Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البحث عن "بروتوس" في روسيا يطرح نقاش أخلاقيات الاغتيالات

ظاهرة القتل السياسي والأيديولوجي ستظل مصاحبة للحياة البشرية ما دامت المصالح والحروب العسكرية والدينية قائمة

موكب الرئيس الأميركي جون كينيدي قبل وقت قصير من اغتياله في دالاس عام 1963  (أ ف ب)

يخبرنا التاريخ أن مسيرة البشرية، قديماً وحديثاً، حافلة بالاغتيالات. يسميها البعض "غدراً مقيتاً"، ويعدها الآخر "نصراً عظيماً". وتجد الغالبية المطلقة من المتابعين والمتابعات نفسها إما متعاطفة مع المغدور ومعتبرة ما جرى خسّةً ووضاعةً، وإما منحازة لفكرة النصر، حيث "الأبطال" المنفذون أشاوس منتصرون.

تلويح المنفذين بعلامات النصر عقب الاغتيال يشي بكثير، وإلقاء القبض عليهم ومحاكمتهم والحكم عليهم بالإعدام أو قتلهم في موقع الاغتيال يشي أيضاً بكثير. الاغتيال مؤدلج من رأسه حتى قدميه، ومن يبحث عن تجريم له هنا سيجد تكريماً له هناك لا محالة.

البحث عن "بروتس"

دعوة البحث عن "بروتس" في دائرة المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تكون فجّةً، لكنها ليست مفاجأة. يكمن الفرق في المجاهرة بدعوة السيناتور الأميركي عن ولاية جنوب كارولاينا، ليندسي غراهام، قبل أيام، إلى اغتيال بوتين، وهو لم يأتِ بجديد من حيث المحتوى، لكن أتى بغريب من حيث المجاهرة، فليس كل ما يعرف يقال، وليس كل ما يجري التخطيط له يُذاع.

إذاعة دعوة غراهام أمعنت في إشعال أوضاع الكوكب المضطرم بالنيران أصلاً. غراهام ناشد أياً من المقربين من بوتين أن "يقدم خدمة جليلة لبلاده (روسيا) والعالم"، وذلك بقتل بوتين وإنهاء الحرب. وتساءل عبر تغريدة أذهلت العالم: "هل هناك (بروتس) في روسيا؟ هل هناك مزيد من العقيد شتاوفنبرغ الناجح في الجيش الروسي؟".

بداية سلسلة

وعلى الرغم من أن سجل الاغتيالات السياسية في كتب التاريخ الحديث والقديم يشير إلى أن الاغتيالات عادةً تكون بداية حرب أوسع أو سلسلة اغتيالات أعم وأشمل، فإن السيناتور الأميركي اكتفى بالاقتباس من رائعة الأديب الإنجليزي الأشهر ويليام شكسبير "يوليوس قيصر" مشهد قتل "قيصر" على يد صديقه الأقرب "بروتس" وعدد من الأصدقاء المتآمرين ضده ربما استحضر عوامل الاغتيال "السامية". فـ"بروتس" وأصدقاء قيصر غدروا به واغتالوه خوفاً من تنامي قوته وتصاعد سطوته، وهو ما قد يحول روما إلى ديكتاتورية!

صراع الديكتاتورية والديمقراطية

صراع "الديكتاتورية" و"الديمقراطية"، أو بمعنى آخر صراع أنظمة الحكم المختلفة دون النظر إلى تسمياتها وتوازنات قوى العالم ومواءمات المصالح، إضافة إلى اقتتالات الأيديولوجيا وهيمنة الشعور بالفوقية الناجم عن الانتماء لمعتقد ما، وليس آخر، جميعها تشكل أبرز أسباب الاغتيالات.

اغتيال "بروتس" جاء خوفاً من تنامي سطوته. أما محاولات اغتيال الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر، فأشهرها كان على يد الكولونيل كلاوس فون شتاوفنبرغ الذي أشار إليه غراهام في إطار بحثه عمن يغتال بوتين.

وفي هذا الاستدعاء كثير من القراءات لما بين السطور. فالزعيم النازي هتلر، ما زال على الرغم من انتحاره في عام 1945، مرجعية يستشهد بها السياسيون من مشارق الأرض ومغاربها. قبل أيام من الاجتياح الروسي لأوكرانيا، شبه الجنرال الأميركي المتقاعد والمحلل العسكري في "سي أن أن" مارك هيرتلينغ، الرئيس الروسي بكل من صدام حسين وستالين وهتلر، في حال أقدم على غزو أوكرانيا. واليوم، وبعد الغزو عاود غراهام استدعاء هتلر وتمني تكرار محاولة الاغتيال.

الاغتيالات للجميع

وعلى الرغم من الاعتقاد الشائع بأن الاغتيالات تتركز في الدول التي تحكمها ديكتاتوريات أو المعروفة بالتقلبات والانقلابات أكثر من غيرها، فإن التاريخ الأميركي على الرغم من قصره فيه فصول عدة من الاغتيالات التي ما زالت تنكأ جراحاً وتطرح علامات استفهام. عشرات الاغتيالات لشخصيات سياسية أميركية تحفل بها صفحات التاريخ. الغالبية العظمى قضوا برصاصات موجهة إلى صدورهم، وقلة قليلة راحت نتيجة قنبلة أو طعنة.

رؤساء وساسة وقادة جيش وزعماء سود، من الرئيس الـ16 لأميركا أبراهام لينكولن إلى الرئيس العشرين جيمس غافيلد إلى الرئيس الـ35 جون إف كينيدي، ومنهم إلى مالكولك إكس ومارتن لوثر كينغ وغيرهم من رجال السياسة تحفل بهم سجلات التاريخ الأميركي. وعلى الرغم من هرع أميركا والغرب إلى إدانة الاغتيالات في أي بقعة من بقاع العالم من منطلق "أخلاقي" ومنظور "قانوني" وزوايا "إنسانية" بحتة، فإن الاغتيالات تبقى "وجهة نظر".

 

 

القول سهل والتنفيذ صعب

وجهة نظر السيناتور الأميركي غراهام في الدعوة لاغتيال الرئيس بوتين تشرح نفسها في تغريدة منفصلة، قال فيها، "الأشخاص الوحيدون القادرون على إصلاح ذلك (وضع الحرب) هم الشعب الروسي. القول سهل والتنفيذ صعب". وأضاف موجهاً تغريدته لأبناء الشعب الروسي، لا سيما من يرى في نفسه "شجاعة" الإقدام على الاغتيال، "وما لم تكن تريد أن تعيش في الظلام لبقية حياتك، وتنعزل عن بقية العالم في فقر مدقع فأنت في حاجة إلى الإقدام".

الاغتيال أو القتل السياسي بدأ مع بداية السياسة، وعلى الرغم من دخول الاغتيال الديني على الخط، فإنه لا يخلو من ألوان السياسة ولو أنكر المنفذون والمخططون والمؤيدون والمنددون.

أبسط وسيلة للتغيير

الكتاب الشهير "الكامل في التاريخ" لابن الأثير يلخص المقصود بـ"الاغتيال" أو القتل السياسي في كلمات موجزة... "جاء القتل السياسي مع ظهور السلطة السياسية، وأصبح مع مرور الوقت أسرع وأبسط وسيلة لإحداث التغيير السياسي، وعادة ما يكون الدافع لمثل هذه الاغتيالات شخصياً أو حزبياً، أو ما شاكل ذلك. وفي بعض الأحيان ينظر القاتل والآخرون إلى الاغتيال كواجب تبرره حجج أيديولوجية، إذ يبدو أو يصور الضحية كطاغية أو كمغتصب، ويبدو ويصور قتله الفضيلة وليس جريمة، ومثل هذا التبرير الأيديولوجي للقتل قد يعبر عنه بصيغ سياسية أو دينية، أو بكلتيهما معاً".

صيغ سياسية ودينية عدة تابعها سكان الأرض قبل وأثناء وبعد اغتيالات سياسية وأخرى دينية وثالثة خالطة بينهما على مدار التاريخ. في التاريخ المعاصر، وقف العالم على أطراف أصابعه أثناء متابعة "اغتيال"، أو "قتل" زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن على أيدي قوات أميركية خاصة، وذلك عام 2011. وقبلها بسنوات، تابع سكان الأرض كذلك اغتيال الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات أثناء العرض العسكري للاحتفال بنصر أكتوبر (تشرين الأول) عام 1981. وفي 1995، اغتيل رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين. وفي 2004 شهد العالم اغتيال مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) الشيخ أحمد ياسين. وفي 2007، اغتيلت رئيسة وزراء باكستان بينظير بوتو.

استشهاد أم هلاك؟

اغتيال بن لادن كان انتصار الحق والخير على الإرهاب والكراهية بهلاكه، لكنه ظل لدى البعض شهيد الإسلام. واغتيال السادات كان إراقة لروح السلام وإزهاقاً للأمان، لكنه كان لمنفذيه ومن على أيديولوجيتهم هلاكاً لكافر. واغتيال رابين كان مسماراً في نعش صفحة من صفحات السلام وحقن دماء الأبرياء، لكنه أيضاً كان انتقاماً لمن زهقت إسرائيل أرواحهم وشردت وظلمت الباقين. واغتيال أحمد ياسين كان استشهاداً لأنقى من أنجبت فلسطين وكذلك قتلاً لمتآمر على أمن مدنيين أبرياء في إسرائيل. واغتيال بوتو قيل إنه تم على يد "طالبان" وأيضاً إن المدبر أشخاص في الدولة.

القيل والقال في الاغتيالات كثيرة. ولأن الغاية من أي اغتيال منذ تفتق ذهن البشرية عن هذه الوسيلة تبقى على طرفي نقيض تحقيق غاية سامية أو تنفيذ عملية غدر آثمة، فإن الفاعل كثيراً ما يبقى هو الآخر متأرجحاً بين القاتل المجرم أو البطل المقدام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عمل بطولي

في عام 2019، احتفلت ألمانيا بالذكرى الـ75 لانتحار هتلر، بل بالمحاولة الفاشلة لاغتياله على يد الكولونيل شتاوفنبرغ (الذي استدعى السيناتور غارهام دوره وعمله قبل أيام). وكتب موقع "دويتش فيلله" في هذا الصدد وقتها "تحيي ألمانيا الذكرى الـ75 للمحاولة الفاشلة لاغتيال هتلر وإنهاء الحرب العالمية الثانية التي قام بها مجموعة من الضباط بقيادة الكولونيل كلاوس فون شتاوفنبرغ. العملية التي يراها كثيرون مقاومة بطولية ضد النظام النازي". وأشارت بكثير من الإعزاز والتقدير إلى "المحاولة الجريئة لاغتيال الزعيم النازي والحاكم المطلق للرايخ الألماني أدولف هتلر. والعمل البطولي ضد القهر النازي لتحقيق أهدافه المعادية للديمقراطية والتعددية في المجتمع ليس في ألمانيا فحسب، بل في عموم أوروبا والعالم".

وكما أن تاريخ البشرية القديم والمعاصر حافلان باغتيالات ومحاولات فاشلة، فإن إنتاج البشرية حافل كذلك بكتابات تحلل وتعلل وتشرح الاغتيالات وأخلاقياتها. فبينما يرى أستاذ الفلسفة في جامعة ماساتشوستس الأميركية هويت كوفمان في ورقة عنوانها "أخلاقيات الاغتيالات"، "أن سياسة الاغتيال على الرغم من مشروعيتها أخلاقياً في ظروف محددة، ينبغي ألا يتم السماح بها في المطلق بموجب عقيدة الحرب العادلة". ويذهب إلى "أن مبدأ احترام الحياة للبشرية لا يسمح بقتل أفراد مع سبق الإصرار، لذلك لا ينبغي أن يتم اللجوء للاغتيالات أو السماح بها إلا في الحالات العاجلة والظروف القصوى، وحيث لا توجد وسيلة أخرى لتجنب وقوع ضرر كبير مُوشك"، مشيراً إلى ضرورة أن "تكون المبادئ الأخلاقية هي المحدد النهائي للسلوك في حالات الحرب".

أخلاقيات الاغتيال

الأدبيات كثيرة الموجودة عن أخلاقيات الاغتيالات تتراوح بين السماح به في أضيق الحدود ولتحقيق أصعب الأهداف وبين إجازته من باب "العين بالعين"، لكن العين لا تصبح كذلك في عديد من قوائم الاغتيالات، ليس فقط حين يقف جهاز استخبارات كامل متكامل أو نظام عالمي جديد وراء عملية اغتيال فرد لأسباب سياسية واقتصادية، ولكن حين تقرر جماعة أو مجموعة اغتيال فرد وأداً لفكره وخنقاً لأفكاره.

من الكاتب والمفكر المصري فرج فودة الذي اغتاله إسلاميون كفّروا فكره وأفكاره، إلى رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر ناجي العلي الذي اغتاله أحدهم وقيل إنه قتل على يد قيادة فلسطينية، وقيل إنه الموساد الإسرائيلي، إلى الـ17 قتيلاً الذين راحوا في هجوم لإسلاميين على مقر صحيفة "تشارلي إبدو" الساخرة لنشرها رسوم مسيئة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، فقد آخرون حياتهم في اغتيالات مؤدلجة اعتبرها البعض أعمالاً بطولية ستسطر أسماء منفذيها في أبهى كتب التاريخ، بينما يجزم الآخر أنهم ذهبوا إلى "مزبلة التاريخ".

 

 

حمولة الاغتيالات

التاريخ يئنّ بحمولته من الاغتيالات. وهو موعود بمزيد منها، لا سيما في عصر الطائرات المسيّرة أو "الدرونز"، التي تبدو معها عملية القتل ميسرة، لكن المشكلة أن الجميع يستخدمها "وقت الحاجة". تستخدمها أنظمة وتحالفات، وجماعات ومجموعات. فمن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني الذي تم استهدافه بطائرة مسيّرة في العراق إلى استهداف زعيم "طالبان" في أفغانستان الملا محمد عمر في عام 2001 وغيرهما، وهي المرشحة إلى زيادة في ضوء التطورات التقنية المتسارعة.

القتل العشوائي

قد لا تكون "الدرونز" أداة اغتيال في المقام الأول، لكنها تظل وسيلة للعنف السياسي في أيدي الدول والجماعات. قبل أشهر قليلة، ومع نهاية عمل أنياس كاليمار كمقررة الأمم المتحدة المعنية بالاغتيالات العشوائية، حذرت مما سمّته "القتل خارج القانون". وقالت إن التقنيات الحديثة فتحت الأبواب على مصاريعها أمام الذكاء الصناعي كسلاح قاتل، وأن الطائرات المسيّرة المسلحة ليست إلا روبوتات قاتلة في المستقبل القريب. ووصفتها بـ"جيل جديد من أسلحة الدمار الشامل"، الذي يظل مادة للشد والجذب في الحرب الروسية الدائرة رحاها في أوكرانيا والمرشحة للتفاقم والتصاعد.

تقارير صحافية عدة تتحدث عن تعرض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لثلاث محاولات اغتيال في أسبوع وحد. وترى أن الكرملين و"مرتزقة فاغنر" (منظمة روسية شبه عسكرية) وقوات شيشانية يقفون على الأرجح وراء هذه المحاولات.

وبينما العالم يحبس أنفاسه متابعاً لما ستسفر عنه الحرب الدائرة عسكرياً في أوكرانيا والمنعكسة آثاراً شتى في بقية أنحاء العالم، وما ستسفر عنه دعوة السيناتور الأميركي غراهام لاغتيال الرئيس الروسي بوتين، ونتيجة المحاولات الجديدة لاغتيال الرئيس الأوكراني زيلينسكي يمكن القول إن الاغتيالات ستظل مصاحبة للحياة البشرية، حيث السياسة والمصالح والحروب العسكرية والدينية. وستظل الاغتيالات أيضاً مجالاً للبحث ومنصة للنقاش الأخلاقي والسياسي والاجتماعي.

أستاذ ورئيس قسم الدراسات الأمينة في كلية قسم دراسات الجريمة والعدالة في جامعة ماسوتشوستس لاول آيري بيرليغر، يقول في دراسة عنوانها "أسباب وآثار الاغتيالات السياسية"، "إن الاغتيالات السياسية أصبحت مهيمنة في العقدين الأخيرين. وعلى الرغم من أن السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية تميزت بعدد منخفض منها، فإن العدد بدا يتزايد بشكل لافت في بداية سبعينيات القرن الماضي. وهذا يعود إلى تنامي موجة جديدة من موجات الجماعات الإرهابية والأصولية في مناطق عدة في العالم، إضافة إلى استعداد متزايد من قبل الأنظمة القمعية لاستخدام الاغتيالات وسيلة للتعامل مع المعارضة السياسية".

ويرى بيرليغر، "أن العقدين الأخيرين شهدا زيادة كبيرة في الاغتيالات السياسية جنوب آسيا بسبب عدم الاستقرار في المنطقة أثناء وبعد الغزو السوفياتي لأفغانستان". كما أن 85 في المئة من الاغتيالات السياسية في أوروبا الشرقية تمت بعد عام 1995 مع بدء الانتقال للديمقراطية في هذه البلدان، حيث التوترات العرقية وعدم الاستقرار السياسي". ويرى بيرليغر "أن الاغتيالات السياسية تعظم من احتمالات تفتت الدول وتعرقل من قدرتها على المضي قدماً نحو المسار الديمقراطي".

المسارات حالياً جميعها مفتوح. غير المتوقع هو المرتقب حالياً، تحولات وتقلبات واغتيالات ودعوات لها من كل الأطراف ضد كل الأطراف، إضافة إلى مجاهرات بدعوات "القتل" لتحقيق الغاية وهذا هو الجديد.

المزيد من تحقيقات ومطولات