Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القصر الجمهوري السوداني... موقع أثري يلخص تاريخ البلاد

أضيفت إليه مبان عدة ويمتد حالياً على مساحة تبلغ حوالى 150 ألف متر مربع

القصر الجمهوري في السودان هو في الواقع قصران يقعان داخل الفناء الكبير لمقر رئاسة الدولة (اندبندنت عربية - حسن حامد)

بعدما ظل القصر الجمهوري السوداني وجهة عصية على المحتجين منذ ما يقارب الثلاثة أشهر، تمكنت حشود لجان المقاومة الشعبية يوم الإثنين 28 فبراير (شباط) الماضي، من كسر الطوق الأمني وتجاوز كل الحواجز، تحت وابل من قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع، ووصلت إلى بوابة القصر الذي يعد المقر الرئاسي لمجلس السيادة الانتقالي، لإيصال رسالتها، مما يدل على أهمية المكان الذي يعتبر أثرياً ورصيفه المعاصر.

وبخلاف كونه ظل مقراً لرئاسة الدولة السودانية ورمزاً لسيادتها زهاء 199 عاماً، فللقصر الجمهوري تاريخ طويل لا ينفصل بأي حال عن التاريخ السياسي للسودان، لا سيما في أبرز محطاته، ولهذا المكان حكاية، إذ حكم منه المستعمرون البلاد وما يزال السودانيون يتخذونه مقراً للرئاسة.

رمزية وتاريخ

القصر الجمهوري في السودان هو في الواقع قصران يقعان داخل الفناء الكبير لمقر رئاسة الدولة السودانية الممتد على مساحة 74000 متر مربع تقريباً، أحدهما القصر التاريخي العتيق المصنف ضمن المنظومة الأثرية في السودان، إذ تعتبره الهيئة العامة للآثار في السودان أحد الرموز الأثرية المهمة التي تؤرخ المراحل التي مرت بها الدولة السودانية منذ ما قبل الاستقلال، وشهد أحداثاً حافلة بالدم والكرنفالات والاحتفالات، كما لم يخل من المناورات والمؤامرات وأيضاً الانقلابات.
يحتل القصر الجمهوري مكانة خاصة في وجدان الشعب السوداني، ويشكل رمزاً سيادياً وسياسياً حملت صورته مشاعرهم وخلدته طوابع البريد التذكارية والعملات الورقية، وتصدرت صورته النشرات والصفحات الإعلامية، وأطلق اسمه على الشارع الرئيس المحاذي له من الجنوب (شارع القصر) بدل تسمية "شارع فيكتوريا" كما كان معروفاً في السابق. ويعتبر القصر الجمهوري من المعالم المعمارية الرئيسة في الخرطوم، تطل بعض شرفاته المميزة على الضفة الجنوبية لنهر النيل الأزرق بالقرب من ملتقى النيلين (الأزرق والأبيض)، المعروفة لدى السودانيين بـ "المقرن". ويتميز من حيث نمط العمارة والتصميم بالنوافذ المقوسة ذات الطابع الروماني والبوابات الواسعة ذات ملامح معمارية تعود إلى القرن الـ 17، وشرفات إغريقية الطابع.
يرجع التاريخ البعيد للقصر إلى كونه ظل مقراً لحكم السودان لحوالى 199 عاماً، منذ فترة الحكم الثنائي الاستعماري التركي - المصري للبلاد خلال الفترة بين عامي 1821 و1885 بعد استيلاء محمد علي باشا على أرض السودان  عام 1821، وضمه تحت ولاية مصر، وقام الحاكم الملقب وقتها بـ "حكمدار عام السودان" بتحويل عاصمة دولة الفونج الحاكمة آنذاك، من مدينة سنار بعد القضاء عليها إلى مدينة ود مدني وسط السودان، ثم قام الحكمدار عثمان بك جركس عام 1824، بنقل العاصمة إلى الخرطوم لتصبح مقراً للحاكم العام وكافة دواوين الحكومة".
ووضعت اللبنات الأساسية للقصر الجمهوري التاريخي القديم الذي عرف وقتها بـ"قصر الحكمدارية" و"سراي الحاكم العام"، من الطين اللبن في موقع مميز بالعاصمة السودانية على الضفة الجنوبية للنيل الأزرق على بعد أقل من كيلومتر من ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، واكتمل تشييده نهائياً في عام 1834 إبان عهد خورشيد باشا مع إدخال بعض الإضافات والتحسينات على المبنى، لكن الحكمدار عبداللطيف باشا عبدالله قام عام 1851 بهدم قصر الحكمدارية، وأعاد تشييده من بقايا طوب مدينة سوبا الأثرية عاصمة مملكة علوة القديمة، وبعض المباني القديمة في منطقة أبي حراز الواقعتين على الضفة الشرقية للنيل الأزرق، ليتخذ شكله الحالي المكون من دور أرضى وطابقين علويين.


أسماء وأحداث

إذ كان تعدد الأسماء يدل على عظمة المسمى فقد تعددت أسماء القصر الجمهوري عبر تاريخه الطويل قبل أن يستقر على مسماه الحالي (القصر الجمهوري)، وظل يؤدي ذات الدور والوظيفة كمقر للرئاسة حتى عام 2015، وبعد اكتمال القصر الجديد داخل الفناء القديم فنقل الرئيس السابق عمر البشير مكتبه ونوابه وعدداً من مساعديه إلى مبنى القصر الجديد الذي غادره نهائياً بعد الثورة الشعبية التي أطاحت به في ديسمبر (كانون الأول) 2019.
وأطلق على القصر خلال الفترة بين عامي 1898 و1956، اسم "سرايا الحكمدار"، ففي فترات الحكم  الثنائي سمي بـ "السرايا" ثم "سرايا الحاكم العام" كما يطلق عليه أحياناً اسم "القلعة"، وأخيراً اكتسب تمسيته الحالية "القصر الجمهوري" بعد إعلان استقلال البلاد في عام 1956، لكن الرئيس الراحل جعفر نميري عمد عام 1972 إلى تسميته "قصر الشعب"، ليعود لاحقاً اسم "القصر الجمهوري" من جديد ويستمر إلى اليوم.
من جهة أخرى، وفضلاً عن كونه إحدى القلاع الأثرية التاريخية في السودان، فقد شهد القصر القديم أحداثاً تاريخية مهمة، أبرزها إعلان استقلال السودان عن الحكم الثنائي الاستعماري، وإنزال العلمين الإنجليزي والمصري ورفع علم جمهورية السودان المستقلة على سارية القصر الشهيرة في الأول من يناير (كانون الثاني) 1956، فضلاً عن مقتل الجنرال البريطاني تشارلز جورج غوردون حاكم عام السودان آنذاك، في الـ 26 من يناير (تشرين الثاني) 1884 على أيدي أنصار الثورة المهدية، وعرف هذا التاريخ عند السودانيين بـ"يوم تحرير الخرطوم"، إذ قتل الحاكم الإنجليزي وهو يقف على الدرج الداخلي باتجاه غرفة الجلوس بالطابق الثاني حيث كان يسكن، وهو المكان الذي يعتبر من بين أشهر أجزاء القصر. وجسد مشهد مقتل الحاكم في لوحة زيتية للرسام الأيرلندي، جورج وليام جوي، توجد حالياً في متحف مدينة ليدز البريطانية.
كذلك احتضن القصر أهم الأحداث السياسية الداخلية التي تلت الاستقلال منذ تشكيل أول حكومة وطنية عام 1953، كما شهدت ردهاته أدق تفاصيل وقائع الصراعات على السلطة، أبرزها واقعة احتجاز الرئيس الأسبق الراحل جعفر النميري إثر الانقلاب الفاشل بقيادة الضابط الرائد هاشم العطا عام 1972، ولاحقاً تم تهريب النميري من الاحتجاز، وتمكن الرئيس بفضل مهاراته الرياضية من القفز على الحائط  الشاهق الجنوبي للقصر ليعلن عودته إلى الحكم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


قصران في واحد

في عام 2007 قررت حكومة البشير إنشاء مبنى جديد داخل فناء القصر الرئاسي، وبالفعل وقع عقد التنفيذ في الـ 25 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2010، وبدأ العمل في المشروع خلال مارس (آذار) 2011، وتم الافتتاح رسمياً في 26 يناير (كانون الثاني) 2015، في ذكرى مقتل الحاكم غوردون على سلالم القصر الرئاسي القديم قبل نحو 130 عاماً. وتكفلت الصين ببناء المبنى الرئاسي الجديد بجوار القديم كمنحة وهدية للسودان عرفاناً وانتصاراً معنوياً للفلاحين الذين سحقهم غوردون ونكل بهم أبشع تنكيل، قبل أن تبعثه الإمبراطورية البريطانية من الصين (المستعمرة) وقتذاك، إلى السودان ليفعل الشيء نفسه في قمع الثورة المهدية، لكنه لقي حتفه على يد السودانيين. وبحسب ونستون تشرتشل في مؤلفه "حرب النهر" فإنه "بعدما أحس الجنرال غوردون أن وضعه في الخرطوم صار مهدداً كتب آخر الكلمات في مذكراته بعدما انقطع أمله بوصول الدعم، في منتصف ليل الـ 25 من يناير 1885، محذراً من سقوط الخرطوم في يد المهدي، قائلاً "لقد فعلت كل ما بوسعي فعله من أجل شرف وكرامة بريطانيا، وداعاً... وداعاً... المخلص لكم تشارلز غوردون".

رؤساء بالقصر

ويضم القصر القديم إلى جانب المكاتب الخاصة بالرئيس ونوابه ومساعديه ومستشاريه أجنحة ضيافة وإقامة سكنية للرؤساء الأجانب خلال زياراتهم الرسمية للسودان، إلى جانب صالة مراسم ضخمة مخصصة للمقابلات المهمة وتسلم أوراق اعتماد سفراء الدول الأجنبية، كما تتم في القصر الاحتفالات بالمناسبات الرسمية للبلاد.
ومنذ الاستقلال تعاقب على القصر الجمهوري خمسة مجالس سيادة برئاسة كل من عبدالفتاح المغربي والدكتور عبدالحليم محمد وإسماعيل الأزهري (مرتين)، ثم أحمد الميرغني.

وشهد فترات حكم الرؤساء إبراهيم عبود وجعفر محمد النميري وعبدالرحمن سوار الذهب وعمر حسن أحمد البشير، ثم مجلس السيادة الانتقالي السابق والحالي برئاسة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، لكن أطول الرؤساء إقامة وبقاء بالقصر الجمهوري هما النميري (18 سنة) وعمر البشير (30 سنة) الذي طرد منه بثورة ديسمبر 2018 الشعبية.


لماذا القصر الجديد؟

وقالت مديرة المتاحف بالهيئة العامة للآثار غالية جار النبي إن "مبنى القصر الجمهوري القديم يعتبر من المعالم الأثرية وفق نص قانون الآثار الذي يصنف أي مبنى تجاوز عمره الـ 100 عام أو يتمتع بميزة تاريخية خاصة، بغض النظر عن تلك المدة، كمبنى أثري يحق للهيئة ضمه إلى قائمة الآثار الوطنية، مما يمنحه حماية قانونية بمنع التصرف فيه بأي إضافات أو تعديل في المباني، كما يمنع ترميمه من دون إشراف الهيئة".
وأشارت جار النبي إلى أن "مبنى القصر الجمهوري فضلاً عن وضعيته الأثرية، فقد بني أصلاً من مواد أثريه من بقايا طوب مملكة علوة المسيحية وعاصمتها سوبا شرق الخرطوم، بعد هزيمتها من الفونج وقيام الدولة السنارية. إذاً فهو مبنى أثري بمواد أثرية أيضاً".
وانتقدت مديرة المتاحف "القرار الفوقي ببناء القصر الجديد من دون الرجوع إلى هيئة الآثار، لا سيما من ناحية الأسلوب المعماري الذي نفذ به المبنى بصورة أثرت في بانوراما المبنى التاريخي من حيث الشكل والتناسق المعماري، لأن المبنى الجديد يختلف كلياً في طرازه وملامحه الهندسية العربية عن الطراز الإنجليزي للقصر القديم، وكذلك تأثرت حديقة القصر بشكل واضح بعد أن كانت أجمل ما فيه كجزء لا يتجزأ من تصميم المبنى القديم ومكملة لمشهده الكلي".
وأوضحت مدير المتاحف أن "الهيئة رحبت بفكرة الرئيس السابق البشير بتحويل مبنى القصر الجمهوري القديم إلى متحف وفتح بوابة منفصلة على شارع النيل تخصص للزوار من الداخل والخارج، لكن الإطاحة بالبشير سبقت تنفيذ الفكرة التي لا تزال مطروحة، بخاصة أن المكان غني بالجواذب السياحية الأثرية التي يتطلع كثيرون إلى زيارتها مثل درج مقتل غوردون، وبالتالي يفترض أن يتحول المبنى كله إلى متحف".
وفي العام 1997 خُصص "مبنى الكنيسة الكاتدرائية"، أحد المباني الأثرية داخل أسوار القصر، ليصبح متحفاً افتُتح في ديسمبر 1999، وذلك بعدما بنيت كنيسة بديلة لها بحي العمارات، وتم أيضاً إضافة مساحات جديدة لمجمع القصر الجمهوري في الجانب الجنوبي عام 1971 ومبان إدارية إضافية ومقر لقوات الحرس الجمهوري ومرآب السيارات في الجانب الشرقي لتصبح المساحة الكلية الحالية للقصر حوالى 150 ألف متر مربع.

المزيد من تقارير