Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أريد شراء روائي: في حل معادلة المال الخاص والثقافة

يجب الخروج من منطقة الطوباويات ومربع العنتريات السياسية وسياج الأفكار الدونكيشوتية ومواجهة ما يجري حولنا

المعادلة بين المال والثقافة معقدة جداً ولكنها ممكنة جداً (رويترز)

لا مال من دون ثقافة، المال الشفاف.

لا ثقافة من دون مال، الثقافة النقدية الحرة، أعني.

يجب الخروج من منطقة الطوباويات ومربع العنتريات السياسية وسياج الأفكار الدونكيشوتية ومواجهة ما يجري حولنا وفينا بأسئلة محرجة وجريئة.

الثقافة استثمار مالي قوي، والمال استثمار ثقافي عالٍ.

لكن، كيف يمكننا تحقيق هذه المعادلة الصعبة والحادة والخطيرة، إذ ليس من السهل المصالحة بين المال الخاص والثقافة، الثقافة النقدية التنويرية، بعد قطيعة دامت لقرون؟

الاستثمار في الثقافة لا يعني "شراء شاعر" أو "شراء روائي" أو "رهن سينمائي" أو "إطفاء عين مصور" أو "تحويل مسرحي إلى مهرج". والاستثمار في المال لمصلحة الثقافة لا يعني "الخنوع"، ولا يعني "مد اليد"، ولا يعني "الجلوس عند عتبة القصر" أو في "أحضان صاحب المال والأعمال".

المعادلة بين المال والثقافة معقدة جداً، ولكنها ممكنة جداً.

الثقافة الجادة تخلق عقلاً مالياً جاداً. والمال الخاص الجاد كفيل بتمتين جذور الثقافة المقاومة النقدية. ومن دون شك، تتدخل في هذه المعادلة السياسة ويتسلل ذوو القرار الأول في تمتين أو تعطيل هذه العلاقة، في دعمها أو إفشالها، في تثمينها أو تسفيهها.

بدءاً، علينا أن نعترف بأن البلد الذي يعمّه الفساد السياسي والاقتصادي والمالي، وتغيب عن مؤسساته الشفافية في تسيير الشأن العام، عادة ما تغيب الثقافة، ليست أي ثقافة، أو تُغيّب أو تُهمّش أو تُعاقب.

البلد الذي يعم فيه الفساد وتتحكم في مفاصل آليات المال والأعمال مجموعة من الفاسدين والانتهازيين وناهبي الأموال العامة هو بلد يُحارَبُ فيه صوت المثقف النقدي وتحارب فيه كل أشكال الثقافة التنويرية ووسائطها.

المال الفاعل إيجاباً في المجتمع، وفي دورة الاقتصاد، يحتاج إلى ثقافة نقدية آتية من الفلسفة والأدب والموسيقى والمسرح والفن التشكيلي. والثقافة النقدية الفنية والفكرية المرافعة عن القيم الإنسانية والحرية الفردية والجماعية تحتاج إلى جو استثماري واضح ومكشوف اللعبة ومعروف الأطراف. الربح في الثقافة، كما في المال، ليس عيباً، إنما العيب هو الربح عن طريق الفساد في المال وإنعاش ثقافة الصمت أو الخنوع وتكميم الأفواه بالعطايا.

كلما صاحب المال الواضح والقانوني الثقافة مصاحبة اجتماعية وإسنادية وتعايش مع الانفتاح وحرية الرأي واحترام الاختلاف والمنافسة الحرة والشفافة، كلما كانت هذه الصداقة متينة ومتوازنة وحذرة، وكانت الثقافة في حال صحية جيدة، وكان المال ثروة منفتحة على الخير والاستثمار الصحي والقيم الإنسانية العالية.

كلما صاحبت الثقافة، وبكل حذر ونقد، المال الشفاف المؤسس على استثمارات واضحة، بعيدة من كل فساد أو هروب ضريبي أو تبييض، فإنها تستطيع أن تتعايش وتنتعش لأنها من دون شك ستكون في نهاية المطاف مستفيدة من هذه الحال المالية الصحية، كما تستفيد المجالات الأخرى من ذلك.

لعل المهمة الانقلابية الأولى التي تقوم بها الثقافة النقدية الفاعلة في معادلة المال والثقافة، هي أَخْلَقَة المال، في الاستثمار وفي التوظيف وفي الاستعمال. فالمال مهما كان ومهما كانت قيمته المادية هو من دون ثقافة عبارة عن "حزمة نقود وأكياس عملات نقدية". فالثقافة، ليست أي ثقافة، تمنح المال حزمة من القيم الإنسانية العالية التي تجعل منه منقذاً للفرد والمجتمع لا سبباً في هلاكه.

الثقافة والفنون هي التي جعلت البورجوازية الأوروبية في القرن التاسع عشر صديقة للفنون والآداب والعقل والجمال.

مع ذلك، على الثقافة أن تكون حذرة في العلاقة مع المال، لأن وهج المال قد يقطع اللسان ويغلق بصيرة النقد والتنوير.

من هنا، يبدو المال مساعداً مادّياً للثقافة. وفي هذه المساعدة، تقوم الثقافة النقدية بدورها في أخلقة المال الخاص الذي يتحوّل عبر الفعل الثقافي إلى مال لمصلحة عامة.

صحيح أن من مهمات الدولة دعم الثقافة، ولكن في عالمنا العربي والمغاربي كثيراً، بل في غالبية الأحيان، تختلط مهمات الدولة بطموح النظام السياسي القائم. لذا، فإن الدعم القائم للثقافة هو دعم نظام سياسي ما لها.

وحين يكون النظام السياسي ديمقراطياً وعادلاً وشرعياً، وهذا نادر في العالم العربي والمغاربي، فإن المال الخاص إن وُجد ورافق الثقافة دعماً ومساندة، فإنه لن يكون إلا المال النظيف الشفاف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع ذلك، علينا ألّا نسقط في الرؤية السوداوية التي تقوم بمحو وشطب كل ما هو مبادرات إيجابية في علاقة المال الخاص بالثقافة في العالم العربي والمغاربي. وعلينا قراءة هذه التجارب ونقدها ودعمها في الوقت ذاته. فمبادرة "مؤسسة عبد الحميد شومان" في الأردن لدعم العمل الثقافي والإبداعي وتأسيس جائزة خاصة بأدب الأطفال، ومبادرة "مؤسسة العويس" ممثلة بجائزة العويس الثقافية، ومبادرة شركة "زين" للهاتف النقال في السودان في تأسيس جائزة الطيب صالح للرواية منذ عام 2010، ومبادرة "مؤسسة ساويرس" بتأسيس جائزة لتدعم الأدب المصري، ومبادرة "شركة كومار" للضمان الاجتماعي في تونس بإنشائها جائزة كومار الذهبية للرواية منذ عام   1997 وغيرها، هي مبادرات خاصة بعيدة من مؤسسات الدولة والأنظمة، وهي في عملها هذا تقوم بوقفة إيجابية تجاه الإبداع الأدبي والثقافي.

صحيح أن مالاً كثيراً يتراكم بين أيدي وفي جيوب رجال الأعمال العرب والمغاربيين، إلا أن انتباههم للثقافة والآداب والفنون لا يزال ضيقاً. فهم لا يزالون يخشون الثقافة والمثقفين ويرون فيهم أعداء، باعتبار أن الأول/ صاحب المال يشتغل على المادة، والثاني/ المبدع المثقف يشتغل على القيم، ولا يزال المثقف يتوجس من كل مال أو دعم آتٍ من رجال الأعمال.

أمام هذا التوجس القائم بين المثقف ورجل المال والأعمال، وفي ظل غياب حل لمعادلة المال الخاص والإبداع الحر، نجد الدعم يذهب إلى جهات أخرى كالرياضة وبناء المساجد والجمعيات الخيرية، ويُحجب عن الثقافة والمثقفين. فدعم الرياضة والجمعيات الخيرية الدينية وبناء المساجد، هو توجه شعبوي غالباً ما يريد منه صاحب المال التستر على حالة ما، أو شراء الضمير الجمعي.

ويوم تعود العلاقة بين المال الخاص والثقافة الحرة النقدية بإنشاء مراكز ثقافية ومتاحف للفن التشكيلي ومكتبات وجوائز وإقامات للكتّاب والفنانين، في ظل جو من الحرية الفردية والجماعية، يومها سيتأخلق المال وستتموقع الثقافة بشكل فاعل من دون أن تفقد حاستها النقدية التي هي أساس وجودها، وسيتأسس من جراء ذلك فضاء سياسي مُأخلق أيضاً. 

المزيد من آراء