Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خفايا الحرب الأوكرانية وألغامها الكبرى

التحدي الاستراتيجي الكبير أمام موسكو هو تحدي الأرض

المحللون ودوائر الاستخبارات في الغرب والشرق منقسمون بالرأي حول ما الذي أدى إلى حرب أوكرانيا (رويترز)

الحرب انفجرت، وتوسعت، وتغلغلت، وضربت مدناً، ومرافئ، ومفاعل، وشردت ملايين، وعبأت دولاً، وباتت تقسّم الكتل الدولية، بشكل يعيد عالم القرن الـ 21 إلى انقسامات المحاور لما قبل الحربين العالميتين في القرن الـ 20. ولكن ما نراه على شاشات التلفزة ليس كل ما هو وراء الأحداث المتفجرة والمتلاحقة من روسيا إلى حدود الأطلسي، ولعله مفيد لقرائنا أن يطلعوا على بعض خفايا الحرب في أوكرانيا، والألغام غير المرئية لتطورها.

ماذا وراء حرب أوكرانيا؟

المحللون ودوائر الاستخبارات في الغرب والشرق منقسمون بالرأي حول ما الذي أدى إلى الحرب، الموقف الأطلسي العام يتهم قيادة الرئيس فلاديمير بوتين بالتخطيط لاجتياح أوكرانيا منذ سنوات، على أساس "هدف تاريخي" وهو إما استرجاع حدود الاتحاد السوفياتي، وإما إعادة إحياء الامبراطورية القيصرية الروسية. ويضيف الإعلام الأميركي والأوروبي أن بروز بوتين بعد عقد من انتهاء الحرب الباردة كان بمثابة رد فعل "للدولة العميقة" في موسكو ضد توسيع "الناتو"، وخسارة الجهوريات السابقة، وحتى أوروبا الشرقية، ويتهم الغرب الرئيس بوتين بأنه وجه أجهزته لزعزعة الشق الشرقي للحلف الأطلسي منذ قدومه إلى السلطة، ويشيرون إلى حربه ضد جورجيا في 2004، واجتياحه القرم في 2014، ودعمه منطقة دونباس الانفصالية، ونشر عدم الاستقرار في الدول الأوروبية والتدخل في سوريا في 2015.

وترد موسكو، وأصدقاؤها في العالم، أن بعض الدوائر الغربية وأجهزة "الناتو"، و"الدولة العميقة الأطلسية" هي التي عملت على ضرب روسيا لإخضاعها لمشيئة الغرب ومصالحه الاقتصادية، ويضيفون أن الأميركيين والأوروبيين دفعوا باتجاه توسيع "الناتو" شرقاً على الرغم من وعودهم أن الحرب الباردة قد انتهت، فنقلوا قواتهم تدريجياً إلى دول أوروبا الشرقية وبدأوا ينصبون الصواريخ فيها، فكان السؤال في موسكو، إذا فعلاً انتهت الحرب الباردة، لماذا هناك صواريخ وسلاح استراتيجي غربي ينصب من إستونيا إلى رومانيا؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النقاش امتد إلى واشنطن بين معسكر داخل الحزبين، لا يزال متمسكاً "بمواجهة الروس" وتمديد حرب باردة ضد "أجندة سوفياتية لم تنته"، ومعسكر من الانعزاليين (Libertarians) يتهم "نخبة اقتصادية حاكمة" بأنها تحمل أجندة شمولية Globalist تهدف إلى ضرب القوميات واستبدالها بهوية مصطنعة مالية، ويتفاقم الصراع الفكري في الغرب بين المدرستين، فينظّر "الليبراليون الجدد" بأن زعماء مثل دونالد ترمب وبوتين هم يؤججون القوميات المتطرفة، بينما يرد أخصامهم بأن مؤسسات كالاتحاد الأوروبي، و"الناتو"، والبنك العالمي هي بتصرف "النخبة العالمية المدمرة للوطنيات المستقلة"، والمفارقة أن حرب أوكرانيا أصبحت ساحة مصارعة بين المدرستين المتناطحتين داخل الغرب، معسكر يعتبر أوكرانيا ضحية لمخطط بوتين للهجوم على الغرب، ومعسكر يعتبر أوكرانيا رمحاً موجهاً إلى روسيا من قبل الغرب.

خطة موسكو

كما أسلفنا في مقالات سابقة، الخطة الروسية الأساسية بالنسبة لأوكرانيا اعتمدت على فكرة "استرجاع القرم والدونباس، وساحل بحر آزوف"، ومن ثم السيطرة على ما تيسر من أوكرانيا لفرض واقع يمنع الأطلسي من الاقتراب من الحدود الروسية. فالتقدم باتجاه كييف هو ورقة للضغط على الحكومة لتعترف بالمطالب الروسية، أدخلت قواتها في المدينة أم لم تدخل. أما التحدي الحقيقي فسيبقى السيطرة على مدينة ومرفأ أوديسا أم لا، لأن ذلك سوف يحسم الحرب استراتيجياً لصالح موسكو، ويبقى غالب البلاد حتى الحدود الأطلسية مع بولندا، وسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا. هنا ستراقب موسكو رد فعل "الناتو" وتقرر، إذا رفضت واشنطن وبروكسل الانتشار داخل أوكرانيا أو إقامة مناطق آمنة أرضاً وجواً، فقد تقوم القيادة الروسية بالتقدم نحو غرب أوكرانيا نحو الحدود مع أوروبا، هدف روسيا السيطرة المباشرة على الشرق والجنوب، واستبدال قيادة البلاد، وبقية الأهداف قد تتطور مع الوقت.

خطة "الناتو"

الغرب له خططه أيضاً، وتبدأ بمد الأوكرانيين قدر المستطاع، بالأسلحة المضادة للدبابات والطائرات، ووضع عقوبات غير مسبوقة على روسيا، من منع للطيران المدني، إلى سحب شركات عالمية من السوق الروسية، بما فيها "فيزا"، و"ماستر كارد"، ومنع التعامل مع المصارف، وشراء الإنتاج (ما عدا النفط والغاز حتى هذه اللحظة)، وغيرها من الإجراءات الحازمة والمؤلمة اقتصادياً، وتصعيد "العزل" الغربي دولياً وصولاً إلى قرارات دولية، وطرد روسيا من منظمات دولية، وهيئات مهنية، واجتماعية، ووضع اليد على ثروات روسية في الغرب، كما حوّل التحالف الغربي الملف إلى الأمم المتحدة، بما فيه مجلس الأمن والجمعية العامة.

حدود المعسكرين

بدأ يتضح من التطورات أن للمعسكرين حدوداً يصعب تخطيها مع الزمن. ولكل طرف نقاط ضعف وقوة. على الصعيد العسكري البحت سيكون الوضع صعباً، إن لم يكن مستحيلاً أن يكسر الجيش الأوكراني بمفرده، ومن دون دعم خارجي مباشر، القوات الروسية، ويدفعها خارج الحدود، إلا إذا حصلت تطورات داخل روسيا، وفي الوقت نفسه، يبدو صعباً على روسيا أن تحتل و"تهضم" كل أوكرانيا إلى الأبد، فالمقاومة الأوكرانية في مناطق غير ناطقة بالروسية، ستكون مستمرة بمساعدة غربية. لذا، فللطرفين حدود عسكرية معينة.

على الصعيد الاقتصادي، هناك أيضاً حدود للمواجهة، فالشعب الروسي بدأ يعاني من العقوبات الدولية، وتفيد التقارير بأن روسيا بإمكانها أن تتحمل الوزر المالي لثلاثة أشهر بعدها قد تشهد أزمة اقتصادية حادة، ولكن، بالمقابل، فإن الغرب أيضاً قد يبدأ باختبار سلسلة أزمات أهمها نفطية، وبعضها غذائية، وقد تصل إلى المالية. العقوبات قاسية على روسيا وبخاصة على صعيد الطبقة الوسطى وقطاع الشباب، ولكن التوقعات أن بعض ما ستخسره روسيا قد يتم تعويضه عبر معاملات مع الصين، التي قررت ألا تشارك في العقوبات، أخيراً وليس آخراً، فحرب المصارف قد تبدأ بإضعاف النظام المالي العالمي ككل، وليس فقط روسيا.

أما على صعيد القانون الدولي، فتجري أيضاً معركة في الأمم المتحدة، حيث تصدت روسيا لمشروع أميركي بالفيتو، فانتقلت المعركة إلى ساحة الجمعية العامة، التي صوتت أكثريتها لصالح التنديد، وعاد القرار لمجلس الأمن ليتصدى له الفيتو الروسي، والامتناع الاحتياطي الصيني، وهناك محاولات لإقحام المحكمة الدولية ومجلس حقوق الإنسان والـ "يونيسكو"، والمفارقة أن محاولات العزل المتبادلة باتت تهدد المؤسسات الدولية، الواحدة تلوى الأخرى، لذا، فبالخلاصة، المعسكران عاجزان حتى الآن عن إلغاء بعضهما، ولو أن الساحة الدولية هي لمصلحة أميركا بينما الوضع على الأرض يميل لصالح روسيا.

الأرض ستحسم

من سيستولي على أكبر رقعة، وبخاصة الساحل، سيكون المنتصر الاستراتيجي نسبياً، القوات الروسية حتى الآن، يبدو أنها حققت أهدافاً أساسية، وهي إقامة "جمهوريات الدونباس"، والامساك بـ "آزوف" وبمعظم الساحل والقرم، أضف إلى ذلك، جيوباً في الشمال، وتطويق العاصمة. بهذه المناطق، وصلت موسكو إلى مبتغاها، خبراء روس يعتقدون أن لروسيا ثلاثة أشهر من القدرة اللوجستية والمالية، قبل أن يجبرها الضغط الاقتصادي أن تتوقف عن الزحف وتتفاوض، إذا اعتبرنا أن أميركا احتاجت إلى شهر كامل لتحتل العراق، هذا يعني أن لموسكو وقتاً عسكرياً كافياً، ولكن وقتاً اقتصادياً أقصر. فالخسائر المالية العميقة ستبقى حتى الحل النهائي للصراع، ولكن يمكن اعتبار أن الهدف الروسي الحد الأدنى "اللاعودة عنه" قد اكتمل تقريباً، إلا أن التحدي الاستراتيجي الكبير أمام موسكو هو تحدي الأرض. فروسيا قادرة على التقدم ميدانياً، ولكن عليها أن تتوقف في مكان ما، والتحدي هو أن ما يتبقى سيحدد قدرتها التفاوضية، وقد يحدد أيضاً قدرة باقي أوكرانيا أن تصمد وأن تشن هجوماً معاكساً في يوم آخر.

فنحنا ما زلنا في بداية هذا الصراع.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء