Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريبين يعبر عن الروح الروسية متمازجة مع روح القوزاق والأوكرانيين

حين حسمت المعركة الفاصلة في لوحة "القوزاق يردون على رسالة السلطان"

لوحة "الرد على السلطان العثماني" لريبين (متحف الدولة في بطرسبرغ)

قبل أسابيع قليلة أغلق أبوابه في العاصمة الفرنسية واحد من أبدع المعارض التي أقيمت في أوروبا للفن الروسي الكلاسيكي، ممثلاً هذه المرة في واحد من كبار فنانيه، إيليا ريبين، وكانت هذه المرة الأولى التي يشاهد فيها الجمهور الروسي أعماله وجاهياً، وهو الذي يعرفه الهواة على أية حال منذ نهايات القرن الـ 19 من خلال اللوحات العديدة والمذهلة التي حققها خلال المرحلة الفاصلة بين 1844 و1930، وصور فيها بورتريهات معتمدة منذ زمن بعيد لكبار الكتاب والموسيقيين الروس، بحيث إننا نعرف معظمهم من خلال ألوانه وريشه، وندرك من خلال رسمه لهم كم هم روس كما ندرك المعنى الحقيقي لعبارة "الروح الروسية".

وهذه العبارة هي التي استخدمت على أي حال للإعلان عن المعرض الباريسي الذي نتحدث عنه والذي استمر أكثر من ثلاثة شهور، تدفق الهواة خلالها بالتواكب مع إرهاصات الصراعات السياسية التي تعتصر اليوم تلك المنطقة نفسها التي ينتمي إليها ريبين، المنطقة الموزعة حوالى مناطق نهر الفولغا بين ماهو تابع لروسيا وما هو تابع لأوكرانيا، ويعيش في هذه الأيام بالتحديد مقدمات صراعات دامية بين شعبين من الصعب بمكان التفريق بينهما. ونكاد نعني هنا أن عبارة "الروح الروسية" تكاد تنطبق كذلك على أوكرانيا بقدر انطباقها على الجارة الكبرى.

بين المسرح والسينما

ومن هنا تلفت النظر حقاً في نتاج إيليا ريبين تلك اللوحة الرائعة التي لا يمل المتفرج من تأملها بانبهار ودهشة، وهو يتساءل بعد كل شيء، ولكن أين هي الروح الروسية هنا؟ وكيف تمكن ريبين من أن يصور تلك الروح التي يفترض أنها شديدة الخصوصية، بل تكاد تبدو طالعة من أحد مشاهد رواية "تاراس بولبا" لنيقولاي غوغول، ولكن من خلال مجموعة من القوزاق من أهل جنوب أوكرانيا؟ فهل يريد ريبين أو مفسرو أعماله أن يخبرونا هنا أن القوزاق جزء من تلك الروح؟

مهما يكن من أمر ليس هذا هو المهم هنا، المهم أن هذه اللوحة الضخمة والتي يبلغ عرضها 3.58 متر في مقابل ارتفاع يصل إلى أكثر من مترين، تدنو من فن الاستعراض والفن السينمائي تحديداً بقدر ما تدنو، من ناحية أخرى، من فن النهضوي فيرونيزي، ليس من ناحية الضخامة والألوان شديدة الواقعية فقط، بل من ناحية "الميزانسين" المسرحي الذي اعتمده ريبين لتصوير مشهد غير مألوف في الفن التشكيلي في زمنه. ولعل اللافت أن هذه الحكاية إنما تبدأ في العنوان الذي يكاد يقول كل شيء ويشكل المدخل لتلمس تلك الروح التي ارتبط فن ريبين بالتعبير عنها.

روسيا أم أوكرانيا؟

فالعنوان الروسي الحرفي هو "رد الزابوروجيان القوزاق" أو بشكل أكثر وضوحاً "قوزاق الزابوروغ يكتبون بياناً"، ولكي نكون أكثر اقتراباً من معنى اللوحة، لنقل أن ما تصوره هو مجموعة من المقاتلين القوزاق وهم يكتبون رسالة جماعية سيوجهونها إلى السلطان التركي محمد الرابع، وذلك كما يفيدنا تاريخ الربع الأخير من القرن الـ 18، رداً على رسالة تهديدية كان السلطان العثماني قد وجهها إلى الروس طالباً منهم الاستسلام أمام زحف قواته داخل الأراضي الروسية – الأوكرانية، خلال حروب دامية وقاسية دارت بين الجانبين شمالي سواحل البحر الأسود وتحديداً حيث يقطن القوزاق.

والحقيقة أن حسبنا أن نتأمل اللوحة في تفاصيلها ذات الصبغة المشهدية وشخصياتها التي لعل من المنطقي ربطها حقاً بنوع معين من المزاج الروسي، حتى نفهم الحكاية كلها. ذلك أن ريبين إذا كان حدد الإطار التاريخي العام للمشهد منذ العنوان، فإنه لم يترك أيما حاجة للمتفرج على اللوحة كي يدرك فحوى الرد الذي يُدبج، ذلك أن موضوعه بل التحديد الدقيق للكلمات والأوصاف المستخدمة فيه تبدو ماثلة على تعابير الوجوه المترواحة بين الغضب والسخرية والعزم والوعيد.

الهزيمة بالخطوط والألوان

صحيح أن من ينكب على كتابة الرسالة واحد لا يبدو في نهاية الأمر وكأنه واحد منهم، بل يبدو مثقفاً بلباسه المختلف وانهماكه في استخدام ريشته وهو يتوسط اللوحة تقريباً منحنياً تحت ضغط المحيطين به مباشرة من الذين يبدو واضحاً أنهم لا يقرأون ما يكتب، انطلاقاً مما يمليه عليه الآخرون المحيطون به وبهم. ومن الواضح تماماً هنا أننا أمام ما يشبه "الكتابة الجماعية" يقوم بها مجموعة من مخضرمين، وكل منهم يستحضر في مخياله ملامح العاهل التركي لاحقاً حين تصله الرسالة ويقرأها غاضباً مزمجراً.

مسبقا إذاً يرصد المقاتلون القوزاق هزيمة عدوهم وربما استسلامه أيضاً وقد حاصرته رسالتهم من جميع النواحي، ففعلت فيه فعل جيوش جرارة، ومن هنا لا نبدو إزاء هذه اللوحة وكأننا في حضرة عمل فني، بل في حضرة معركة أعلن اندلاعها ولكن أعلنت في الوقت نفسه نتيجتها الحتمية التي يمكننا أن نلاحظ البعض هنا يشرب نخب الانتصار فيها، والبعض يبدو ملوحاً برأس السلطان التركي المقطوعة، فيما الآخرون يبدون وكأنهم أقنعوا أنفسهم بالخلود إلى الراحة بعد تعب القتال وزحام الانتصار، في لحظة رصدها الفنان في عز اندلاعها، ولكن قبل أن يحدث كل ذلك بالفعل.

مشاعر المقاتلين تجاه العدو

لكن اللافت هنا هو أن إيليا ريبين لا يصور هذا المشهد الحاسم كمشهد كاريكاتوري، ولا حتى من ناحية أكثر منطقية، كمشهد ينقل الواقع التاريخي، فما يصوره إنما هو علاقة المشهد بشخصياته، وهو يصور تلك الروح التي يمكنه أن يتصور أنها عكست مشاعر وشخصيات المقاتلين القوزاق، الأكثر روسية هنا من روح أية فئة روسية أو أوكرانية أخرى، من دون أن يبدو عليه أنه مهتم بأن نحو 200 سنة كانت قد مرت حين رسم اللوحة على ذلك الحدث التاريخي الذي يفترض أنها تعبر عنه، ولا حتى بكون الحكاية كلها ليست ذات حقيقة تاريخية، بل هي تعكس أسطورة شعبية يتناقلها السكان المحليون في منطقة الدنيبر السفلى، وفحواها أن السلطان الأحمق، بحسب تعبيرهم، بعدما كانت قواته هزمت أمام المقاتلين القوزاق وجه إليهم رسالة التهديد تلك، فردوا عليه ساخرين مهددين بدورهم بكلام يعمر بالشتائم واستصغار الشأن، وبجمل مضحكة ربما لن نعرف تفاصيلها الحقيقية أبداً، لكن التفاصيل ماثلة على وجوههم بالتأكيد، وكذلك ماثلة في نصوص مفترضة يتم عادة تداولها من دون أن تثبت صحتها. لكن ثمة من بين القوزاق من يؤمنون بها كحقيقة واقعة ويستمتعون بما فيها من سباب موجه إلى السلطان وأمه في نص ينسب عادة وفي نهاية المطاف إلى القائد إيفان زاركو الذي يفترض أنه هو الذي قادهم في تلك المعركة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أغلى لوحة روسية

بدأ إيليا ريبين (1844 – 1930) إنجاز هذه اللوحة العام 1880 واستغرقه إنجازها نحو دزينة من الأعوام حتى اشتراها منه حين أنجزت في العم 1891 القيصر ألكسندر الثالث، بمبلغ هو الأعلى الذي بيعت به أية لوحة روسية حتى ذلك الحين، 35 ألف روبل، ولقد علقت اللوحة على الفور في متحف الدولة الروسية في العاصمة سانت بطرسبرغ، حيث لا تزال معلقة حتى اليوم وتكاد تكون نجمة ذلك المعرض، ولا تكف عن إثارة القهقهات حتى اليوم في نزعة عصبية روسية ينسى مطلقوها غالباً أن الروح الروسية التي يفخرون بها أمام مرأى هذه اللوحة، إنما هي روح قوزاقية – أوكرانية لا أكثر!

أما بالنسبة إلى ريبين فإنه ينتمي إلى روسيا بقدر اهتمامه بالتعبير عن أوكرانيا، وهو بدأ حياته الفنية مساعداً لرسام أيقونات في الريف قبل أن يتوجه للدراسة في أكاديمية سانت بطرسبرغ، لتكون لوحته "بحارة الفولغا" التي عرضت أول ما عرضت في فيينا عام 1879 أول انطلاقة عالمية له، وأصبح بعدها الأشهر بين الفنانين الروس قاطبة. ولسوف يشتهر باللوحات التاريخية وخصوصاً لوحته الكبرى "إيفان الرهيب أمام جثمان ابنه" (1895) المعلقة في متحف ترتياكوف، إضافة إلى بورتريهاته لموسورغسكي وتولستوي وعدد من كبار المبدعين الروس، ولا بد من الإشارة أخيراً إلى أن الثورة البولشفية ومسؤوليها الفنيين اعتمدوا فن ريبين كنموذج يحتذى للواقعية الاشتراكية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة