Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف استخدم السوفيات ثم الروس الطاقة لزرع الانقسام بين أميركا وأوروبا؟

أوجد الغاز الروسي تبعية أوروبية منحت بوتين يداً قوية في الصراع الآن

يمتد خط أنابيب "نورد ستريم 2" من روسيا إلى ألمانيا بتكلفة قدرها 11 مليار دولار (أ ب)

خلال ستينيات القرن الماضي، كانت أوروبا الغربية تستورد 6 في المئة فقط من حاجاتها النفطية من الكتلة السوفياتية، لكن موسكو نجحت في تغيير ذلك بتدشين مشاريع لمدّ خطوط أنابيب نفط إلى غرب أوروبا على الرغم من اعتراض وتحذير الرئيس الأميركي جون كينيدي، ومن بعده فشل الرئيس رونالد ريغان في وقف مد أنابيب الغاز السوفياتية إلى أوروبا الغربية. وفي بداية الألفية الثالثة، أظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استعداداً لدمج الأهداف الاقتصادية والجيوسياسية في سياسة الطاقة الروسية عبر ممارسة ضغوط على الجيران، فلماذا فشلت جهود واشنطن المتكررة في وقف اعتماد أوروبا على الطاقة الروسية، وهل من الممكن أن تنجح الآن؟

تقويض التضامن

في الوقت الذي يحذر المسؤولون الأميركيون والأوروبيون من غزو روسي وشيك لأوكرانيا، تأمل إدارة الرئيس جو بايدن في أن يؤدي تهديدها بعواقب اقتصادية وخيمة إلى ردع روسيا عن غزو أوكرانيا، بما في ذلك حظر تصدير الرقائق التكنولوجية الدقيقة والتقنيات التي تؤثر في قطاعات مهمة مثل الذكاء الاصطناعي والفضاء، بل قد تمتد العقوبات إلى تجميد الأصول الشخصية لبوتين ودائرته المقربة، كما يجهّز مجلس الشيوخ ما يوصف بـ"أم العقوبات" على البنوك الروسية والديون الحكومية التي يمكن أن تدخل حيّز التنفيذ حتى لو انسحب بوتين في نهاية المطاف من المواجهة العسكرية.

لكن على الرغم من أن الولايات المتحدة وحلفاءها متحدون بشأن ضرورة معاقبة موسكو إذا غزت أوكرانيا ولم ترتدع بالعقوبات المحتملة، كما رأينا في اجتماع بايدن في 7 فبراير (شباط) الحالي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، إلا أن روسيا تملك شيئاً ربما يقوّض هذا التضامن، وهو شبكة من خطوط الغاز والبترول الممتدة إلى الدول الأوروبية، بخاصة ألمانيا، ما يجعل هذه الدول تعتمد عليها في حاجاتها إلى الطاقة، تحديداً الغاز الطبيعي، الأمر الذي يجعلهم مترددين في مواكبة العقوبات الأميركية المشددة التي تتحدث عنها إدارة بايدن.

حرب باردة مستمرة

غير أن هذا الاعتماد لم يحدث بين عشية وضحاها، وإنما بدأ على أرض الواقع قبل نحو نصف قرن في إطار الحرب الاقتصادية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في ذروة الحرب الباردة، بحيث كانت سياسات موسكو تميل إلى زرع الانقسام بين واشنطن وحلفائها على الضفة الأخرى من الأطلسي من خلال نواياها التجارية الغامضة، إذ كانت الولايات المتحدة تنظر بقلق إلى سياسات موسكو التجارية التي استهدفت تقييد الحركة التجارية لدول عدة حول العالم، ففي أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عندما كان الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة يتنافسان على الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية، حاول كل جانب التأثير في دول غير متحالفة رسمياً مع أي من القوتين العظميين.

على سبيل المثال، استخدم السوفيات صفقات تجارية تفضيلية ومساعدات اقتصادية أخرى لدول "حلف وارسو" وعدد من الدول الأخرى المحايدة مثل فنلندا والهند والجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا بين 1958 – 1961) بطريقة خلقت في النهاية اعتماداً دائماً على موسكو، ما أتاح للكرملين أدوات ضغط واضحة على سياسات هذه الدول.

ولم يقتصر الأمر على حلفاء موسكو أو الدول المحايدة، بل امتد إلى حلفاء واشنطن، ويرجع ذلك إلى عدد من المحللين الذين اعتقدوا في هذا الوقت أن التجارة السوفياتية كانت مدفوعة إلى حد كبير بعوامل الاقتصاد لا السياسة، ولهذا قاوم بعض حلفاء أميركا، بخاصة بريطانيا الدعوات الأميركية لتقييد التجارة الاستراتيجية مع الكتلة السوفياتية، فضلاً عن معارضتها الجهود الأخرى لكبح فرص التجارة السوفياتية مستقبلاً.
وتوضح وجهات النظر المختلفة هذه، غموض النيات السوفياتية، حسبما يقول رايان حداد، الباحث في مركز إدوارد سنايدر في جامعة ميريلاند، ففي خضم التنافس المحتدم خلال الحرب الباردة، ووضع الاتحاد السوفياتي كاقتصاد مركزي تديره الدولة، لم تكُن دوافع موسكو واضحة.

كينيدي وأجراس الخطر

عندما بدأ الاتحاد السوفياتي مد خطوط أنابيب النفط والغاز إلى أوروبا، أصبح اعتماد الطاقة الأوروبية على روسيا مصدر قلق كبير في واشنطن، فقد كانت أوروبا الغربية تستورد في بداية الستينيات نحو 6 في المئة فقط من حاجاتها النفطية من الكتلة السوفياتية، لكن موسكو عملت على تغيير هذا الوضع، فبدأت بعقد اتفاقات لتشييد خط أنابيب نفط "دروزبا" الذي كان يُعرف أيضاً باسم "خط أنابيب الصداقة" أو "خط كوميكون"، ليمتد على مسافة 4000 كيلومتر، كأطول خط أنابيب نفط في العالم وأحد أكبر شبكات الأنابيب كونه ينطلق من الشرق الأقصى الروسي، عبر دول أوروبية عدة، منها أوكرانيا وبولندا، وصولاً إلى ألمانيا ودول أخرى في غرب أوروبا، وهو ما دق جرس إنذار في واشنطن بسبب احتمال زيادة الاعتماد الأوروبي على الغاز الآتي من روسيا وكازاخستان، فضلاً عن المخاوف الاستراتيجية الأخرى.

وعام 1963، حاولت إدارة الرئيس الأميركي جون كينيدي وقف تشييد هذا الخط من خلال فرض حظر على تصدير الأنابيب ذات القُطر العريض إلى الدول المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي، حيث كانت اليابان ودول أخرى في أوروبا الغربية ومنها ألمانيا الغربية وبريطانيا، تصنّع وتصدّر هذه الأنابيب حسبما أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" في ذلك الوقت.

وعلى الرغم من إدراك الولايات المتحدة بأن هذا الحظر لا يكفي وحده لتعطيل المشروع، إلا أنها ضغطت على الحلفاء، بخاصة ألمانيا الغربية التي وافقت على مضض، بينما رفضت بريطانيا التي كانت تحاول تحقيق استفادة كبيرة من المشروع، لكنها لم تستخدم "الفيتو"، ما سمح بفرض الحظر على دول "ناتو"، ومع ذلك، لم يتأخر استكمال تنفيذ خط الأنابيب سوى عام واحد.

ريغان يشعل أزمة

وبعد حوالى عقدين من الزمن، واجهت إدارة الرئيس رونالد ريغان معضلة مماثلة، ففي عام 1981، كان الاتحاد السوفياتي يشيّد خط أنابيب للغاز الطبيعي من سيبيريا إلى أوروبا الغربية، الأمر الذي اعتبرته إدارة ريغان تهديداً خطيراً، وحاولت إقناع الحلفاء الأوروبيين مثل فرنسا وألمانيا بالانضمام إلى الحظر الذي سعت إلى فرضه، ليس فقط على معدات خط الأنابيب الخاصة بالمشروع، ولكن على التمويل أيضاً، وعندما رفضوا، ردّت الولايات المتحدة بعقوبات تهدف إلى منع الشركات الأوروبية من توفير الأموال أو المعدات للمشروع، الأمر الذي أشعل أزمة داخل التحالف الغربي وزرع الانقسام بين الولايات المتحدة وأوروبا، وأدى في النهاية إلى تراجع الولايات المتحدة عن معظم العقوبات بعد بضعة أشهر فقط، بينما استُكمل خط الأنابيب وانتهى تشييده عام 1984.

الطاقة كسلاح

بدأت عواقب الاعتماد على الطاقة في روسيا تتجلى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وصعود فلاديمير بوتين بعد عقد من الزمان، فعلى عكس أسلافه السوفيات، الذين امتنعوا عن وقف صادرات الطاقة إلى أوروبا الغربية على الرغم من ظروف الحرب الباردة التي شابتها توترات عدة في فترات زمنية مختلفة، أظهر بوتين استعداداً لدمج الأهداف الاقتصادية والجيوسياسية في سياسة الطاقة الروسية، وممارسة ضغوط في الوقت المناسب على جيرانه بدعوى أن الأمر يتعلق بشروط السوق.
على سبيل المثال، كانت أوكرانيا عند منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لا تزال تتلقى شحنات الغاز المدعومة بقوة من روسيا، كما فعلت عندما كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي قبل بضع سنوات، لكن انفجار ما سُمّي بـ"الثورة البرتقالية" قرب نهاية عام 2004، أدى إلى إطاحة زعيم موالٍ للكرملين واستبداله بشخص يسعى إلى توثيق العلاقات مع الغرب. وبعد ذلك بعام واحد، طالبت شركة "غازبروم" الروسية، كييف بدفع أسعار السوق بالكامل مقابل الغاز الذي تورده إليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


معاقبة أوكرانيا

عندما رفضت أوكرانيا، قيّدت روسيا تدفق الغاز عبر خطوط الأنابيب، ولم تسمح سوى بمرور ما يكفي من الغاز للوفاء بعقودها مع دول في أوروبا الغربية فقط من دون غاز لأوكرانيا، وهو ما اعتبره مراقبون كثر خطوةً تهدف إلى زعزعة استقرار الحكومة الموالية للغرب في كييف، كما استخدم الكرملين الرفض الأوكراني لدفع بدل الغاز، كأساس للادعاء بأن أوكرانيا تُعدّ دولة عبور غاز غير موثوق بها، ما ساعد في بناء الدعم لخط أنابيب جديد يُسمّى "نورد ستريم"، ينقل الغاز مباشرةً من روسيا إلى ألمانيا، بعيداً من أوكرانيا. وعندما افتُتح خط أنابيب "نورد ستريم" عام 2011، أسفر عن خسارة سنوية لأوكرانيا قدرها 720 مليون دولار أميركي، كانت تحصل عليها كرسوم عبور، كما زاد "نورد ستريم" بشكل كبير من اعتماد ألمانيا على روسيا في تأمين حاجاتها من الطاقة التي تمتد استخداماتها من التصنيع إلى التدفئة وتوليد الكهرباء، بحيث ارتفع اعتمادها على الغاز الروسي من 35 في المئة عام 2015 إلى ما يتراوح بين 50 إلى 75 في المئة بحلول عام 2020، وفقاً لتقديرات صحيفة "واشنطن بوست".

لمحة عواقب

وعلى الرغم من جهود الولايات المتحدة لزيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى حلفائها الأوروبيين، إلا أن صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا وصلت إلى مستوى قياسي عام 2021، وأصبح خط أنابيب "نورد ستريم" ينقل الآن ثلث إجمالي صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا.
وخلال الأزمة الحالية، تلقّت أوروبا لمحة عن العواقب المحتملة لاعتمادها على الطاقة الروسية، عندما خفضت موسكو صادراتها من الغاز إلى أوروبا في ديسمبر (كانون الأول) 2021، فعلى الرغم من أن روسيا كانت لا تزال تفي بعقودها من الناحية الفنية، إلا أنها توقفت عن بيع غاز إضافي لأوروبا مثلما كانت تفعل في الماضي، الأمر الذي جعل وكالة الطاقة الدولية تتهم روسيا الشهر الماضي، بزعزعة استقرار أمن الطاقة الأوروبي.

هل يفعلها بوتين مرة أخرى؟

وبينما تحشد روسيا حوالى 150 ألف جندي على حدودها مع أوكرانيا من ثلاث جهات، لا تزال نيّات بوتين غير واضحة حتى الآن، بينما تواصل الولايات المتحدة قيادة جهود الغرب لردع غزو محتمل من خلال إظهار أن حلفاءها على استعداد لفرض عقوبات مدمّرة، بما في ذلك وعد بايدن بوقف استكمال مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا بتكلفة قدرها 11 مليار دولار.

لكن اعتماد أوروبا، وعلى وجه التحديد ألمانيا، بشكل كبير على روسيا في الحصول على الطاقة يجعلها عرضةً للخطر نظراً إلى تاريخ روسيا في التهديد بقطع إمدادات الغاز عن جيرانها، الأمر الذي يمكن أن يقوّض قدرة الغرب على تنفيذ حملة عقوبات منسَّقة ضد موسكو، بخاصة أن حدوث أزمة في الطاقة خلال فصل الشتاء، يُعدّ بمثابة كارثة لألمانيا، وقد يؤدي الخوف منها إلى إضعاف استعداد برلين للعمل ضد روسيا.

في النهاية، أدى استخدام روسيا للتجارة والطاقة منذ عقود طويلة، إلى خلق نوع من التبعية الأوروبية في مجال حيوي للغاية، ما منح بوتين يداً قوية في الصراع المحتدم الآن، ولا يوجد بيد الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين سوى خيارات محدودة لمواجهتها.

المزيد من دوليات