحزانهم

يومها، وكما تفيدنا صفحات الكتاب المكتوبة بلغة تجعل القارئ يعيش القتل والحرائق مباشرة ويجد نفسه يتنشق رائحة الدخان والبارود، وإذ نصبت وارتون نفسها مراسلة حربية، راحت تبعث بشكل منتظم إلى إحدى أكثر المجلات النيويوركية شعبية، مقالات تتحدث فيها عن الحرب وعن شجاعة المواطنين والجنود الفرنسيين، كما عن استشهاد مدن ودساكر فرنسية مثل آغون ونور اللتين عاشت على تخومهما أياماً لم تُبال بخطورتها وصعوبتها. فهي هناك راحت تقاسم السكان والجنود أحزانهم الكثيرة وآلامهم وتعبر عن فرحهم، سواء حين يسترد جنودهم ولو أمتاراً قليلة من التربة الوطنية، أو حين توزع القيادة عليهم غرامات أقل من الطعام، أو بخاصة حين يأتيهم البريد العسكري شبه المنتظم برسائل من جبهات أخرى تطمئنهم على أبنائهم أو رفاقهم أو تحكي لهم عما يحدث في مناطق أخرى من الوطن. ولا يفوت وارتون، الخمسينية في ذلك الحين، ولكن الممتلئة شباباً ونضارة كما تصف نفسها بنفسها وهي تشعر، وربما للمرة الأولى في حياتها، أنها تتصرف هنا كـ"امرأة حرة" حررتها الحرب كما حررتها "شجاعة الجنود وصمود السكان". وهو ما شعرت بعدواه حتى وهي تنزل مع الجنود داخل الخنادق تتسقط الأخبار من الميدان مباشرة كي ترسلها "طازجة" إلى قراء أميركيين، بل بخاصة نيويوركيين كانت تعرف أنهم باتوا يترقبون كل كلمة تبعث بها إليهم، ويعيشون الحرب يوماً بيوم مع "هؤلاء الفرنسيين الشجعان".

من الصحافة إلى الأدب الرفيع

ومع هذا، فإن أسلوب الكاتبة، وعلى الأقل في نظر أولئك الذين تمكنوا من مطالعة مقالاتها تلك يوم نشرت وعلقوا عليها، لم يكن صحافياً تحقيقياً، بل كان بالأحرى أدبياً، ولا سيما عندما كانت الكاتبة تتوقف ملياً عند لحظات هدوء على الجبهة لتتابع الحياة اليومية التي يعيشها الجنود، وكأنهم شخصيات في روايات تتحدث عن الحرب من بعيد حاملة في طيات الحرب والقتال آمالاً مستقبلية يعيشها الجنود ناسين من حين لآخر التهديد الذي يترصدهم في كل ساعة وحين، بل إن أسلوب إديث وارتون الأدبي الفخم، الذي يمكن لمن يشاء التفاعل معه أن يعود إلى قراءة نصوصها النيويوركية التي تكاد تكون باروكية، هذا الأسلوب سرعان ما يقفز إلى واجهة الصورة حتى في صفحات هذا الكتاب الحربية، حين تتوقف واتون مطولاً شاحذة همة قلمها وهي تتحدث عن كاتدرائيات فرنسية في مدن الشمال صبّ عليها العدو "غير المتحضر كما تقول عنه في مثل هذه المناسبات" قذائفه ونيرانه الآتية هنا لـ"لتفتك بما بنته حضارة الإنسان طول مئات السنين في دقائق قليلة". ومثل هذا يمكننا أن نقرأه بقلمها حين تتحدث مثلاً عن كاتدرائية مدينة ريمس التي قصفتها القوات الألمانية "غير مُبالية لا بكونها صرحاً دينياً، ولا بكونها من بقايا تاريخ مجيد".

ومن المؤكد أن في مقدورنا أن نقول هنا كم أن تلك المقالات وقبل أن تجمع في كتاب لاحقاً وتترجم إلى الفرنسية بعد زمن طويل، تمكنت من أن تجند الذهنيات الأميركية النيويوركية بخاصة، ليس فقط ضد الحرب التي يخوضها الألمان ضد الفرنسيين شعباً وحضارةً، بل ضد الحروب بشكل عام، موضحة كيف وكم أن "الحروب لا تسفر في نهاية المطاف إلا عن القتل والدمار" كما عن "الكشف عن الوجه الحيواني لبشرية يبدو من الصعب عليها أن تعثر على وسيلة أخرى غير هاتين الوسيلتين لحل مشكلاتها التي من المؤكد أن التاريخ سوف يكشف حجم تفاهتها!"، كما تقول الكاتبة في واحد من تعليقاتها الكثيرة على الحرب و"مشاركتها فيها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مشاركة إنسانية ميدانية

بقي أن نذكر هنا، في رصيد وارتون أيضاً، أنها حتى خارج وجودها في الجبهة وإيصالها الرسائل المؤثرة إلى القراء الأميركيين، عرفت الكاتبة كيف تستفيد من الثروة التي أمنها لها زواجها، ومن ثم طلاقها، كما من تلك التي درّتها عليها حقوق كتبها، كي تهتم بضحايا الحرب الآخرين خارج جبهات القتال، أي بأولئك البائسين الذي وجدوا أنفسهم بفعل الحرب، مشردين جائعين ومرضى، ولا سيما من بين النساء، فراحت تؤسس المشاغل والمحترفات لفتيات يتعلمن الخياطة لينتجن ثياباً تقدم للبائسين، أو تباع للقادرين لتنفق على آلاف المحتاجين، وذلك قبل أن تفتتح في مرحلة تالية عدداً من المآوي للنساء والأطفال تحت اسم "مآوٍ أميركية للاجئين" ستدور في عديد من الولايات الأميركية لاحقاً لجمع المساعدات المالية وغير المالية لها، وهو الأمر الذي مكّنها من أن تنقذ مئات اللاجئين، ولا سيما نحو 600 طفل من يتامى الحرب من الفاقة والعوز. ونعرف أن الحكومة الفرنسية منحتها في عام 1916 وسام جوقة الشرف من رتبة فارس مقابل تلك الخدمات، غير أن ذلك كله سرعان ما نسي حتى بعثه المخرج مارتن سكورسيزي إلى الذاكرة من جديد حين حقق "عصر البراءة"، فاكتشف الفرنسيون تلك السيدة التي تكمن خلف ذلك العمل الأدبي النيويركي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة