Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعرة آلاء فودة تقتحم العصر الألكتروني وجدانيا

ديوان "بحّة في عواء ذئب" انتصار للدفء الإنساني على وحشية العالم الآلي

لوحة للرسام المصري صلاح طاهر (صفحة الرسام على فيسبوك)

يعكس المشهد الراهن لقصيدة النثر المصرية حضوراً لافتاً للأصوات النسائية، التي تحفر تمرّدها الخاص في مسارين؛ الأول هو السعي إلى تجاوز السائد في الكتابة الشعرية من خلال جماليات متفجرة وأفكار طازجة وخيالات مبتكرة وانزياحات تصويرية وتعبيرية مغايرة للمجاني والمتكرر في إطار هذا النسق الإبداعي، الذي أثبت تحققه وذيوعه على مدار الخمسين عاماً الماضية.

أما المسار الثاني؛ فهو حرص الشاعرات الجديدات على التحرر من المفاهيم الضيّقة المتعلقة بقضايا المرأة، إذ تكتسب قصيدة النثر النسوية المنفلتة أبعاداً إنسانية أعمق وأوسع من كونها ترجمة للمسائل الجندرية والجنسانية والحقوقية وما نحو ذلك، وهي أمور مهمة وجوهرية لا تختفي ولا تتقزّم بطبيعة الحال في تلك الكتابات الجديدة، لكنها تتشابك مع بعضها البعض، ومع قضايا فردية وجماعية أخرى ملحّة تخص المبدعين والأناس العاديين، لتنصهر جميعها في سياق الأزمة البشرية الأعمّ، والمصير المشترك، ومأساة الكائن الآدمي في أوطان تتبدل وتتمزق، وحياة تغيب، وعالم يتهاوى ويتشظى، ووجود عنوانه القسوة والفقدان.

وتمثّل الشاعرة المصرية آلاء فودة (30 سنة)، في ديوانها "بحّة في عواء ذئب"، الصادر حديثاً في القاهرة عن الهيئة العامة للكتاب (نوفمبر/ تشرين الثاني 2021)، صورة ناضجة لتلك الكتابات المشحونة بالحيوية الشعرية، والطموح إلى إثبات الذات، في آن واحد. وقد فاز الديوان، الذي يتضمن 31 قصيدة مكثفة موزعة على 88 صفحة، بجائزة صحيفة "أخبار الأدب" بمصر، وتُرجمت نصوصه المشهدية الخاطفة إلى الفرنسية ضمن فعّاليات "معهد العالم العربي" في باريس. وهي، في مجملها، شذرات لا تقصد بالتوهّج غير الالتماع الفني والجمالي فقط، ولا شيء سواه، كبديل عن الأنفاس المختنقة والحالات الحالكة على الأرض، إذ يبقى تغيير الواقع حلماً مستحيلاً، خارج دائرة الكتابة، وربما فوق إرادة الفعل الإنساني "ليس لديّ ما أقوله/ القصائد ضعيفةٌ جدّاً، في إزالة ركام الدخان من صدري/ وأنا طفلة، تملكتني ريح، وقذفت بي في آخر الممر".

اللعبة الذكية

وتمضي الشاعر في لعبتها الذكية المراوغة، للإيهام بأنها لا تملك أي رصيد إيجابي أو حركة استثنائية إزاء حياة منتهية غير قابلة للتحوّل "العالم كله مُعادٌ من قبل/ لا شيء يستدعي الانتباه غير ذاتك/ وهي أيضاً قد تكون ظهرت من قبل، في عوالم أخرى"، فيما هي في حقيقة الأمر لا تكترث بالنفخ في وضعيات المَوَات هذه، التي لا طائل من ابتعاثها من مرقدها، ولا فائدة من تحريك عقارب الساعات إلى الوراء "انتظاراتكِ المبالغ فيها، ولهكِ باللعب في نتيجة الحائط، نظراتكِ الكثيرة لساعة يدك، كلّها كلّها  بلا جدوى/ كل ما سيأتي، قد جاء، غير أنك لم تشعري/ الحزن المرصود في قامتك، أتلفه الوقت، وخربته التكنولوجيا".

لكنّ الذي تراهن عليه من خلال حيوية القصيدة، هو الإتيان بحياة أخرى صالحة للسُّكنى، وبذاتٍ منتعشة جديرة بالبقاء، وبعمق إنساني ينتصر على وحشية العالم التكنولوجي، وهذا ما تحاول أن تنجزه شعريّاً، ليس من منطلق أن الكتابة تبدّل العالم القديم الميؤوس منه، وتعيد تشكيل الذات التالفة، وإنما من منطلق أكثر فاعلية ومصداقية والتصاقاً بالجوهر، هو أن الكتابة بحد ذاتها هي ذلك الكوكب الموازي، المفطور على الاستقلالية والاستغناء، والذي تصلح تربته السحرية لزراعة حياة كاملة، وتنتظر فيه الذات حصاداً مختلفاً "أنتِ وحدكِ تطلبين من العالم، للمرة الأخيرة، أن يكون ذاتيّاً ذات يوم، ويعطيكِ نتائج جديدة، لم تُذع من قبل".

هكذا، ترتقي الحيوية الشعرية فوق فكرة الدعوة إلى تغيير العالم، وكذلك فوق نظرية إعادة صياغة العالم، لتتحقق من خلالها فرضية أكثر تلقائية وبساطة، هي تحقق الحياة والذات معاً بالكتابة، فمن الحروف ونبضها يتخلق الكون المأمول، وتستدفئ الذات تحت أشعة العشق والألفة، وتتشكل العلاقات الموصولة مع الآخرين، التي لا يهمّ إلى متى سوف تستمر، طالما أنها قد بدأت "تمر قصيدة من يدك إلى يد حبيبك، فيراك العالم مرة، مرة واحدة، ولا يهم أن ينساك بعدها أو لا، لا يهم".

الاحتماء بالبراءة

ومع لعبة التخليق المحورية، ثمة ألاعيب متنوعة تلجأ إليها الشاعرة في نصوصها، على رأسها الاحتماء بالبراءة، وذلك من أجل رسم "ماكيت للطبيعة قبل آدم"، واكتشاف الفروق والتناقضات الكثيرة، بين الحياة الاستهلاكية المادية خارج الكتابة، التي يخسر فيها المرء كنوزه كلها، وأثمنها طفولته، والحياة الخصبة الغنيّة التي تحققها القصيدة، بمواقفها الشفيفة الملتقطة بعناية وحساسيتها التخييلية الفائقة وقدرتها على تقصّي ما وراء الأسطح الظاهرية والنفاذ إلى الأعماق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي هذه "القصيدة/ الحياة"، تتولد الثروات الإنسانية المنسيّة، وتتجلى الطاقات الروحية المهدرة، على نحو فريد، كما في قصيدة "عامل مَلاهٍ" على سبيل المثال "الطفل الذي فقد طفولته بين أحراش العالم، يوزّع البذور على أفواه الأرض، حتى نبت العشب في رئتيه/ كبر مؤخراً/.../ الطفل الذي لم يلْهُ في يقظته، ولم يلْهُ في منامه، أصبح عاملَ مَلاهٍ/ كل ليلة، ينتظر سقوط الثانية عشرة صباحاً/ حين يفرغ الملهى تماماً، يخلع زيّ العمل، يتجوّل حافياً، ثم يشرع في البحث عما فقد".

أما على مستوى اللغة، التي هي وحدة بناء "القصيدة/ الحياة" في تجربة الشاعرة، فعادة ما تنحصر في كونها وسيلة، فهي الطريق أكثر من كونها جهة الوصول، وهي التمثال الذي ربما يظل طويلاً عاطلاً من العمل، إلى أن يعزز وجودَه هجومُ مناقير الطير "في كل مرّة أكتب فيها نصّاً/ أقول هذا هو النصّ الأخير/ سأترك روحي هنا/ سأقطع من لحمي في تلك السطور/ وألفظ أنفاسي الأخيرة على عتباته/ وحين ينتهي النص أشرع في تمزيقه".

لعبة السخرية

وهناك لعبة أخرى تمثّل ملمحاً لقصائد آلاء فودة، هي لعبة السخرية من المفردات العلمية الحديثة، والمصطلحات التقنية والتطبيقية والاتصالاتية والمستخدمة في الشبكات والحواسيب وغيرها، والتعريفات الطبية والرياضية والاقتصادية، والتجارب المعملية، والقياسات الدقيقة، وما إلى ذلك من إشارات إلى سائر مجالات العلم والمعرفة، إلى جانب المواد والأدوات والمبتكرات الحديثة المستعملة بصفة يومية، ومنها "التليفون المحمول"، الذي حين تمسكه لا تتذكر بمن تريد الاتصال، فقد يكون مفقوداً في الحرب، أو نازحاً في المخيم، أو تائهاً بين ملفات مجلس الأمن، أو وحيداً يمرر الوقت كغاز سام.

وهي تثبت بهذه اللعبة الساخرة كذلك، شأن الألاعيب الأخرى، نأيها المقصود عن المنجزات الظاهرية المنسوبة إلى هذا العصر الميكانيكي، وتعلن صراحة رفضها التام التصالح مع آلياته وتروسه وحساباته ولغته الرقمية وفضاءاته الافتراضية الباردة وبرمجياته ومداراته المحبوكة التي تاهت فيها إنسانية الإنسان، وتبخرت رائحة خميرته الطينية. وتتناثر شواهد تلك السخرية على امتداد صفحات الديوان، من قبيل: "كن بخير أيها العجوز، رغم تشقق عمامتك، وتدلي رؤوس ثمارك أمام إشارات الواي فاي"، و"صورة عائلية ترفع الحائط/ ميكانيكا الكمّ تنير قنديل نعيمة عاكف/ تاريخ صلاحية الألبان يذكرني بميلاد أمي"، و"انطلقت عصافير من فم البندقية/ صرنا خطوة ثلاثية الأبعاد"، و"أن يمزقك الخواء وأنت تنتصر على الجاذبية/ أن تُعجن بين فكي الآلة ويُعاد تدويرك/ ألا تكون أنت"، و"دماؤنا التي ستتناثر على مرآة السائق، هي مصدر نظيف ومتجدد للطاقة/ اشحنوا عرباتكم بها، وغنّوا وأنتم في الطريق/ فربما يحن (كلاكس) لحنجرته القديمة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة