لا يعتبر الابتزاز ظاهرة جديدة بل هي موجودة من العصور القديمة وفي مختلف دول العالم. إنما مع التطورات الحاصلة في التكنولوجيا وفي العالم الرقمي، اتخذ منحى آخر مع ظهور الابتزاز الإلكتروني مع ما يترتب على ذلك من آثار نفسية وصحية أيضاً على الضحية ومحيطها قد تكون أكثر صعوبة بعد من تلك الناتجة عن التعرض للابتزاز بمفهومه التقليدي.
وفي ظل جائحة كورونا وظروف الحجر المنزلي، انتشرت هذه الظاهرة أكثر فأكثر، وإن كانت معدلاتها قد بدأت في الارتفاع بشكل لافت من عام 2017. في مثل هذه الحالة، تتعرض الضحية حكماً للخوف والضغط النفسي وقد تعاني اضطرابات نفسية ومشاكل، خصوصاً في المجتمعات المحافظة أو المتشددة التي يكون هناك جهل فيها بالتعاطي مع هذا النوع من المشاكل.
كما تطال هذه الآثار عائلة الضحية ومحيطها الضيق بشكل خاص، بما أن أثر الابتزاز يطالها أيضاً. عادة، يتعاطف الكل مع الضحية، نظراً لما تتعرض له من ضغوط وترهيب وتهديد.
أما عملية الابتزاز الإلكتروني بذاتها، فتعتبر جريمة يعاقب عليها القانون، فتتم ملاحقة المبتز الإلكتروني وتوقيفه وإحالته إلى القضاء المختص. ينظر بعض الخبراء في علم النفس إلى المبتز الإلكتروني كشخص يعاني اضطراباً سلوكياً وعدم استقرار عائلي أو نفسي. فهل يمكن القول، إن المبتز الإلكتروني يعاني فعلاً اضطراباً نفسياً، وأنه مريض نفسي، أم أنه ثمة أسباب أخرى يمكن أن تدفعه إلى هذا النوع من السلوكيات أيضاً؟
المبتز الإلكتروني في علم النفس
يعتبر الابتزاز الإلكتروني سلوكاً متكرراً متعمداً عدوانياً، يقوم به المبتز بهدف تخويف وإثارة غضب الضحية، وفي الوقت نفسه السيطرة عليها.
وقد يحصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي للتجريح والأذى أو عبر ألعاب الفيديو أو أي منصة للتواصل عبر الإنترنت. وبحسب الاختصاصية في المعالجة النفسية نور واكيم تتعدد أشكال الابتزاز الإلكتروني، وأبرزها نشر الأكاذيب أو الصور المحرجة للضحية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتوجه إليها بعبارات جارحة وشتائم ورسائل للسيطرة عليه وتهديدها. كما يمكن أن يحصل انتحال لشخصية الضحية وإرسال رسائل بذيئة إلى الآخرين على هذا الأساس.
وتقول "يعتبر الابتزاز الإلكتروني امتداداً للابتزاز بمفهومه التقليدي الذي يحصل في الواقع. إنما ثمة اختلاف بينهما لجهة أن المبتز يكون في مواجهة الآخرين بشكل مباشر عند القيام بأفعاله هذه في الابتزاز بمفهومه التقليدي، ويمكن للكل أن يراه بعكس ما يحصل مع الابتزاز الإلكتروني، حيث يكون عادة مجهول الهوية ويتصرف بطريقة خفية من وراء الشاشة ما يعطيه المزيد من السلطة، وقد يستخدمها بأسوأ الأساليب المتاحة له. يضاف إلى ذلك أنه في الابتزاز بمفهومه التقليدي يحتاج المبتز إلى القوة والسلطة، وغالباً ما يكون من الذين يتمتعون بمزيد من السلطة وقوة الشخصية مقارنة مع الضحية. لا تطبق هذه المواصفات على كافة المبتزين في العالم الرقمي، فقد يبقى مجهول الهوية، وهو لا يتمتع بقوة الشخصية والسلطة دائماً حتى يقوم بهذه الأفعال".
مع الانتشار الحاصل لوسائل التواصل الاجتماعي، يبدو واضحاً أن الابتزاز الإلكتروني أخذ في الانتشار أكثر فأكثر بحيث بلغت الأرقام مستويات تدعو إلى دق ناقوس الخطر، وهو يطال المراهقين بشكل خاص. فلا يحتاج المبتز عندها إلا إلى الجهاز الإلكتروني والإنترنت ليقوم بهذه الأفعال، وكذلك بالنسبة للضحية. ويتوقع أن تزيد معدلاته أكثر بعد زيادة المنصات الرقمية التي يمكن اللجوء إليها لتحقيق هذه الغاية ولتغذية الابتزاز الإلكتروني أكثر بعد، ما لم توضع له الحدود اللازمة.
فيمكن للمبتز الإلكتروني أن يستمر بأفعال الابتزاز والتهديد والسيطرة على الضحية ليلاً ونهاراً طالما أنها تستخدم الإنترنت، وهنا تكمن الخطورة الكبرى للابتزاز الإلكتروني في مقابل الابتزاز الفعلي التقليدي الذي لا يمكن للمبتز أن يصل إلى ضحيته في كل مكان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالتالي، هو يتمتع بسلطة كبرى بفضل العالم الإلكتروني، ويمكن أن يقوم بأفعاله بشكل متواصل ومتكرر وقد يشاهدها الملايين، والأسوأ أن ما يتم نشره لا يمكن إلغاؤه أو إزالته، بل يبقى الفعل مستمراً طويلاً. وهذا كله ينعكس بشكل أكبر على الضحية، ويسبب لها المزيد من الضغوط النفسية فتكون عرضة للاكتئاب والعزلة الاجتماعية وزعزعة الثقة بالنفس وصولاً إلى الأفكار الانتحارية أو حتى الإقدام على الانتحار.
للمبتز الإلكتروني دوافعه
قد لا يكون من الممكن الحديث عن سبب واحد أو عن شخصية معينة يمكن وصف المبتز الإلكتروني بها حتى يوضع في خانة المضطرب سلوكياً أو نفسياً، بل توضح المعالجة النفسية واكيم أن مجموعة عوامل يمكن أن تلعب دوراً لتجعل الشخص أكثر ميلاً إلى ممارسة الابتزاز الإلكتروني، ومنها التمتع بشخصية يغيب فيها التعاطف مع الآخرين، إلى جانب جهل تداعيات هذه السلوكيات المؤذية على الضحايا، بخاصة أن الضحية تكون هنا خلف الشاشة والمبتز لا يشهد ما تتعرض له. فقد يعتقد المبتزون أحياناً أن ما يقومون به من أفعال تعتبر مضحكة ومثيرة للسخرية بعيداً من الأضرار التي يسببونها، فلا يدركون حجم الضرر الناتج عن أفعاله.
إنما في البحث عن دوافع المبتز، يمكن أن يتبين أنه يقوم بأفعاله هذه أحياناً على سبيل الانتقام لأنه كان في وقت من الأوقات ضحية تنمر، فيكون له رد الفعل هذا. وهنا يعتبر المبتز ضحية في الوقت نفسه. ويشكل المبتزون الذين يقومون بأفعالهم المؤذية هذه على سبيل الانتقام، النسبة الكبرى، بحسب ما يتبين.
في مثل هذه الحالة، تشدد واكيم على أن المبتز الإلكتروني، بعيداً عن الأحكام التي تطلق عليه، وعلى الرغم من الضرر الذي يسببه للضحية، يحتاج إلى المساعدة حتى يتخطى الحالة التي هو فيها ويعبر عن مشاعره ويتعلم كيفية اللجوء إلى آليات التأقلم الصحية بدلاً من اللجوء إلى هذه السلوكيات السلبية المؤذية والانتقام. فتحوله هنا من ضحية إلى مبتز ناتج عن عدم قدرته على إيجاد آليات التأقلم الصحيحة هذه على أثر مواجهته الظروف التي تسببت له في الأذى ما يسبب له مشكلات نفسية.
وتوضح المعالجة النفسية "لا بد من التركيز على أهمية تقديم المساعدة النفسية الصحيحة للضحية في الوقت المناسب حتى تتخطى هذه الأزمة التي تمر بها بأفضل ما يكون، وحتى لا تتحول في يوم من الأيام أيضاً إلى ابتزاز الآخرين، كرد فعل انتقامي، على أثر ما تعرضت له وهو ما يحصل في كثير من الأحيان".
وكما أنه ثمة حاجة إلى إحاطة الضحية التي تتعرض للابتزاز الإلكتروني، تبرز أهمية إحاطة المبتز أيضاً من قبل أهله عندما يكتشفون أنه يقوم بأفعال مماثلة، فدورهم أساسي هنا. لا بد لهم عندها من الاعتراف بالمشكلة والتعامل بهدوء معها وفهم الأسباب التي دفعته إلى القيام بذلك واستيعاب الصورة كاملة عبر التواصل معه قبل اتخاذ أي قرار أو القيام بأي رد فعل.
ويجب أن يفهم الأهل أو المحيطون ما إذا كان ضحية في يوم من الأيام حتى يقوم بابتزاز الآخرين بهذا الشكل أو ما إذا كان يعاني مشاكل في الانخراط مع رفاقه في المدرسة بحيث يجد هنا وسيلة للانخراط اجتماعياً أو ما إذا كان يقوم بذلك على سبيل التسلية ويجهل أنه يسبب كثيراً من الأذى للآخرين.
كما يجب أن يعي حجم الضرر الذي يسببه ومشاعر الضحية على أثر ما تعرضت له، إلى جانب تأمين الإحاطة اللازمة له أو المساعدة النفسية إذا كانت هناك حاجة لذلك. فقد يعاني المبتز مشكلات نفسية تماماً كالضحية. إلا أن هذه المشكلات النفسية لا تعني أنه يعاني اضطرابات نفسية، ولا يمكن القول إنه يعتبر مريضاً نفسياً. وهذا لا ينطبق حتى على كل مبتز إلكتروني كما تؤكد واكيم. لذلك تبرز الحاجة إلى معرفة الأسباب والدوافع وراء هذا السلوك لتحديد حقيقة حالته النفسية.
في المقابل، يعتبر دور الأهل جوهرياً في التعاطي مع هذه المسائل التي يتعرض لها أطفالهم، سواء كانوا من المبتزين أو من الضحايا لأن المخاطر تطالهم في الحالتين، ما يدعو إلى إحاطتهم بشكل كامل ومراقبة استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي لاعتبارها الخطر الداهم الأكبر في أيامنا هذه.