ملخص
تحوّلت الموارد الاقتصادية الحيوية من أدوات للتنمية إلى وقود للصراع، وأصبحت التجارة والجبايات والتهريب مصادر تمويل رئيسية لأطراف النزاع، في ظل انهيار مؤسسات الدولة وتراجع الرقابة المالية، ومع كل يوم تستمر فيه الحرب، يترسخ اقتصاد موازٍ لا يعيش على هامش الصراع، بل في قلبه.
لم تعد الحرب المشتعلة في السودان بين الجيش وقوات "الدعم السريع" مجرد مواجهة عسكرية بين طرفين، بل تحوّلت إلى منظومة اقتصادية متكاملة تُدار بالموارد، وتُموَّل بالتجارة، وتُغذَّى بعائدات النفط والذهب والتهريب، فبينما يدفع المدنيون ثمن الانهيار المعيشي، تتدفق أموال الحرب عبر قنوات غير مرئية، خارج الموازنة الرسمية للدولة، لتعيد إنتاج العنف يوماً بعد يوم.
تحوّلت الموارد الاقتصادية الحيوية من أدوات للتنمية إلى وقود للصراع، وأصبحت التجارة والجبايات والتهريب مصادر تمويل رئيسية لأطراف النزاع، في ظل انهيار مؤسسات الدولة وتراجع الرقابة المالية، ومع كل يوم تستمر فيه الحرب، يترسخ اقتصاد موازٍ لا يعيش على هامش الصراع، بل في قلبه.
موازين القوة
انتقل قطاع النفط في السودان من مورد سيادي يُفترض أن يدعم الموازنة العامة إلى أحد أعمدة اقتصاد الحرب، إذ أصبحت السيطرة على الحقول والمنشآت النفطية جزءاً من المعركة، لا يقل أهمية عن السيطرة على المدن أو الطرق الاستراتيجية، فمع تصاعد النزاع، خرج النفط عملياً من يد الدولة، وأُعيدت إدارته وفق منطق عسكري تحكمه موازين القوة لا القوانين الاقتصادية.
يوضح الباحث في مجال النفط محمد الطاهر أن "أولى ملامح هذا التحول كانت تغيّر طبيعة القرار داخل الحقول، فالقطاع النفطي فقد هياكله الطبيعية ولم تعد هناك قرارات تشغيلية فنية، بل أوامر أمنية، فالجهة المسلحة المسيطرة هي من تحدد متى يبدأ الإنتاج، ومتى يتوقف، ومن يُسمح له بالدخول إلى الحقل، حتى لو كان مهندساً مختصاً".
ووفقاً للطاهر، فإن "السيطرة لا تقتصر على مواقع الاستخراج، بل تمتد إلى كامل سلسلة القيمة النفطية، من الحقول، إلى محطات المعالجة، وخطوط الأنابيب، ومرافق التخزين، ومن يسيطر على البنية التحتية النفطية لا يحتاج بالضرورة لتشغيل الحقل كاملاً فأحياناً يكفي التحكم في خط أنابيب أو مخزن وقود لفرض نفوذ اقتصادي أو خنق الطرف الآخر".
أما أخطر جوانب اقتصاد الحرب النفطي، بحسب الخبير الطاهر، "يتمثل في طريقة التعامل مع العائدات، فحتى في الفترات التي استمر فيها الإنتاج الجزئي أو تشغيل مرافق النقل والتخزين، لم تدخل الإيرادات عبر القنوات الرسمية للدولة، إذ لم يعد العائد النفطي يظهر كدخل واضح في الموازنة، فيتم تفكيكه إلى رسوم وحماية وتأمين ونقل وتخزين، وهذه الرسوم تُحصَّل نقداً أو عبر وسطاء، وتخرج بالكامل عن أي رقابة مالية".
وأضاف المتحدث أن "هذه الأموال تُستخدم مباشرة في تمويل العمليات العسكرية، فالنفط هنا لا يُباع كسلعة وطنية، بل كوسيلة لتوفير الوقود، وشراء قطع الغيار، ودفع التزامات لوجستية مرتبطة بالحرب، هو تمويل غير مباشر لكنه فعال جداً، وتعطيل بعض الحقول لا يعني بالضرورة خسارة كاملة، بل يُستخدم أحياناً كأداة ضغط أو تفاوض، وإيقاف الإنتاج قد يكون قراراً سياسياً أو عسكرياً، لكن البنية التحتية تظل ورقة قوة، فمن يملكها يستطيع منع الطرف الآخر من الاستفادة منها أو فرض شروطه عليه".
ولفت الطاهر إلى أن أثر هذا النمط من الإدارة لا يقتصر على تمويل الحرب فحسب، بل يمتد ليهدد مستقبل القطاع النفطي نفسه، والتشغيل غير المهني، أو التوقف الطويل من دون صيانة، يؤدي إلى تلف المكامن وخسائر فنية جسيمة، فما يحدث الآن ليس استنزافاً موقتاً، بل تدمير لأصل استراتيجي قد يحتاج سنوات لإعادته للعمل حتى بعد توقف الحرب".
وحذر الباحث في مجال النفط من أن "استمرار هذا الواقع سيجعل إعادة بناء قطاع النفط أكثر تعقيداً من إعادة بناء المؤسسات السياسية. فإذا لم يُفكك اقتصاد الحرب داخل قطاع النفط، فلن يكون هناك تعافٍ اقتصادي حقيقي، لأن المورد نفسه سيكون قد تضرر أو خرج من السيطرة الوطنية".
تفكيك الاقتصاد
إذا كان النفط يمثل مورداً استراتيجياً محدود المواقع، فإن الذهب هو المورد الأخطر في اقتصاد الحرب السوداني بسبب انتشاره الجغرافي وسهولة تهريبه وتحويله إلى سيولة فورية، فمع انهيار الرقابة الحكومية، خرج قطاع الذهب بالكامل تقريباً من سيطرة الدولة، وتحول إلى مصدر تمويل مرن وسريع لأطراف النزاع.
يشير المتخصص في شؤون التعدين الفاضل موسى إلى أن "الحرب أعادت تشكيل خريطة السيطرة على الذهب، بخاصة في مناطق التعدين الحرفي، لأن الذهب لا يحتاج إلى بنية تحتية معقدة مثل النفط، ولذلك كان أسهل مورد يتم تحويله إلى وقود للحرب، فأي مجموعة مسلحة يمكنها السيطرة على منجم، وفرض جبايات، ثم بيع الإنتاج فوراً، ففي مواقع التعدين تُفرض على العاملين تصاريح قسرية ورسوم يومية، إضافة إلى اقتطاع نسب مباشرة من الإنتاج. ولا تُدفع هذه الأموال للدولة، بل تُجمع نقداً أو عبر وسطاء محليين يعملون لمصلحة الجهة المسلحة المسيطرة، إذ لا يملك العامل أو المنقّب خياراً حقيقياً، إما أن يدفع ويعمل، أو يُمنع من الوصول للموقع، وهذه الجبايات أصبحت دخلاً ثابتاً، لا موقتاً".
وبحسب موسى فإن "مرحلة ما بعد الاستخراج هي الأكثر حساسية، حيث يبدأ تهريب الذهب خارج النظام الرسمي، فالذهب يُباع أولاً لتجار محليين، ثم ينتقل عبر سلاسل تهريب برية أو جوية إلى خارج السودان، وفي كل مرحلة، تُقتطع حصة، إلى أن يصل إلى أسواق إقليمية حيث يُعاد إدخاله للاقتصاد العالمي بأوراق جديدة".
وأوضح المتحدث أن "هذا النمط جعل من الذهب مورداً مثالياً لتمويل الحرب، فالذهب سيولة جاهزة لا يحتاج إلى بنوك، ولا يترك أثراً مالياً واضحاً، إذ يمكن تحويله إلى نقد أو وقود أو سلاح خلال أيام".
ويرى موسى أن "خطورة اقتصاد الحرب القائم على الذهب لا تكمن فقط في تمويل القتال، بل في تفكيك ما تبقى من الاقتصاد الرسمي، فعندما يصبح الذهب خارج الدولة، تفقد الحكومة قدرتها على إدارة النقد الأجنبي، ويُترك سعر العملة رهينة لتجار الحرب".
ولفت المتخصص في شؤون التعدين إلى أن "استمرار هذا الواقع سيخلق اقتصاداً موازياً يصعب تفكيكه حتى بعد توقف القتال، فما يتشكل الآن ليس مجرد تهريب، بل نظام اقتصادي كامل قائم على العنف، إذ إن تفكيكه لاحقاً سيكون أصعب من تفكيك الميليشيات نفسها".
اقتصادان متوازيان
يملك السودان واحداً من أكبر مخزونات الموارد الطبيعية في أفريقيا، وربما في العالم، غير أن هذه الوفرة لم تتحول يوماً إلى قوة اقتصادية حقيقية، فبينما ظل الاقتصاد الرسمي عاجزاً عن استغلال هذه الإمكانات منذ الاستقلال، أفرزت الحرب واقعاً أكثر تعقيداً، اقتصادين يعملان في آنٍ واحد، أحدهما معلن تقوده الدولة، والآخر خفي تقوده الميليشيات.
يقول المحلل الاقتصادي محمد الناير إن "السودان يتمتع بقاعدة موارد استثنائية، لو أُديرت في بيئة مستقرة لتحول إلى اقتصاد إقليمي مؤثر، فالسودان يمتلك ما بين 75 إلى 90 مليون هكتار صالحة للزراعة، المستغل منها لا يتجاوز 20 إلى 25 مليون هكتار فقط، إلى جانب ذلك، هناك تنوع ضخم في مصادر المياه، حصة غير مستغلة بالكامل من نهر النيل، ومياه جوفية متجددة، وأمطار لو تمت إدارتها لوفّرت عائداً مائياً هائلاً".
وتابع الناير "الثروة الحيوانية وحدها تضع السودان ضمن الدول الكبرى عالمياً، إذ يمتلك أكثر من 110 ملايين رأس من الماشية، إضافة إلى تنوع كبير في المحاصيل الطبيعية والعضوية المطلوبة في الأسواق العالمية، ومحاصيل نادرة مثل الصمغ العربي، فضلاً عن التنوع المناخي الذي يسمح بإنتاج محاصيل استراتيجية، وثروات باطنية تتجاوز 30 معدناً، على رأسها الذهب، إلى جانب البترول المكتشف وغير المكتشف".
غير أن هذه الموارد وفقاً للناير، "لم تُستغل تاريخياً إلا بنسب محدودة، ولم تنعكس على الاقتصاد الكلي كما ينبغي، ومع اندلاع الحرب، لم يعد الصراع داخلياً فقط، بل تداخل مع مطامع إقليمية ودولية، فالسودان مستهدف ليس فقط بسبب أزماته الداخلية، بل بسبب موارده الضخمة وموقعه الجغرافي الاستراتيجي كحلقة وصل بين العالم العربي والأفريقي، وامتلاكه ساحلاً على البحر الأحمر بطول يقارب 750 كيلومتراً، وهو من أهم الممرات الملاحية الدولية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار المتحدث إلى أن "الدولة السودانية، عبر مؤسساتها والجيش، تعمل وفق الضوابط الرسمية، والنظام المصرفي، والاستيراد والتصدير عبر القنوات القانونية، والمراجعة القومية التي تراقب الحسابات، فهذه الموارد تُستخدم لتسيير دولاب الدولة، ودفع الرواتب، وتغطية الاحتياجات العامة، بما فيها متطلبات المجهود الحربي لحسم التمرد، في حين تستغل "الدعم السريع" الموارد لإطالة أمد الحرب، عبر التهريب والدعم الخارجي وقنوات غير رسمية، فعلى سبيل المثال، السودان ينتج نحو 75 طناً من الذهب سنوياً، لكن ما يُصدر رسمياً لا يتجاوز 20 إلى 25 طناً، إذ يتم تهريب الفارق، ولا يستفيد منه الاقتصاد السوداني".
وأكد المحلل الاقتصادي أن "هذه الأنشطة لا يمكن فصلها عن ضعف الرقابة الدولية، فالتمويل السري والدعم اللوجستي الخارجي للميليشيات يمثل تعدياً على سيادة السودان، بيد أن المجتمع الدولي يمتلك الأدوات الكفيلة بوقف هذا الدعم، لكنه لم يستخدمها بالشكل الكافي".
شبكات الظل
بينما يسيطر الجيش والدولة على الموارد عبر القنوات الرسمية، تحوّلت بعض الموارد الحيوية، مثل الذهب والنفط جزئياً، إلى أدوات تمويل مباشرة للصراع عبر شبكات تهريب ودعم خارجي، وهذه الشبكات لا تعمل فقط على مستوى السودان، بل تمتد إلى أسواق إقليمية ودولية، ما يجعل اقتصاد الحرب أكثر مرونة وصعوبة في الرقابة.
يقول المتخصص في الشؤون المالية طه حسن إن "الذهب، على سبيل المثال، يبدأ طريقه من المناجم الحرفية التي تسيطر عليها الميليشيات، ثم يُباع لتجار محليين، قبل أن يُهرب إلى الأسواق الإقليمية حيث يُعاد دمجه في الاقتصاد العالمي بأوراق جديدة، فالذهب يصبح نقداً فورياً، يستخدم لشراء الوقود، والسلاح، وشراء الولاءات داخل السودان، وبالتالي فإن العملية منظمة للغاية، وليست فوضى كما قد يظن البعض".
وأضاف حسن أن "النفط، على رغم سيطرة الدولة على معظم الحقول، يتعرض أحياناً للتهريب أو النقل خارج القنوات الرسمية من قبل جهات صغيرة مرتبطة بالميليشيات، فبعض الشركات الصغيرة أو الوسطاء المحليين يملكون إذناً محدوداً أو يفرضون رسوماً على النقل، ويعيدون بيع النفط جزئياً في الأسواق السودانية أو الإقليمية، فهذه الأموال تُستغل مباشرة في تمويل العمليات العسكرية".
وأكد أن "الدعم الخارجي للميليشيات يمثل عنصراً آخر في استمرار الحرب، فهناك دعم لوجستي وعسكري يأتي من بعض الجهات الإقليمية والدولية، يشمل التمويل، والتدريب، وحتى المعدات، هذا الدعم يُضاف إلى التمويل المحلي غير الرسمي، ما يجعل صعوبة إنهاء الحرب أكبر".
وزاد الخبير المالي قوله "المجتمع الدولي يمتلك الأدوات الكافية لتقليل هذا التمويل أو وقف الدعم الخارجي، لكنه لم يفعل بشكل كافٍ، فلو تم وقف الدعم الخارجي وقطع شبكات التمويل الموازية، يمكن للجيش أن يحسم الحرب بسرعة أكبر وإعادة السيطرة على الموارد".
ومضى المتخصص في الشؤون المالية في القول، "استمرار هذه الشبكات سيؤدي إلى ترسيخ اقتصاد حرب دائم، يصعب تفكيكه حتى بعد توقف القتال، فإذا لم تُجفف هذه الشبكات، سيظل هناك شريان دائم لتمويل النزاعات المستقبلية، حتى لو توقفت الحرب الحالية".