قبل عقود من السنين، تحديداً ضمن سياق فرحة كثر من البريطانيين بانضمام بلدهم إلى المجموعة الأوروبية، بدا لوهلة وكأن شيئاً من نزعة أوروباوية ثقافية راح يسيطر على الفكر الإنجليزي.
ولقد تمثلت تلك النزعة، خصوصاً وفي أعلى تجلياتها، ليس فقط في النظر إلى الانتماء لأوروبا نظرة إيجابية، بل أحياناً في استعادة كثر من الباحثين والمؤرخين الثقافيين في هذا البلد لدور رائد في عدد من المجالات الإبداعية، رأوا أنه كان قد ظل منسياً لزمن طويل لصالح ريادات أوروبية أخرى متنوعة وحان الوقت لاسترداده.
وعلى ذلك النحو، راحت تكتشف إنجازات إبداعية بل فكرية حتى في مجالات متعددة غير متوقعة، ليركز الضوء عليها وعلى دورها الأوروبي المستعاد.
ريادة مطلقة أم ظرفية؟
وعلى ذلك النحو مثلاً، وفي مقابل الريادة المعهودة للمفكرين الألمان والفرنسيين في مجال نهضة الفكر التنويري عند بدايات القرن الثامن عشر، استعيد ذكر تنويرية هيوم ورفاقه من المفكرين الإنجليز والاسكتلنديين بل راحت تطرح مفضّلة على تنويرية كانط ورفاقه الألمان، وتنويرية روسو وفولتير ورفاقهما الفرنسيين.
وأحيط جون راسكين على سبيل المثال بهالة ميزته في مجال النقد الفني والدراسات العمرانية عن زملائه من مبدعي القارة. ولسنا في حاجة هنا طبعاً إلى وضع قائمة بالفنون والآداب وأصحابهما ممن سيبرزهم الإنجليز المتأوربين لمجرد التفاخر على "الأوروبيين" أنفسهم، أو على الأقل لإعلان التساوي معهم، لكننا سنتوقف عند فن الرسم لنتذكر كيف أنه في وقت راحت تُستعاد نتاجات الرسام "الانطباعي" الكبير تورنر، وإذ لم يبدُ هذا كافياً لنسب الانطباعية كلها إليه، إذ إنه هو نفسه كان ذا هوس إيطالي بل معترف بفضل الانطباعيين الفرنسيين في تقنين إبداعاته المدهشة، إذ سار على دروبهم، وجد الإنجليز ضالتهم البديلة في واحد من كبار رساميهم في القرن التاسع عشر كان من ميزاته الأساسية، أي المبررة لربطه بـ"تأسيس" الانطباعية، كونه عاش حقاً في الريف طوال حياته ورسمه في الهواء الطلق وما إلى ذلك من أساليب سوف تؤثر في الانطباعيين. ونتحدث هنا طبعاً عن جون كونستابل (1776 – 1837).
رسام للشعب كله
وبهذا راح كونستابل الذي من الأرجح أنه لم يكُن في ريفه الذي بالكاد بارحه لحقبة من حياته، مطلعاً على فنون الانطباعيين الفرنسيين الذين ظهر معظمهم خلال حياته ومارسوا فنونهم في وقت كان هو منكباً على إنتاج متنه الفني البديع، راح يعتبر مؤسس الانطباعية الكبير في نزعة أوروبية من الصعب القول إنه هو قد أدركها متفاخراً بها يوماً. ففي نهاية الأمر، كان كونستابل فناناً إنجليزياً خالصاً. وهو لئن كان قد شعر يوماً بأن فنه يرتبط بعلائق أو تيارات محددة، فإن نظره كان يتوجه تحديداً إلى لندن حيث وجد زملاء له، أقل ريفية منه وربما أكثر عالمية بكثير يحملون أسماء غينسبورو ورينولدز وآلان رامزي وجورج رومني وطبعاً تورنر وسنغلتون الذي سيخلدهم جميعاً في غير لوحة رائعة جمعتهم في صالونات الأكاديمية الفنية البريطانية التي كانت تحتضنهم جميعاً ولحقبة تحت رعاية جون راسكين نفسه، بل في بداياتهم تحت هيمة ذلك التيار المسمّى بـ"ما - قبل - رافائيلي"، لكن هذه مقدمات ليس مجالها هنا. فالموضوع بالنسبة إلينا هنا هو كونستابل نفسه، وفنه الذي اتسم بالانطباعية على غير ما كان يدرك هو نفسه. ولنحدد منذ الآن أن "انطباعية" كونستابل لم تكُن واعية ولا "مفهومية".
هي نبعت فقط من الأسلوب الذي اختاره لحياته، إذ رأى باكراً أن خير ما يفعله إنما هو البقاء مستقراً في ريفه الإنجليزي في سوفولك غير بعيد على أية حال من العاصمة ولا عن حياتها الثقافية التي كانت تعرف ازدهاراً كبيراً حينها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن غير بعيد من مطحنة أبيه التي سيرسمها كثيراً، بل سيبدع في رسمها أكثر مما سيبدع في رسم أي منظر آخر، هو الذي رسم كثيراً وأبدع كثيراً في لوحات عدة يكاد لا يخلو من منسوخة لها أي بيت إنجليزي.
تغيرات الطبيعة
باختصار، بقي كونستابل طوال حياته رسام المناظر الطبيعية المميز في الريف الإنجليزي بل تحديداً في الريف المحيط مباشرة بمسقط رأسه ومقر عائلته ثم أسرته في سوفولك، لا سيما في المنطقة التي عادت وسُمّيت "ديار كونستابل" تيمّناً به. ولعل ما من رسام من جيله أو من أية أجيال ربط نفسه وفنه بمنطقة محدودة من العالم لا يبرحها، بقدر ما فعل هذا الرسام. ومع ذلك لا بد من أن يلفتنا في شأن كونستابل أمران، أولهما أن الفرنسيين وعلى رأسهم الرومنطيقي ديلاكروا ورسامي منطقة باربيزون الذين كانوا مثله يرسمون على الطبيعة ويتحركون تحرك نور الشمس وتبدل ألوان الطبيعة وتأثير الفصول، وخلفهم الانطباعيون في ذلك، كانوا من أكثر فناني العالم حباً لفن هذا الرسام ومحاكاة له من دون أن يحتك هو بهم عن كثب.
بل إن كونستابل كان يصرّ دائماً على أن فنه لا ينهل من جمود الطبيعة "فالطبيعة في تغيّر دائم. هي تتبدل ألواناً وخطوطاً وحركات بين يوم ويوم وربما بين ساعة وساعة ولذا سيكفيني أن أجلس في مكاني وأراقب ما حولي حتى يتحرك فني معبّراً عن حقيقة الطبيعة"، كما كان يقول.
العالم من زاوية طاحونة
ونعرف أن هذا كله إنما تعلمه كونستابل من رصده المباشر لزوايا الطبيعة في موطنه وربما أكثر من ذلك، لما تعيشه الطبيعة حول بيته وطاحونة أبيه. وهما المشهدان اللذان رسمهما في عشرات اللوحات، ملاحظاً كيف أن الفروق بين كل لوحة وأخرى، حتى ولو رصد المشهد من وجهة النظر ذاتها، ستجعل الأمر يبدو وكأن كل لوحة رُسمت في مكان آخر، غير ذاك الذي رُسمت به لوحة أخرى.
لكن هذا لا يعني بالطبع أنه لم يبتعد في عدد من لوحاته الأخرى عن تلك المنطقة الأليفة لديه. فهو كان يتجول في المناطق والتخوم المجاورة، ليس بحثاً عن مشاهد جديدة بل عن لحظات شديدة الخصوصية، في مناطق قد تبدو للآخرين متشابهة لكنها لم تكُن كذلك في الحقيقة.
ولعل ذلك هو السر العميق الذي جعل لفن كونستابل خصوصياته ومكّنه من أن يتفرد في فنه طوال أعوام عدة شهدت تقلبات في حياته، بدءاً من فقده أبيه ومن ثم فقده زوجته ماري التي ارتبط بها سنوات قبل زواجهما، ليتزوجها أخيراً على الرغم من معارضة أهلها، فيفقدها هي الأخرى بعد أعوام سعادة لم تكُن كثيرة.
غير أن ذلك كله، إضافة إلى انتخابه عضواً في الأكاديمية الملكية في لندن، لم يمنعه من مواصلة حياته الريفية المثمرة فنياً في نهاية المطاف.
الرسم والشعور
ولد جون كونستابل الذي يُعتبر إلى جانب ويليام تورنر واحداً من أكبر رسامي المناظر الطبيعية في تاريخ الفن الإنجليزي، في سوفولك كما أشرنا. وهو أعلن منذ وقت مبكر أي حين بدأ يرسم حتى قبل ارتياده المدرسة "إنني أريد أن أرسم في موطني الخاص. فالرسم بالنسبة لي هو الشعور نفسه، فإن لم أشعر لن أرسم".
وهذا ما نفذه طوال حياته التي تواصلت 60 سنة تماماً. وهو كان ابناً لتاجر حبوب غني يملك أراضي مزروعة ومطحنة ترعرع جون فيها ورسمها منذ وقت مبكر. بالتالي، نراه على الرغم من تفتّح مواهبه الفنية بصورة مبكرة تفتحاً كان من شأنه أن يتيح له الانتقال إلى لندن لدراسة الفن وعيش الحياة الفنية الغنية في العاصمة، نراه يتعلم الرسم على الطبيعة ويقرر أن ذلك سيكون ميدان تحركه حتى إن تخلّى عن مهنة أبيه من دون أن يبارح فضاء تلك المهنة: الزراعة والطحن. بل من اللافت أنه جرّب حظه في المهنة لفترة غير أن أخاه الأصغر آبرام سرعان ما حلّ محله في تلك المهنة، مفسحاً له المجال كي ينصرف إلى حياته الفنية، بخاصة أنه بدا واضحاً منذ البداية أنه سيمارس فنه في المنطقة ذاتها من دون أن يبارحها...