Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصالح مع الغرب ومغانم وراء موقف لبنان من روسيا

رفع العقوبات ونشوء شركات للتنقيب عن الغاز و"حزب الله" يرتاب و"يدفن" الغاز في البحر

رئيس الجمهورية ميشال عون يتوسط رئيسَي الحكومة نجيب ميقاتي ومجلس النواب نبيه بري (رويترز)

انشغل اللبنانيون بالحرب في أوكرانيا على الرغم من أزمتهم المعيشية الخانقة، ومن التأزم السياسي الذي يزيدها حدّةً، ويُؤخّر الحلول المطلوبة لها، وتسبّب موقف مبدئي صدر عن وزارة الخارجية "يدين اجتياح الأراضي الأوكرانية"، ويدعو روسيا إلى سحب قواتها، بتنصل أركان السلطة منه في وقت كان فيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي على علم به. وأظهرت ردود الفعل مرة أخرى تناقضات اللبنانيين وإخضاعهم الموقف من قضايا كبرى للتجاذب المحلي والمصالح الفئوية.

وفي رأي مراقبين فإنه بصرف النظر عن تقييم صوابية الموقف الذي أصدره وزير الخارجية عبد الله بوحبيب من عدمها، ليل 24 فبراير (شباط)، بعد ساعات على دخول القوات الروسية الأراضي الأوكرانية، فإن معظم الأفرقاء اللبنانيين في السلطة وخارجها يتقصّدون الازدواجية في المواقف من قضايا مبدئية لاعتقاد بعضهم أنه يمكن جني الربح من خلال التأرجح في التوجهات، وبإمكان "بيع" المواقف للقوى الكبرى من أجل جني أرباح في الداخل على حساب خصومهم.

الموقف المبدئي: معاناة لبنان من الاجتياحات

وإذا كانت خلفية إصدار بيان الخارجية على أنه موقف مبدئي مفهومة لأن فقرة الإدانة سبقتها فقرة تشرح معاناة دولة صغرى مثل لبنان عانت التدخلات العسكرية على أراضيها خلال العقود الأربعة الماضية، ما زالت تعاني آثارها إلى اليوم، وتعتقد أكثرية اللبنانيين أنها سبب أزمتهم الخانقة الراهنة، فإن ما هو غير مفهوم هو تعاطي أطراف السلطة الحاكمة بخفة مع المبادئ التي استندت إليها الخارجية وأدخلتها في سوق عكاظ المزايدات الداخلية.

فالفقرة التي تسبق فقرة الإدانة لاجتياح الأراضي الروسية نصت على أنه "نظراً إلى ما شهده تاريخ لبنان من اجتياحات عسكرية لأراضيه ألحقت به وبشعبه أفدح الخسائر التي امتد أثرها الأبلغ لسنوات طويلة على استقراره وازدهاره". وهي الفقرة التي تشير إلى الاجتياح الإسرائيلي لجنوبه في عام 1978، ثم في عام 1982 وصولاً حتى العاصمة بيروت، إضافة إلى حرب إسرائيل الجوية عليه في عام 1993، ثم حرب يوليو (تموز) 2006. وهذه الاجتياحات الإسرائيلية تعود في نظر بعض الأحزاب اللبنانية، وخصوصاً المسيحية إلى استباحة الفصائل الفلسطينية المقاتلة السيادة اللبنانية بين عامي 1969 و1982. كما أنها تشير إلى الدخول السوري إلى أراضيه في عام 1976 بحجة وقف الحرب الأهلية، ثم تحولها إلى قوات ردع عربية، إلى أن باتت بنظر أكثرية اللبنانيين قوات وصاية واحتلال، لم تنسحب إلا في عام 2005 نتيجة تضافر ضغط شعبي انضم إليه بعض من كانوا حلفاء لسوريا في بداية الاقتتال الداخلي، من القيادات الإسلامية، مع ضغط دولي وعربي واسع أجبر الجيش السوري على الانسحاب.

تعاون أفرقاء مع الاحتلالات المتعاقبة ضد الخصوم

وفي الأشهر الماضية، بات بعض الأفرقاء اللبنانيين المعارضين لـ"حزب الله" ونفوذ إيران في السلطة يتحدثون عن "الاحتلال الإيراني". إلا أنه من المؤكد أن بيان الخارجية لم يقصد هذا الاحتلال، نظراً إلى أن وزير الخارجية مقرب سياسياً من الفريق الرئاسي الحاكم بقيادة الرئيس عون وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، المتحالف مع "حزب الله"، والذي ستكرس الانتخابات النيابية في مايو (أيار) المقبل تحالفهما، على الرغم من تمايزهما في الآونة الأخيرة تكتيكياً.

ومع أن ما يمكن أن يجمع اللبنانيين في الموقف المبدئي من قضية من هذا النوع هو الخوف الدائم من أن يكون بلدهم الصغير والضعيف والهش في تركيبته التعددية والطائفية والمناطقية (أحد أوجه الشبه مع أوكرانيا)، لقمة سائغة للقوى الإقليمية الكبرى، فإن اللبنانيين اختلفوا على الدوام في التعامل مع الاجتياحات والاحتلالات، فتعايش بعضهم وتعامل البعض الآخر، وخصوصاً من الأفرقاء المسيحيين، مع الإسرائيلي لحقبة من الزمن في مواجهة أخصامهم المحليين الذين كانوا من المسلمين في أكثريتهم، حلفاء للاستباحة الفلسطينية، ثم السورية، وفي وقت قاتل فيه المسلمون، ولا سيما الشيعة، الإسرائيليين، اصطدمت الأحزاب المسيحية المسلحة مع الفلسطينيين، كما قاتلت السوريين بعد فترة من التعايش معهم، إلى أن انضم قادة مسلمون إلى معارضة الاحتلال السوري لاحقاً.

بين إدانة اجتياح الكويت وتوازن صلات روسيا

لكن تذكير الوزير بوحبيب بأن موقف لبنان مبدئي، مرجحاً ألا يصوت إلى جانب مشروع القرار المعروض على الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وأن يأخذ الموقف منه بالتنسيق مع المجموعة العربية، يعود إلى أن لبنان كان أول دولة دانت اجتياح صدام حسين الكويت في عام 1990. وهو موقف شهير أخذه في حينها رئيس الحكومة السابق سليم الحص، من المنطلق المبدئي نفسه برفض استخدام هذه الوسيلة من قبل دولة كبيرة وقوية إزاء دولة صغرى. وهذا ما يفسر نص بيان الخارجية على الدعوة إلى "العودة إلى منطق الحوار والتفاوض كوسيلة أمثل لحل النزاع القائم بما يحفظ سيادة وأمن وهواجس الطرفين ويسهم في تجنيب شعبي البلدين والقارة الأوروبية والعالم مآسي الحروب ولوعتها"، في الموقف من الحرب في أوكرانيا.

حاول بو حبيب التخفيف من وطأة بيانه على العلاقة المستقرة مع موسكو، والتي حرصت في السنوات الأخيرة على الاحتفاظ بصلاتها مع الأطياف السياسية كافة، نظراً إلى حرصها على الاستقرار في لبنان حتى لا يكون مصدر إزعاج لوجودها العسكري في سوريا التي ما زالت مأزومة على الرغم من تمكن القيصر الروسي من الحسم العسكري ضد معارضي نظام بشار الأسد. كما أنها حرصت على الإفادة من النظام المصرفي اللبناني والفرص التجارية من أجل مساعدة سوريا على الالتفاف على العقوبات الأميركية والأوروبية ضد التعامل مع النظام في سوريا، ونسجت علاقة حتى مع معارضي حليفها النظام السوري الأشداء في البلد في هذا السياق، إضافة إلى علاقتها التحالفية مع "حزب الله" وإيران في سوريا، فبدت صلاتها متوازنة مع قوى الطيف السياسي اللبناني. ولعل هذا سبب الدهشة من قبل السفير الروسي ألكسندر روداكوف حيال بيان الخارجية، فالوزير بوحبيب أبلغه بنية إصدار البيان لسبب مبدئي، لكنه لم ينتظر الإدانة.

مراعاة الموقف الغربي وتناقض "حزب الله"

قيل الكثير حول كيفية صياغة الموقف اللبناني وتنصل الرئيسين عون منه وميقاتي من حدته. ومن روايات المصادر الموثوقة أن ميقاتي تلقى طلب السفيرة الأميركية دوروثي شيا أن يصدر موقف لبناني ضد دخول القوات الروسية أوكرانيا، منبهة إلى وجوب عدم مراعاة موسكو، وأن دولاً أوروبية فعلت الشيء نفسه، وعلى الأرجح فرنسا، فأخطر ميقاتي عون بالأمر، وبدأت صياغة البيان الذي اطلع ميقاتي على مسودته، وكانت أخفّ حدّةً من الذي صدر، فتبيّن أن عبارة الإدانة أضيفت من الفريق الرئاسي. وتشير إحدى الروايات إلى أن القاعدة المعروفة عند الرئيس عون هي أن يستشير النائب باسيل، الذي لعب دوراً في اختيار العبارات النهائية. وهذا ما دفع أوساطاً مطلعة على موقف ميقاتي إلى القول إن هناك من عدّل في الصياغة بحيث استخدمت عبارة الإدانة، التي أثارت رد فعل سلبياً من وزيرين في الحكومة اعتبرا أنه كان على لبنان أن يلتزم الحياد و"النأي بالنفس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع أن "حزب الله" لا يلتزم سياسة النأي بالنفس، فإنه انتقد البيان لتعارضه مع هذا المبدأ، في وقت اعتبر فيه الوزير بوحبيب أن النأي بالنفس ينطبق على علاقة لبنان بدول الخليج العربي التي تنتقد الموقف اللبناني الرسمي، ولا سيما الرئاسي المنحاز لإيران و"حزب الله" في تدخلاتهما في حرب اليمن ودول الخليج. إلا أن "حزب الله" ظهر متناقضاً واستنسابياً في رد فعله على بيان الخارجية، إذ هو يستهزئ بالمنطق الحيادي والنأي بالنفس، ويعتمد سياسة عدائية حيال المملكة العربية السعودية ودول الخليج في إطار الصراع العربي الإيراني، ولا سيما في اليمن، ويصر على استخدام لبنان منصة دعائية للحوثيين ضد السعودية، فضلاً عن رعايته نشاطات مجموعات تناصب المملكة والبحرين العداء، ما تسبب بأزمة كبيرة في علاقة لبنان مع مجلس التعاون الخليجي أضرّت بالاقتصاد اللبناني المنهار، وسانده في ذلك الفريق الرئاسي في محطات كثيرة على صعيد المواقف في الجامعة العربية.

المصالح والمنافع قبل المبادئ في خلفية الموقف

إلا أن ثمّة مصالح وأغراضاً ومنافع تفسر موقف أركان السلطة، قد لا يكون الوزير بوحبيب منغمساً فيها، على الرغم من أنه أخذ بصدره الموقف، وتلقّى الانتقادات عليه.

فالرئيس ميقاتي، على الرغم من علاقته الجيدة بموسكو، يحرص على التنسيق الوثيق الصلة مع أميركا وفرنسا، لاعتماده على دعمهما في محاولة إنجاز بعض الخطوات التي تخفف من وطأة الأزمة المالية الاقتصادية، وفي المفاوضات مع صندوق النقد. وهو دفع في اتجاه تلزيم الشركة الفرنسية "سي أم أي - سي جي أم" العملاقة للشحن، قبل أسبوعين، عقد تشغيل رصيف الحاويات في مرفأ بيروت المدمر منذ انفجار "نيترات الأمونيوم" فيه في الرابع من أغسطس (آب) 2020. كما تردد أنه شجع على إنشاء شركة لبنانية تتعاون مع شركات فرنسية وألمانية لتستثمر في إنشاء معامل للكهرباء للوفاء بوعده تأهيل هذا القطاع الذي يلح عليه المجتمع الدولي كقاعدة لتعافي الاقتصاد والحصول على مساعدات. فالولايات المتحدة تعترض على أي تجاوب مع العروض من دول أخرى، ومنها موسكو لإعادة إعمار المرفأ.

أما من جهة الرئاسة، فقد بات من ثوابت سياستها اعتماد خط بياني متصاعد بالسعي إلى التقرب من دول الغرب، وتحديداً واشنطن التي تأخذ عليها تعاونها مع إيران، بهدف رفع العقوبات التي فرضتها على النائب باسيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، استناداً إلى قانون "ماغنتسكي" للفساد، وبسبب علاقته مع "حزب الله"، وأن هذا الهدف دفع الرئاسة إلى بعض المناورات والتنازلات، بدءاً بإبداء الليونة مع الوسيط الأميركي آموس هوكستين، الذي يقود المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية لإتاحة استخراج الغاز والنفط من الحقول المتنازع على ملكيتها في البحر في المنطقة الجنوبية. وهذا ما يفسر تراجع الرئيس عون عن اعتماد الخط 29 للحدود البحرية مع إسرائيل الذي يفترض أن المنطقة المتنازع عليها تفوق 2000 كيلومتر مربع، من أجل التفاوض على الخط 23، فتكون المساحة المتنازع عليها زهاء 860 كيلومتراً مربعاً، ويعتبر خصوم باسيل أن سعي الفريق الرئاسي إلى إرضاء واشنطن كان وراء لهجة البيان حيال الحرب في أوكرانيا.

تحضير لشركة مختلطة لاستخراج الغاز

وتشير معلومات مصادر وثيقة الصلة بالمفاوضات على الحدود البحرية إلى أن هوكستين بدا مسروراً من التسهيلات التي تلقّاها من الفريق الرئاسي في لبنان حيال اقتراحاته لمعالجة الخلاف مع إسرائيل، على الحدود البحرية، وطلب من جهات دولية أن تسعى إلى إقناع رئيس البرلمان بها.

وتتداول أوساط متابعة عن كثب لما يجري تحضيره من أجل تسريع الاتفاق على الحدود البحرية، معطيات عن أنه تجري تهيئة صيغة شراكة جديدة للتنقيب عن الغاز في المنطقة الجنوبية اللبنانية، بدلاً من كونسورتيوم شركات "توتال" الفرنسية و"إيني" الإيطالية و"نوفاتيك" الروسية، الذي كان فاز بالتنقيب في بلوكين عائدين للبنان، وأن التركيبة الجديدة ستقود إلى الاستغناء عن الشركتين الروسية والإيطالية، لمصلحة كونسورتيوم تتولى شركة قطرية رعايته وتكون "توتال" شريكة فيه، والمعلوم أن الأفرقاء اللبنانيين يتنافسون على أن يكون لكل منهم حصة في الشراكة من الباطن في استخراج واستثمار ثروات الغاز والنفط الدفينة في البحر، وهذا من أسباب احتفاظ "التيار الحر" بحقيبة الطاقة.

وتردد أن باسيل اجتمع مع الوسيط الأميركي هوكستين في ألمانيا قبل أسبوعين بعيداً من الأضواء، لهذا الغرض، وللبحث معه في رفع العقوبات الأميركية عنه. ولم ينفِ هو أخباراً نشرت في هذا الصدد. ورد عليها بنفيه حصول مقايضة بين ترسيم الحدود ورفع العقوبات، مؤكداً أنه لو أراد لكان فعل ذلك لتجنب تلك العقوبات، إلا أن باسيل زار قطر أيضاً، وتردد أن الهدف كان استكشاف الدور القطري المحتمل في التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية، وأفادت مصادر سياسية محايدة بأن رئيس "التيار الحر" طالب الجانب القطري من أجل التوسط مع واشنطن من أجل رفع العقوبات عنه.

وفي وقت كانت فيه وزارة الطاقة التي يشرف عليها باسيل ويعين وزراءها منذ عقد من الزمن كانت قد أبرمت مذكرة تعاون مع شركة روسية لإعادة بناء مصفاة وخزانات النفط في شمال لبنان، فإن تفعيل هذه المذكرة بقي حبراً على ورق، بعد تصاعد الضغوط الغربية على "حزب الله" وعلى حلفائه، ومنهم باسيل.

رد "حزب الله" على الانفتاح على الغرب وأميركا

لم يقتصر انتقاد "حزب الله" لإدانة بيان الخارجية على رفضه من قبل بعض نوابه. فقد فاجأ رئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد الوسط السياسي بإصداره موقفاً ذهب أبعد من ذلك أدلى به يوم الأحد 27 فبراير، إذ قال، "سنُبقي غازنا مدفوناً في مياهنا إلى أن نستطيع منع الإسرائيلي من أن يمد يده على قطرة ماء من مياهنا. لسنا قاصرين، وليعلم العدو ومن يتواصل معه، وسيطاً وغير وسيط، أن الإسرائيلي لن يتمكن من التنقيب عن الغاز في جوارنا ما لم ننقب نحن عن الغاز ونستثمره كما نريد، و"ليبلطوا البحر"، وهو موقف مستجد للحزب الذي كان أعلن أنه يقف خلف ما تقرره الدولة اللبنانية في شأن ترسيم الحدود.

وعن بيان وزارة الخارجية حول الحرب في أوكرانيا قال رعد، "إنه يستجيب لمزاج بعض اللبنانيين الذين يحبون الغرب، لكن لبنان ليست له علاقة بأوكرانيا، ولا بروسيا. السفيرة الأميركية كانت تتصل طيلة الليل بكل العالم لإصدار بيان لا يكون ضد أميركا. المعيار لدينا، هو أن يرضى عنا الأميركي والأوروبي، التزمنا بتلك المعايير فخربوا لنا البلد".

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل