قد يكون من غير الصحيح، أو من غير الدقيق، أن عالم الفن لم يعرف قبل القرن الثامن عشر رسامات نساء باستثناء الفنانة الإيطالية آرتيميسيا جنتيليسكي التي عاشت بين 1593 و1656 وتعتبر اليوم رسامة أوروبية بامتياز، وهي التي تنقلت بين عدة مدن إيطالية في وقت كانت كل مدينة تعتبر دولة في حد ذاتها، كما أمضت سنوات من أواخر حياتها في لندن ترسم لكبار أعيانها بمن فيهم ملكة البلاد، لكن آرتيميسيا كانت متميزة إلى درجة تجعل من الممكن ذكرها على حدة واعتبارها فنانة لم تَجُد تلك المرحلة بمن يساوينها في قوتها، ولكن كذلك في ذلك الارتباط المفترض بين حياتها وفنها.
فرادة امرأة فنانة
تتجلى تلك الفرادة في ثلاثة مجالات أساسية: أولاً في كونها اختارت لنفسها دروباً وأساليب فنية تجعلها الوريثة الوحيدة للرسام كارافاجيو حتى وإن كان أبوها أورازيو، معلمها الأول قد سار هو الآخر على درب ذلك الرسام الكبير. ففي النهاية يبدو واضحاً في مواضيع آرتيميسيا أنها استقت منه مباشرة وليس بواسطة أبيها، ثانياً في كونها عرفت كيف تجعل من فنها ردّاً على "المأساة" التي عرفتها في صباها المبكر حين اغتصبها رسام كان بدوره من مريدي أبيها، فزعزع ثقتها بالرجال، وجعلها تختار للوحاتها رسم نساء قويات ماكرات بل دمويات جاءت بحكاياتهن من الأساطير القديمة والكتب المقدسة، فأنتجت متناً فنياً تلقفته الحركات النسوية في القرن العشرين وبنت عليه نظريات لا تنتهي، وثالثاً أنها على عكس حال النساء من قبلها ومن بعدها عرفت كيف تعيش حياتها وحرفتها الفنية باستقلال كأم عازبة سبقت كل نظريات الأم العازبة التي سادت في القرن العشرين. فإذا أضفنا إلى هذا، ما ذهب إليه معظم الباحثين من أن آرتيميسيا لم تكتف بأن ترسم نفسها بقوة وروعة في لوحة تصورها وهي منكبة على الرسم، بل تعمدت أن تجعل من نفسها وملامحها موديلاً لمعظم النساء "الإشكاليات" اللواتي رسمتهن في لوحات تصور جوديث أو مريم المجدلية أو غيرهن ممن يسمين "النساء القويات"، اللواتي تفننت الحركات النسوية الحديثة في تحليل حياتهن، يصبح لدينا موضوع شائك وشيّق نعرف أن مبدعات بل حتى مبدعين من القرن العشرين لم يتوانوا في الدنو منه محولين تلك الفنانة المشاكسة إلى أيقونة بل إلى أسطورة. ولكن هل كانت تستحق هذا؟
التاريخ في بعد باروكي
إذا تأملنا في إبداعات واصلت آرتيميسيا إنتاجها طوال أكثر من ثلث قرن، معظمها لوحات تاريخية تتسم بنزعة باروكية تميزت عن معظم ما كان ينتجه الرسامون في ذلك العصر الباروكي، يمكننا أن نعد آرتيميسيا بين كبار فناني العصر لنتساءل عن الأسباب التي جعلت مؤرخين للفن كباراً يتجاهلونها، فإن ذكروها ربطوها بفن أبيها أورازيو في نزعة ذكورية مغرضة لا شك فيها.
ولعل هذا ما حرك نسويات ومبدعات القرن العشرين للاهتمام بآرتيميسيا، بيد أن السيء في الأمر هو أن ما حركهم أكثر هو تلك الفرضيات التي ارتبطت بحياتها أكثر مما ارتبطت بفنها، كصبية اغتُصبت ولم تحصل لها المحاكم حقها فحصلته منتقمة من خلال فنها، وكامرأة عزباء ربت من أبقاه الموت المأسوي المبكر من أولادها متنقلة من بلد إلى آخر مستقلة في قراراتها وحياتها، محولة ابنتها بالميرا إلى رسامة من المؤسف أن أياً من أعمالها لم يصلنا.
والحقيقة أننا إذا شئنا أن نضع الأمور في نصابها سيكون علينا أن نضع جانباً تلك الفرضيات لنكتشف وجوهاً عدة تبدو متناقضة مع تلك الصور التي أسقطت على الماضي مفاهيم تنتمي إلى الزمن الحاضر. ولسوف تكون الغاية هنا ليس فقط البحث عن الحقيقة التاريخية، بل أكثر من هذا إعادة القيمة الفنية لآرتيميسيا إلى مكانها الصحيح تحديداً، بالمقارنة مع المستوى الذي كان للفنون السائدة في زمنها. وفي يقيننا أن هذه هي السبيل الأفضل للحديث عن فنانة لا بد من التركيز على فنها بقدر التركيز على الحياة التي أنتجت هذا الفن.
نحو نظرة موضوعية
وفي هذا السياق سيكون من العدل تنحية حكايات حياة آرتيميسيا جانباً من دون رفضها كلياً، والعودة إلى النظر بموضوعية إلى فنها، وكيف تكونت الفنانة الحقيقية والكبيرة فيها، ولماذا تغاضى تاريخ الفن عن مكانتها تلك ليجعل الفكر النسوي من حياتها مصدراً لقيمتها سواء كان مخطئاً في ذلك أو مصيباً. ولا شك أن استعراضاً لنحو ستين لوحة هي ما اكتشف من أعمال آرتيميسيا حتى الآن، علماً بأنه لا تمضي حقبة من الزمن إلا ويعاد إليها حقها في لوحات إما كانت مخبوءة غير مكتشفة أو معروفة لا تحمل توقيعاً، وهكذا مثلاً "أعيدت" إليها لوحة كانت منسوبة إلى سواها، في العام قبل الماضي!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استعراض من هذا النوع يضعنا أمام فن كبير يتجاوز ومن بعيد القيمة المعطاة مثلاً لفن أبيها أو لعدد كبير من الفنانين الرجال المعاصرين لها، يشتغل انطلاقاً من أساليب كارافاجيو، لكنه يمعن عميقاً في لعبة النور والعتمة واصلاً فيها إلى ما يسمى "أسلوب التعتيم الخالص" المتجاوز أسلوب كارافاجيو نفسه.
ولنعد هنا إلى التركيز على نهل آرتيميسيا من المواضيع التاريخية بدءاً من لوحتها المبكرة "سوزانا والعجائز" التي قد نستشف منها ملامح الفنانة حين كانت في سن المراهقة، أي في السن التي اغتصبها فيها اغوستينو تاسي، ما أدى إلى تلك المحاكمة التي نالها فيها من التعذيب أضعاف ما ناله مغتصبها على أية حال.
سيرة ذاتية في لوحات عديدة؟
والحقيقة أننا بدءاً من تلك اللوحة سيكون في مقدورنا تصور التغيرات التي طاولت ملامح الرسامة التي أوصلت بورتريهاتها الذاتية إلى مستوى مرتفع، إنما دون أن تتقصد ذلك، فإذا بلوحاتها في تسلسلها الزمني ترسم ما يكاد يكون سيرة لحياتها. ولكن يقيناً أن هذا الجانب لم يكن هو ما جعل كبار الأمراء وأرفع البلاطات الأوروبية وأثرى الجامعيين يشترون لوحات رسمتها، لوحات جعلت لها شهرة واسعة، بخاصة أنها راحت تستفيد مطورة فنها من خلال عيشها المتنقل كما أشرنا، فنجدها حيناً في البندقية لسنوات وحيناً في فلورنسا، ثم في نابولي أو في روما قبل أن تلتحق بأبيها الذي شغل في نهاية حياته منصب رسام البلاط في لندن. وفي يقيننا أن تاريخ الفن في تلك المرحلة لم يحدثنا عن فنان، وليس طبعاً عن فنانة، عاشت مثلها متنقلة تطور فنها وألوانها ومواضيعها من مدينة إلى أخرى، هي التي ولدت في روما وماتت في نابولي التي أمضت فيها المرحلة الأخيرة من حياتها التي تتوزع لوحاتها اليوم في أشهر متاحف العالم، بعدما أوصلت فنها إلى ذروته تحديداً في اللوحة التي رسمت فيها ذاتها، وهي ترسم تلك اللوحة الأجمل والأغرب بين أعمالها، لتعتبر "ترميزاً للرسم" أو "كناية عنه" (1638 – 1639) الموجودة الآن ضمن المجموعة الملكية في قصر وندسور الملكي البريطاني. والحال أن هذه اللوحة قد دُرست أكثر من أية لوحة تنتمي إلى تلك المرحلة.
فنانة تحيط بالعالم
ففي "ترميز الفن" تعلن آرتيميسيا انتماءها إلى كارافاجيو، لكنها تعلن في الوقت نفسه تميزها عنه، بل تجاوزها له من خلال التركيبة التشكيلية التي جعلتها للوحة. وحسبنا للتيقن من هذا أن نقارن هذا "البورتريه الذاتي" مع عدد كبير من لوحات لآخرين تنتمي إلى مبدأ "البورتريه الذاتي" نفسه لنلاحظ المنظور الذي انطلقت منه فنانتنا وغرابة هذا المنظور وفرادته، حيث إلى جانب التشديد على الأناقة غير المعهودة في ملابس فنان منهمك إلى هذه الدرجة في عمله، يلفتنا وقوف الرسامة بشكل يحيط باللوحة من كل جوانبها، وكأن ذراعي المرأة المرسومة يحاول الإحاطة بالعالم وبالفن وبالمكان في آن معاً، وذلك حتى دون أن نلمح ولو جزءاً من اللوحة التي ترسم، وكذلك دون أن يبدو لنا في وقفة الفنانة ولا في تركيزها الذي يشي بأعلى درجات الراحة والتركيز، ما يكشف عن تلك المعاناة التي اعتاد الفنانون التعبير عنها في رسمهم لذواتهم. والحقيقة أن حسبنا أن نرصد هذا الأمر حتى نستبعد كل تلك الدراما والميلودراما التي عزتها نسويات القرن العشرين لامرأة (رسامة) جعلن منها، وربما رغم أنفها، أيقونة لهن ولنضالاتهن.