Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفرنسي أوزون يعيد إحياء فاسبيندر بعد نصف قرن في برلين

بيترا أصبحت بيتر في فيلم يسترجع أجواء السبعينيات بقسوة أقل

من فيلم "بيتر فون كانت" للمخرج الفرنسي فرانسوا أوزون ( الخدمة الإعلامية)

بعد مرور عشر سنوات على فيلم بونوا جاكو "وداعاً للملكة"، تعود السينما الفرنسية إلى مهرجان برلين السينمائي 10 – 20 فبراير (شباط) لتفتتح الدورة الثانية والسبعين، مساء الخميس الفائت. هذه المرة فرنسوا أوزون هو الذي يتولى مهمة تمثيل فرنسا في المسابقة من خلال أحدث عمل له "بيتر فون كانت". وأوزون، هذا السينمائي النشيط للغاية الذي لا يتوقف عن العمل، يقدم تقريباً فيلماً جديداً كل عام. عمله السابق "كل شيء كان جيداً" شاهدناه في مهرجان كان في يوليو (تموز) الماضي، وها هو ذا يعود إلى ثالث أهم تظاهرة سينمائية في العالم بعد نحو ستة أشهر على عرض آخر فيلم له. 

أوزون من السينمائيين الذين دعاهم مهرجان برلين كثيراً في تشكيلته الرسمية، ليصل عدد المرات التي شارك فيها في الـ"برليناله" إلى خمسة، وفاز خلالها أيضاً ببعض الجوائز. فقط في السنوات القليلة الماضية عرض له في برلين فيلمان، كان آخرها "بفضل الله" (جائزة لجنة التحكيم الكبرى) عن قضية التحرش بالأطفال داخل الكنيسة. يومها صحيح أنه لم يفتتح المهرجان، لكن من حيث أهمية الموضوع الذي طرحه، منحنا الانطباع بأنه مدشن العرس السينمائي الكبير الذي يجري في عاصمة ألمانيا.

في السنوات الأخيرة، حالفنا الحظ بأن نشهد على مراحل تطور سينما أوزون. رأينا كل تحولات الرجل، نزواته، عطشه المتواصل للتصوير فيلماً بعد فيلم. يمكن القول إنه كبر بالعمر والأهمية على مرأى منا. كثر منا يذكر بداياته، ويستطيع أن يعدد على الأقل نصف أعماله. أنجز 22 فيلماً في 22 عاماً، طال خلالها أنواعاً سينمائية مختلفة. هذا ليس بالقليل لمخرج لم يتجاوز الخمسين إلا بأربع سنوات. شق طريقه الخاص داخل سينما فرنسية لطالما قاومت التجديد ونبذت التقليد. الديناميكية التي يمتلكها أوزون ميزة يحسد عليها، أما الأنواع السينمائية التي يستعين بها فهي شديدة التنوع، وتراوحت بين الثريللر النفسي والكوميديا والميوزيكال والبوليسي. حتى اسمه (أوزون تعني حرفيا ’نتجرأ’ باللغة الفرنسية)، يحمل إشارات إلى جرأة لا نلمسها عنده على صعيد الشكل والمضمون بقدر ما تتمظهر في قدرته على القفز من هم إلى آخر، مما جعله ينجز أفلاماً غير متوقعة، مليئة بالحياة والوجوه المعبرة والشغف واللؤم. هناك دائماً ما يثيرنا في كل جديد له. حتى لو لم يعجبنا الفيلم بكامله قد نعجب بالتمثيل أو الإخراج أو البنية السردية أو ببساطة النحو الجذاب الذي يحملنا بواسطته إلى حقب وأماكن مختلفة.

عذر فني وتاريخي

بصرف النظر عن أهمية أوزون كسينمائي، هناك سبب صريح لوجود فيلمه "بيتر فون كانت" في برلين. هناك "عذر" فني وتاريخي جعل إدارة برلين تختاره للافتتاح. وهذا العذر لا يقلل من قيمة الفيلم، لكنه يمنح شرعية تساعد الإدارة في الدفاع عن خيارها. فقبل 50 عاماً بالتمام والكمال، قدم المخرج الألماني الراحل راينر فرنر فاسبيندر (1945 - 1982) "دموع بترا فون كانت" في المهرجان نفسه، مقتبساً مسرحية كان ألفها بنفسه لا تظهر فيها سوى كاراكتيرات نسائية. عرض فيلم أوزون، الذي يمكن اعتباره اقتباساً حراً لفيلم فاسبيندر، يأتي في المكان نفسه بعد مرور نصف قرن، علماً أن هذه ليست المرة الأولى يقتبس فيها من المخرج الألماني، إذ سبق له أن أفلم مسرحية غير معروضة له في عنوان "قطرات ماء على حجارة ساخنة" في بداياته. ومن يمعن في عوالم المخرجين، لا بد أن يلاحظ بعض التقارب بينهما الذي كان سيفضي عاجلاً أو آجلاً إلى "لقاء"، فأوزون يعرف كيف يصور النساء مثل زميله الألماني، وعلى غراره أيضاً يميل في قصصه إلى المنحى الميلودرامي بدموع سخية. 

في "بيتر فون كانت" يتطرق أوزون إلى موضوع غير بعيد من أفلامه السابقة: ضرورة الحب واستحالته في الحين نفسه، إضافة إلى العطش للسلطة والتحكم الذي لدى الفنانين. يستبدل بترا التي كانت تضطلع بدورها مارغيت كارستنسن ببيتر (يلعب دوره الممثل الموهوب دوني مينوشيه الذي شاهدنا أكثر من مرة في أفلام أوزون). يجسد هذا الأخير شخصية مخرج يقع في حب ممثل شاب يدعى أمير (خليل غربية) يقوم بأولى خطواته داخل عالم السينما. لكن هذا الشغف يعاكس بيتر ويولد عنده مشاعر الغيرة لما يأخذ أمير استقلاليته على مرأى من ملهمة بيتر التي تلعب دورها إيزابيل أدجاني. وعلى سبيل التحية، تعود الممثلة هنا شيغولا الحاضرة في فيلم فاسبيندر، في دور أم المخرج، وهذا كله سيشكل مناسبة لأوزون كي يصور فترة السبعينيات الأحب إلى قلبه، ويتوجه إلى السينما برسالة حب. 

من خلف ستار الجمال والفن والبحث عن المشاعر، يسترق أوزون النظر إلى حقائق أخرى في محاولته للغوص في أرواح من يصنعون الجمال. إنها محاولة لشرح عذابات بيتر فون كانت الذي سيواجه اليأس عندما يفهم أن الحب الطاهر وهم بوهم، وغير موجود إلا في خياله. 

بين المخرج  والممثلين

أدخل أوزون إلى الفيلم الأصلي بعض التعديلات. فإذا كانت الحكاية لا تزال تدور في عام 1972 كما في النسخة الألمانية، إلا أن المكان انتقل من بريم إلى كولونيا، في حين بترا التي كانت تعمل مصممة أزياء حل مكانها مخرج باسم بيتر، وهو يشبه فاسبيندر من حيث الشكل والسلوك. أما العلاقة التي كانت تربط بترا بعشيقتها فأضحت علاقة بين المخرج وممثله.

تجري الأحداث في فضاء واحد، شقة بيتر، فتشكل مناسبة لأوزون كي يضع لمساته الخاصة متخلصاً من "الكيتش" لمصلحة ألوان صارخة وأجواء مصطنعة عن قصد، يعرف كيف يفرضها على الفيلم من خلال عمل مدير التصوير البلجيكي مانو داكوس. وهذه الألوان بفقاعتها تحية مباشرة إلى فاسبيندر. أحد شروط نجاح الفيلم الذي تجري فصوله في مكان واحد، هو التمثيل. والحق أن دوني مينوشيه ممتاز في دور يبث مشاعر وحالات مختلفة في أرجاء البيت، مؤكداً ارتباطه الوجداني بفاسبيندر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تختلف الأشياء تلقائياً ما إن يجمع الفيلم نساء ورجلاً، خلافاً للنسخة السابقة حيث لا نرى سوى نساء. الفيلم أخف سوداوية وأقرب إلى الدعابة. كما قال الناقد البريطاني بيتر برادشو في الـ"غارديان"، لقد حذف أوزون الدموع المرة من العنوان وكذلك من الفيلم نفسه. الفرنسي يؤمن بسينما لا تحتاج إلى قسوة كي تترك أثراً عند المشاهد. هي أيضاً مسألة تطور في المفاهيم. زمننا الحالي يختلف كلياً عن سبعينيات القرن الماضي، فما كان يثير الريبة والشكوك في الماضي ما عاد اليوم سوى مصدر للتسلية تدعو إلى ابتسامة. "بيتر فون كانت" هو في النهاية هجاء لعالم المشاهير، يقدمه أوزون ببعض العاطفة والكثير من التفهم لشخصياته.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما