Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القمح... حكاية مصرية ازدهرت وتلاشت

مر إنتاج المحصول الذهبي بخط بياني بين الصعود والهبوط عبر العصور وانتهى به المآل إلى خضوعه لمتغيرات خارجية

اقترب موسم حصاد القمح في مصر بينما تبحث البلاد عن بديل للاستيراد من روسيا وأوكرانيا   (أ ف ب)

حكاية القمح في مصر ومع المصريين طويلة ومثيرة ولا تخلو من دموع وآهات. الآهات الأحدث هي تلك الناجمة عن حرب روسيا في أوكرانيا وما نتج من ذلك من نظام عالمي جديد آخذ في البلورة ورغيف مصري عتيق آخذ في المقاومة والمراوغة. فهو تارة يتقلص ويتقزم ويخشى عليه المراقبون من الهزال، وأخرى يتلون ويتموه بإضافة قدر من الذرة أو مقدار من الشعير. المهم أن الخبز المصري يتألم بتألم القمح ويستمد قوته ويستقي همته كلما لاح في الأفق أمل بعودة الذهب الأصفر إلى حقوله المغدور، التي تقف شاهد عيان على عقود من غض البصر الرسمي عن ولع العائدين من العمل في العراق ودول الخليج بالبناء على أراضيهم الزراعية، إضافة إلى زيادة سكانية محمومة وتمدد عمراني عشوائي هادر وغياب شبه كامل لعين القانون الساهرة والعقوبات الصارمة. وتكلل ذلك الواقع الهزلي إلى سباق محموم أعقاب أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 للإجهاز على ما تبقى من هذه الأراضي في ظل فراغ أمني وانشغال سياسي داما حتى عام 2014.

المباني العشوائية والخرسانة القبيحة والطوب الأحمر دقت مسماراً إضافياً في نعش أرض مصر الزراعية. القمح المغدور والرغيف المهدور يطلان على مصر بظلال ثقيلة بفعل حرب روسيا في أوكرانيا. فما إن دقت طبول الأرتال الروسية على الحدود ولاح في الأفق شبح حرب بين الدولتين اللتين تزودان مصر بـ80 في المئة من وارداتها من القمح، حتى انقلبت الأحوال رأساً على عقب.

القلق والخوف والتوتر والترقب مما قد ينجم عن توقف أو تعثر أو تأخر واردات القمح مفهومة ومتوقعة. التصريحات الرسمية المتأرجحة بين الطمأنة، حيث مخزون القمح يكفي أربعة أشهر وفي أقوال أخرى ستة أشهر وفي ثالثة حتى نهاية العام الحالي، وأن الوضع آمن إلى حد كبير، وأن البدائل في الاستيراد متاحة ومفتوحة طمأنت البعض لكن تسببت في مزيد من القلق للآخر.

فرق زمني كبير بين أربعة وتسعة أشهر. الحديث عن كفاية المخزون المتاح للقمح في ظل أزمة حرب كبرى طرفاها هما المزودان الرئيسان لمصر من القمح عماد الرغيف ودعامة الأمان المجتمعي حديث مثير للقلق، لا سيما أن الإشارة إلى بدائل الدول المصدرة للقمح سواء كانت الولايات المتحدة الأميركية أو رومانيا أو فرنسا أو أستراليا أو غيرها ليست كافية لإزالة القلق. فآثار الحرب وشبح شح الغذاء وتهديدات الغلاء وقيود التصدير وصعوبات الاستيراد تلقي بظلالها على الكوكب برمته. وظلالها على مصر تعيد فتح جرح القمح الغائر وتستدعي شجونه التي اعتادت أن تطل برأسها كلما دقت على أبواب المصريين ورؤوسهم أزمة أو كارثة أو مصيبة، وهي كثيرة، وكما يقول المصريون "ياما دقت على الرأس طبول".

طبول الحرب

طبول حرب روسيا في أوكرانيا تعاود التنقيب في أرقام وإحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. الإحصاء الأحدث يشير إلى أن إنتاج الحبوب في مصر بلغ 21.9 مليون طن في عام 2019-2020 مقابل 21.8 مليون طن في 2018-2019 بنسبة زيادة قدرها 0.5 في المئة ترجع لزيادة إنتاج المحصول. كما بلغ إنتاج القمح في عام (2019.2020) 9.1 مليون طن مقابل 8.6 مليون طن خلال العام السابق بزيادة نسبتها 6.2 في المئة، بفضل زيادة المساحة المزروعة قمحاً والزيادة الإنتاجية لفدان القمح.

استهلاك متفاقم

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، قال وزير التموين والتجارة الداخلية المصري علي المصيلحي، "إن إنتاج مصر من القمح يتراوح بين ثمانية وتسعة ملايين طن سنوياً. لكن حجم الاستهلاك السنوي لا يقل عن 18 مليون طن سنوياً". يشار إلى أنه في الوقت الذي لا يتغير حجم الإنتاج المحلي السنوي كثيراً من أطنان القمح، يتصاعد ويتفاقم ويتضاعف الإنتاج المحلي السنوي من الرؤوس البشرية، حيث يضخ المصريون ما لا يقل عن 2.3 مليون مولود سنوياً، كما أن متوسط استهلاك المواطن المصري من القمح في العام الواحد يبلغ نحو 182 كيلوغراماً من المحصول، بحسب تأكيد مساعد وزير التموين والتجارة الداخلية إبراهيم العشماوي، وهو المتوسط الذي ينخفض إلى 72 كيلوغراماً فقط.

مواطنو الولايات المتحدة الأميركية – التي تتبوأ المكانة الرابعة في قائمة أكثر دول العالم إنتاجاً للقمح، يستهلك كل منهم سنوياً نحو 81.6 كيلوغراماً منه. يذكر أن الولايات المتحدة الأميركية كانت تنفق على قواتها وأنشطتها العسكرية في كل من العراق وأفغانستان، وقتما كانت في كامل وجودها في البلدين، ما يعادل ما تنفقه الحكومة المصرية على من أجل توفير القمح للمصريين.

حقائق مفزعة

الحقائق المفزعة التي اضطر المصريون لسماعها، بعد عقود من تجاهلها أو التقليل من حجمها أو تسييسها، بشكل مكثف منذ بدء حرب روسيا في أوكرانيا هي أن بلدهم هي المستورد الأكبر للقمح. وهذا يعني أموالاً باهظة، وأولويات متقلبة، وأحمالاً ينوء بها كاهل ميزانية الدولة ومواردها المحدودة.

بلغة الأرقام، استوردت مصر في عام 2020 نحو 12.9 مليون طن قمح بقيمة 3.2 مليار دولار، 80 في المئة منها من أوكرانيا وروسيا. وفي الـ11 شهراً الأولى من عام 2021، استوردت مصر 6.1 مليون طن قمح بلغت قيمتها 2.4 مليار دولار. وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، "فإن مصر اعتمدت خلال 2021 على القمح الروسي بنسبة 69.4 في المئة والأوكراني بـ10.7 في المئة، ثم الروماني 6.2 في المئة، ثم كل من أستراليا وفرنسا وليتوانيا والمالديف وكدنا والصين وكوريا الجنوبية.

النسب المئوية والأرقام الحالية التي تنهال على رؤوس المصريين تصيبهم بقدر بالغ من القلق. والسؤال الأكثر تردداً في اللقاءات الاجتماعية وعلى أبواب المخابز هو: وماذا عن محصولنا؟ البعض يلقى تبكيتاً حيث التذكير بحمى البناء على الأرض الزراعية، والآخر يقابل بلوم مبطن بسبب كتيبة الأطفال التي تحفل بها ملايين البيوت، على الرغم من شح الإنتاج وقلة الموارد وضيق ذات اليد، حيث فرص التعليم والصحة والسكن الجيدة تتقلص أمام السعي الحثيث لتوفير رغيف العيش لهذه الملايين الوليدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 لكن الإجابات تأتي على دفعات. يقول نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عمرو هاشم ربيع في مقال عنوانه "مصر والقمح الروسي" مارس (آذار) 2022، إن "المنتج المصري من القمح على الرغم من زيادته عام 2022 عن 2021، فإنه ما زال أقل من حيث الحجم من نظيره المستورد، ما يجعل هناك حتمية للعمل السريع على وجود بدائل داخلية وخارجية لتعويض حالة الاهتزاز المتوقعة في الأسواق العالمية، التي ستتأثر بها مصر بعد مرور الأشهر التسعة (عمر المخزون الاستراتيجي) منذ بداية العام الحالي". ويشير إلى "الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات المفروضة بسببها على روسيا ستؤثر بشكل كبير في مصر. هذا التأثير يأتي بسبب صعوبة الحصول على القمح من روسيا وأوكرانيا بسبب ظروف الحرب والعقوبات".

يضيف، "أن الارتباك طال أسواق القمح في العالم كله بسبب الحرب، وهو ما يجعل الحصول على بديل سريع بسعر مناسب أمراً غير وارد، لا سيما أن الحكومة المصرية كانت قد عقدت العزم على الاستمرار في الاعتماد على القمح الروسي". يشار إلى أن الأسابيع القليلة السابقة لاندلاع حرب روسيا في أوكرانيا شهدت بدء إجراءات شركة مصرية روسية لتداول الحبوب في البلاد، ومنطقة حرة لوجيستية بالتعاون مع روسيا لتخزين الأقماح بها.

ويذهب "ربيع" إلى "المطالبة بضرورة دعم الفلاح المصري الذي هو العماد والمنقذ والبديل في ظل الأزمة الراهنة والأزمات المتوقعة، إن لم يكن بسبب الحرب الحالية، فبفعل مغبة الاعتماد شبه الكلي على الاستيراد لإطعام ملايين الأفواه". ويشيد بالإجراء الذي انتهجته الحكومة المصرية في العامين الماضيين، وهو تحديد سعر إردب القمح (نحو 155 كيلوغراماً) بنحو 705 جنيهات (40 دولاراً أميركياً بالسعر الجديد)، وهو السعر الذي شجع الفلاح على زراعة القمح بشكل أكبر. لكنه الباحث يرى "أن هذا الإجراء يحتاج إلى مزيد من التعميم على أن تلحق به إجراءات أخرى من شأنها أن تعيد الفلاح المصري إلى الحقل المهجور وقمحه المهدور".

موسم الحصاد

 أيام قليلة، ويحل شهر أبريل (نيسان)، موسم حصاد القمح. اليوم، يشير إليه المصريون باعتباره "وقتاً"، لكن من بقي على قيد الحياة من أجداد وجدات لا يعتبرونه وقتاً، بل موسماً وسيد المواسم.

سيد المواسم محفور ومكتوب ومؤرخ على جدران مصر القديمة. على مدار آلاف السنوات وحتى عقود قريبة مضت، كان المصريون يحتفلون بحصاد القمح عبر احتفالات وأفراح شعبية تعم أرجاء البلاد. طقوس كثيرة ابتدعها الأولون في مصر الفرعونية، وسار على نهجها الأحفاد الذين طوروها وحدثوها، لكن روحها الاحتفالية ظلت محتفظة بالوهج نفسه ومحصولها الذهبي ظل سيد المحاصيل لا ينافسه إلا الذهب الأبيض أي القطن، وإن كانت منافسة تكاملية أكثر منها عدائية. أهازيج وأناشيد، ملابس ملونة ومشاعر مبتهجة، حفلات زواج وولائم وذبائح وخير وفير ناجم عن محصول استراتيجي كان يحقق لمصر اكتفاءً ذاتياً ويوصف بـ"دونه الرقاب".

رقاب ورغيف

رقاب الحكام وحكوماتهم التي تعرضت لخطر الغضب الشعبي الدامغ في ثورات وتوترات شعبية على مدار قرون بسبب "رغيف العيش" تظل تلوح في الأفق العالمي كلما نشبت أزمة هنا أو كارثة هناك أو حرب تلقي بظلالها هنا وهناك.

وبينما اختيارات الأغنيات التي تذاع على القنوات والإذاعات المحلية تقترب من أغنيات القمح وحصاده وموسمه في "يوم عيده" استعداداً وتأهباً لا للموسم فقط، بل لعلها تطمئن المستمعين وتهدئ من روع المشاهدين المترقبين لمصير القمح في ضوء الحرب الدائرة رحاها، التي دفعت رئيس برنامج الأغذية العالمي ديفيد بيسلي قبل أيام إلى التحذير من "أن الصراع الحالي يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم، ما سيكون له تأثير فادح على سكان الدول الفقيرة"، مشيراً إلى "أن أوكرانيا وروسيا مصدران رئيسان للمواد الغذائية الأساسية، وأن الحرب أثرت بالفعل في إنتاج المحاصيل، بالتالي ما يشهده العالم حالياً من ارتفاع غير مسبوق في الأسعار".

 ما قاله بيسلي عن "تعرض مزيد من الناس حول العالم لخطر المجاعة" وأن "الوضع سيكون شديد الفداحة وكأنه الجحيم على الأرض"، يقابل من قبل المصريين بتمتمات وحوقلات تعكس قلقاً مع قدر غير قليل من التسليم بقضاء الله وقدره.

القضاء والقدر

القضاء والقدر اللذان يحيطان بالكوكب ودوله، بينها مصر وحقولها وقمحها واحتياجات سكانها الذين كسروا حاجز الـ102 مليون، لا يتعارضان وإعادة النظر في منظومات كونية عدة، ظن البعض أنها أمور مفروغ منها أو أنها تحصيل حاصل، لكن الحرب ربما تكون فقاعات في مهب الريح. أوكرانيا وروسيا كانتا حتى الأمس القريب "سلة خبز أوروبا"، حيث ربع إنتاج قمح العالم ونصف منتجات عباد الشمس ناهيك عن الذرة وغيرها من الخيرات، لكنها أصبحت تحت رحمة الحرب ومجرياتها.

ومصر التي كانت "سلة غلال الإمبراطورية الرومانية" وفي أقوال أخرى "سلة غذاء العالم" في العصور القديمة، وكانت تحقق اكتفاءً ذاتياً من القمح وتصدر الفائض حتى ستينيات القرن الماضي، تجد نفسها ورغيفها أيضاً قيد مجريات الحرب من جهة وقرارات الحكومة المصرية وتحركاتها من أخرى.

أي تحرك، أو إشارة أو أثر أو تأثر ذي علاقة بالقمح والرغيف يجد نفسه تحت مجهر شعبي وأمني بالغ الدقة والخطورة. لذلك فإن تسييس رغيف العيش يظل سمة أصيلة، فالخبز سيد موائد المصريين، وكلما هبطت المائدة في قاعدة الهرم الاقتصادي، كلما تسيد الرغيف وتوسع وأعلن هيمنته، إذ إن النمط الغذائي للمصريين قائم على 121 مليار رغيف يأكلها المواطنون سنوياً.

كمّ مذهل من الخبز

هذا الكم المذهل من الخبز جزء لا يتجزأ من كيان المصريين، وهو صمام أمان الفقراء وعنوان استقرار الملايين القابعة عند وتحت وفوق خط الفقر مباشرة. السنوات القليلة الماضية شهدت الهزات الحقيقية الأولى لنظام دعم الخبز المطبق منذ أربعينيات القرن الماضي، وزاد في الخمسينيات عقب ثورة يوليو (تموز) عام 1952، وهو الدعم الذي يعتبره ملايين المصريين أنه ضمن أبرز إنجازات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، على الرغم من أن دعم الرغيف كان أقرب ما يكون إلى مقايضته بالرضا السياسي والاجتماعي.

هذا الرضا حين وُضِع في خانة الاختبار في عام 1977، إبان حكم الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي حاول أن يقترب من رغيف العيش المدعم، أثبت أن المساس بالرغيف هو مساس بمصير البلاد والعباد، وهو ما تجلى في "انتفاضة الخبز" في هذا العام.

 الخبز المدعم الذي كان قائماً على محصول قمح محلي احتفظ بدعم الدولة له، على الرغم من تحوله السريع صوب نظيره المستورد. وظل شبح "انتفاضة الخبز" يطرح نفسه بشكل واضح طيلة العقود التالية، حتى أن الدولة المصرية خرجت عن المألوف واعتنقت اللامعقول باستمرار دعم الرغيف في ظل استمرار وتزايد استيراد القمح ضماناً لـ"الرضا السياسي".

خطوات خدش الخبز

 لكن خطوات خدش دعم الخبز التي انتهجها "الإصلاح الاقتصادي" الدائرة رحاه منذ عام 2016 وكان لابد منها تسارعت وتواترت حتى كادت منظومة الخبز المدعم تصل إلى أفضل صورة ممكنة لولا بدء الوباء في مطلع عام 2020. ومر عامان من عمر الوباء دون مشكلات كبرى تذكر في شأن رغيف العيش. لكن حرب روسيا في أوكرانيا تطرح تحديات لم تطرأ على بال حكومة أو خاطر شعب.

الشعب الذي يستعد لسماع أغنية "القمح الليلة" التي تتردد في موسم الحصاد كل عام بصوت الراحل محمد عبد الوهاب مغرداً "القمح الليلة ليلة عيده، يا رب تبارك وتزيده، عمره ما يخلف مواعيده، يا رب تبارك وتزيده" سيتوقف هذا العام عند الكلمات والمعاني. لم يعد القمح أغنية وتراثاً وموسم حصاد، لم يعد موجوداً بالمعنى الحرفي باستثناء جداريات المصريين القدماء. كما لم يعد القمح وتوافره وأنواعه أموراً مفروغاً منها ومضمونة. هذا العام، يراجع المصريون قمحهم والعودة إلى زرعه وحصاده ورغيف عيشهم كما لم يراجعوها من قبل.

المزيد من تحقيقات ومطولات