Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيمان عبدالعزيز تلملم قصائد الحياة في طريقها إلى البيت

ديوان "الفئران تجيد الرقص أيضاً" يلتقط نثارات معركة الوجود ضد التهميش اليومي

لوحة للرسام عصام يوسف (صفحة الرسام على فيسبوك)

في مجموعتها الشعرية الجديدة "الفئران تجيد الرقص أيضاً"، الصادرة حديثاً في القاهرة عن الهيئة العامة للكتاب، تقدم المصرية إيمان عبدالعزيز القصائد المراوغة بوصفها مجموعة حلول غير نمطية للأزمات الفردية المستعصية والجماعية المستغلقة، فالكتابة هي تلك العملية العجيبة التي تمد يدها إلى الواقع المحيط، لكنها ترفض أن تصافحه، قبل أن تصفي حسابها معه، ولعلهما لا يتسقان أبداً، فالواقع هو الخطاب المعلن للقوة والمادية والتمييز، والكتابة هي المشروع السري للانفلات والتحقق والعدالة، "أبي سور عازل، أمي جاسوسة، تضع كاميرات المراقبة على نوافذ قلبي، وتدشن مشروع تمردي".

الكتابة أيضاً فوق أنها غاية جمالية عليا هي باستعمالاتها المتنوعة الاختيار الاستراتيجي الوحيد المتبقي في معركة الوجود، فالقصيدة وحدها قد تنتج الأنياب التي تكسر الأقفاص، وقد تشعل زيتاً قبل آخر النفق المظلم، وقد تسرق إصبعاً من بيانو لتخليق نبضة لقلب ميت إكلينيكياً، كما أنها قد توفر وسادة مريحة لدمعة حائرة. ومن دونها فلا شيء في هذا العالم الميكانيكي الأجوف سوى تقسيم الثروات وتوسعة مساحات القسوة والقهر والبذاءة والقبح والتنكيل "أزرار ريموت كونترول/ مسرح، يمثل فيه الجميع مشاهد الركض واللهاث" و"ﺍلأ‌ﺭﻗﺎﻡ الجوعى تلتهم ما تطوله من ﺍﻷ‌ﺭﻭﺍﺡ الممغنطة".

التحدي والجنون

هذه الكتابة المشاغبة في ديوان "الفئران تجيد الرقص أيضاً"، جناحاها هما التحدي والجنون على طول الخط في سائر المسارات، حتى في مسار العشق (القبلات التي لا يطلق سراحها أبداً، والمستغفرون نيابة عن كل أرض لا تجد جذراً تحتويه). ولذلك فإن تسميتها "لوثات شعرية"، كما في عنوان إحدى القصائد، تبدو تسمية ملائمة لهذه الثيمة من قصائد النثر، أو النثارات الشعرية المشهدية التي تشاكس الواقع المربك بحماسة وتنازله باندفاع، وتشتبك معه بندية وجدية، وتنتصر مرة وتنهزم أخرى، وتكسب جولة هنا وتخسر شوطاً هناك، مستمسكة دائماً بكسر الخطوط الحمراء كضرورة لازمة، ومعتبرة أن المسالمين أكثر مما ينبغي، هم البلهاء في هذا الكوكب "أية حماقة دفعتني، لأن أهوى أبله، لم يخرق قط إشارة حمراء؟!".

ولا تخشى النصوص الشعرية صلابة الواقع وحقائقه المرعبة وقوانينه المجحفة وأسلاكه المكهربة على الحدود، فهي مشحونة بأسلحتها الفنية الخاصة من تخييلات غير محكومة ونزعة سوريالية وصور وأفكار ذات طبيعة سحرية وأسطورية، الأمر الذي ينسف الأطر المنطقية تماماً في التعاطي مع سائر التفاصيل الدقيقة واللحظات الصغيرة، ويمنح التجربة حرية التحرك خارج ضوابط الوعي والقاموس المألوف للغة، خصوصاً مع عدم الإيمان بجدوى التاريخ ومفهمومه "التاريخ يا صديقتي، مقلب قمامة نلقي فيه: الخطايا، الخطب، خواتم الزواج، وخواتيم القصص".

هكذا ببساطة يصير بإمكان الذات الشعرية، وكل ذات وكائن وجماد حتى، ممارسة دور فعال إيجابي لا يقف عند حد الغضب والاحتجاج على الأوضاع المأساوية القائمة، لكنه يمتد إلى المقاومة والتغيير، فالغيمة بقدراتها الشفيفة الاستثنائية قد تغرق مثلاً طائرة حربية أو تبطل أزيزها المدوي على أقل تقدير. والخضراوات قد تنظم مظاهرة في السوق للتضامن مع باذنجانة تنمرت عليها "أصابع سيدة أرستقراطية تحتضن المشروم". أما في الصيدلية فقد تلقي علبة الدواء قصيدة لكي "تخرج مريضاً مسناً من الكآبة".

هذه القصيدة التي تتفوق على الكيمياء في ابتداع ترياق عصري لاعتلالات البدن والروح، يجري تصديرها كذلك وفق التوليفة المثيرة ذاتها كعلاج يوتوبي ناجع إزاء مطبات الحياة اليومية ومشاويرها المضنية الوعرة "في طريقي إلى المنزل ألف قصيدة". كما أنها الحارس الأمين للجوهر الإنساني من الانحدار إلى الهاوية جراء التوحش والعنصرية والرغبات التدميرية والمعايير التسليعية في عالم زائف "يمد فيه البائعون ﺃﻭﻛﺎﺯﻳﻮﻥ ﺍﻟﻜﻨﺎﻳﺔ ﺣﺘﻰ ﺇﺷﻌﺎﺭ جديد" و"يدير فيه القادة والسماسرة بورصة الوعد والوعيد، وأسهم الورع إن بدت لهم مربحة".

ملح الأرض

تهب إيمان عبدالعزيز قصائدها المكثفة فرصاً إضافية لانهائية من الوجهة الوظيفية وليست الجمالية، لتكون في بعض جوانبها محطات للتثوير وشحذ الهمم وتعزيز الإرادة وروح المبادرة وإشاعة الثقة والطمأنينة وجبر الانكسار وإتمام النقصان وتعويض الغيابات، وما إلى ذلك من أدوار جانبية للكتابة التي تتطلع إلى إنجاز ملموس بعد عمر طويل جرى إهداره في "محاربة طواحين الرتابة واللعب بقصاصات الورق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تأتي اللقطات الشعرية المحتفية بالأحياء وثيقة الصلة بظلال العاديين والفقراء والمطحونين والمهمشين والمنبوذين، وتتبع روائحهم وآثارهم وخطواتهم، فهم كنز حكايا الوطن وملح الأرض، إلى جانب قطط الشوارع ونتوءات الرصيف وبقايا الرز المبعثر بين أكياس القمامة. وللموتى كذلك حقهم الكامل في العدالة والمساواة فوق ميزان القصيدة، فليس هناك "موتى برتبة قشة" وآخرون برتبة سادة، أو مثلما أن الجوع لا يجادل ضحاياه أيهم أثقل وزناً، فلن يجادل القبر موتاه "أيهم أكثر وسامة".

هذا التوجه صوب المهملين والمنسيين القادرين على التحقق يفسر انحياز الديوان، منذ عنوانه، إلى تلك "الفئران" المفعمة بالنشاط والطاقة، التي يجب عليها دائماً أن تتقن الحركة وتجيد الرقص، وسيكون رقصها جميلاً لأنها تفعل ما تشاء وقتما تشاء، ولو أن ذلك في البالوعات القذرة والمواسير المهملة، فليس هناك ما ينفر، وليس هناك ما يوصف بالقبح في حقيقة الأمر إلا محاولة قمعها ومنعها من الغناء والرقص مع مجانين المساء وعشاق القمر.

التحرر الوظيفي

وتحت مظلة الرغبة في الابتعاث والانتفاض والانقضاض على الموروثات البالية لتحطيمها، تثار كذلك بين ثنايا السطور قضايا ذات طابع خاص، منها صوت التمرد النسوي الذي لا ينفك يصيح مطالباً بإزاحة الصورة النمطية للمرأة المصرية والشرقية التي لا يكاد يتبقى في جسدها مكان لقبلة، "كيف جعلتني يا أمي جداراً، يخشى تنكيس أكتاف أولاده، يخشى أن تحط العصافير عليه، أو تلقمه تغريدة حميمة؟"، وكذلك صوت التمرد العائلي الذي لا يزال ينتقد غلطة آباء وأمهات "يصدون بكاء أطفالهم بمنفضة السجاجيد"، إلى آخر هذه اللمحات والإشارات.

وتبقى مناطق الإدهاش الأخصب في نصوص الديوان، هي تلك المواضع التي تحفر تمردها على الصعيد الجمالي في المقام الأول، بمعنى أن اللقطة ذاتها هي التي تتحرر من السياقات السابقة الدارجة، لغة وخيالاً وتعبيراً وتصويراً، كما تتحرر أيضاً من الأدوار الوظيفية الأخرى للقصيدة بشكلها المباشر، لتبقى هذه الوظائف الإضافية مجرد لحن هامس في خلفية المشهد، وهذه المواضع اللافتة ليست قليلة على امتداد الديوان، ومنها "بالأمس استقالت جذور شعري، قبل أن أطالبها، بإيواء شجرة كافور، بترها ونش البلدية، وهو يتغزل بعشيقته.. القمامة"، و"أبي جبل/ أمي جنية/ تقف على رأس أبي/ تهش الشياطين عن بيتنا".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة