Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

منى الشمري تسرد قضايا المجتمع الكويتي بين اللؤلؤ والذهب الأسود

"لا موسيقى في الأحمدي" رواية الفروق الطبقية والعنصرية وخيبات الحب

من المسلسل الذي اقتبس من رواية "لا موسيقى في الأحمدي" (صفحة الكاتبة منى الشمري على فيسبوك)

ماذا يعني أن تصدر طبعة خامسة من رواية "لا موسيقى في الأحمدي" للروائية وكاتبة السيناريو الكويتية منى الشمري (دار الساقي 2022)، بعد تحولها إلى مسلسل تلفزيوني كويتي عُرض في شهر رمضان عام 2019، وأثار جدلاً لتصويره العمانيين برتبة أدنى من الكويتيين، وهو أمر بررته الكاتبة وأنكرته، وبدا جلياً أنه مجرد افتراء لا أساس له من الصحة؟ وقد حمل المسلسل الذي أخرجه دحام الشمري، عنوان الرواية نفسه، واحترم تسلسل الأحداث الروائية إلى حد كبير.

تقدم الشمري في روايتها "لا موسيقى في الأحمدي" التي حازت بفضلها جائزة الدولة التشجيعية في الكويت عام 2018، صورة مفصلة عن الأسرة الكويتية والبيت الكويتي والعادات والتقاليد والأصول الكويتية في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته. وتعتبر هذه السنوات مفصلية في تاريخ دولة الكويت لأنها السنوات التي انتقلت فيها الدولة من أرض يزاول أهلها مهنة الغوص والصيد وبيع اللؤلؤ إلى دولة نفطية ازدهر اقتصادها بفضل الذهب الأسود. وشهدت الكويت آنذاك طفرة اقتصادية أدت إلى طفرة اجتماعية حتمية غيرت في تركيبة المجتمع وطرق تفكير أهله تدريجياً.

يستغرب القارئ عنوان الرواية الذي يوحي بالصمت والهدوء، بينما الرواية عاصفة باللهجة الكويتية والأصوات الكويتية والأناشيد الكويتية. إن شاعرية العنوان توحي بالصمت الحزين وبالخيبة، وهي معانٍ تبررها الأحداث، وتبررها قسوة الظروف، لكنها تتعارض من ناحية أخرى، مع ثراء النص الصوتي والموسيقي الذي يشكل مرآةً للوجود الكويتي الصاعق والصاخب، فيكاد القارئ يسمع كلمات الحوارات بلهجتها الأم، كما يكاد يسمع الأناشيد والأدعية والأغاني التراثية التي ترد على ألسنة الشخصيات. وهذا ما يجعل هذه الرواية كويتية بامتياز وتضع الكويت على خريطة الفن الروائي العربي المعاصر.

فضاءان سرديان متعارضان

أخذت دولة الكويت تشهد منذ منتصف أربعينيات القرن العشرين انفتاحاً فكرياً واجتماعياً إلى جانب الازدهار الاقتصادي الذي حولها إلى مركز تجاري ونفطي مهم في الشرق الأوسط. تظهر هذه المرحلة الانتقالية في عمل منى الشمري عندما تجعل أبطالها يتنقلون بين مدينتين اثنتين، أولاهما مدينة الأحمدي في محافظة الأحمدي، وهي تشكل مقر شركة نفط الكويت والمكاتب الرئيسة لها وما يرافق ذلك من حداثة، وثانيهما مدينة الفحيحيل، وهي أيضاً منطقة تقع في المحافظة نفسها، لكنها ظلت في تلك الفترة مركز الموانئ والمرافئ وسوقاً تجارياً بالغ الأهمية لبيع السمك واللؤلؤ. فتقول الشمري منذ بداية سردها واصفة التعارض بين الفضاءين السرديين اللذين تدور فيهما الأحداث: " كانت روحي تحلق عالياً بين بيتين ومدينتين: بيت الأحمدي النفطية الحديثة، الصارخة بصخب الحرية ومجنونة بالتغيرات الصادمة على النمط الإنجليزي، وبيت الفحيحيل البحرية، الهادئة المستسلمة لروتينها المعتاد ورتابة إيقاعها وخدر تقاليدها" (ص19).

وبينما تتأرجح الأحداث بين مكانين متعارضين وفي زمن انتقالي مصيري بين الحداثة النفطية والتقاليد البحرية، يتجسد التأرجح كذلك في عادات مجتمع بكامله، فتظهر من ناحية عادات أهل الكويت بطعامهم وملبسهم وتقاليدهم ويومياتهم، تظهر من ناحية أخرى الرغبة في الخروج على التقاليد العتيقة والميل إلى اكتشاف الحياة والحرية والحب. فهل ينجح الجيل الشاب في الانتقال من التقليدية إلى الحداثة من دون صدام عنيف؟

من اللافت أن الشمري توظف نمط الوصف في مواضع محددة من سردها ومن دون إطالة لتنقل مشاهد من يوميات أهل الكويت. بين بحارة خلال عملهم في بيع السمك أو اللؤلؤ، وبين جلسات النساء، بين مشاهد البحر ومشاهد الصحراء قصص عائلات وأصدقاء وجيل شاب، قصص حب مبتور وأحلام مرتعشة وعلاقات متوترة بين نساء ورجال وأزواج وأهل وأقرباء، لتظهر تركيبة المجتمع بما فيها من حب ومنافسة وعنصرية وظلم على أساس فروق طبقية ومذهبية وعرقية.

مجتمع يخذل الحب

يمكن أن نختار لرواية "لا موسيقى في الأحمدي" عنواناً آخر، وهو "لا حب في الأحمدي"، وهو عنوان لا يبتعد عن متن الكلام بتاتاً. فلا قصة حب تنجو من مقص العادات والتقاليد ورغبات الجد "عضيبان" رأس العائلة والأمر الناهي في شؤونها. فـ"حمد" والد "لؤلؤة" الراوية في معظم الفصول، يضطر إلى الزواج من "حصة" التي لا يحبها، والتي تحب غيره أصلاً. كذلك "لؤلؤة"، لا يمكنها أن تتزوج من "سيف" الشاب الذي تحب لأنه عماني وغير مقبول في العائلات الكويتية العريقة. "سعود" شقيق "لؤلؤة" هو الآخر لا يمكن أن يتزوج من "زينب" الفتاة التي يحب لأنها شيعية. أسباب دينية، عرقية، اجتماعية كثيرة لا عد لها ولا حصر، تمنع قصص الحب في هذه الرواية من الاكتمال، ليصبح النفي الموجود في العنوان هو نفي لأي نوع من أنواع الحرية والسعادة، فلا موسيقى في الأحمدي، ولا حب ولا نهايات سعيدة.

من الجدير بالذكر أن منى الشمري تستعرض المجتمع الكويتي بخصائصه وتفاصيله وتركيبته أمام القارئ العربي بطريقة غير فاضحة وغير صادمة. فعلى الرغم من الظلم الذي يطاول الشخصيات، وعلى الرغم من قسوة التقاليد والهرمية الاجتماعية التي تخذل كل قصص الحب الموجودة في النص، يشعر القارئ بالفضول لاكتشاف خبايا هذا الفضاء المحافظ التقليدي الأصيل من دون أن يحرد عليه وعلى طبقة المحافظين منه. تقدم الشمري التوتر بين الكويتيين والعمانيين والعراقيين، تقدم الزواجات غير المحبذة بين السنة والشيعة، تقدم مأساة البدون الذين لا يملكون أوراقاً ثبوتية ويعانون الأمرين لأنهم عاجزون عن نيل وظائف كغيرهم من أهل البلاد (ص120). إنما لا تصعق الشمري قارئها، لا تستفزه، لا تحبطه بأخبارها هذه، بل نراها تبسط أمامه القضايا والمسائل بطريقة مبطنة مقتضبة من دون إلحاح أو تصعيد. وكأن الكاتبة لا تريد أن يعلو صوتها فوق صوت شخصياتها، وكأنها تتركهم يتصرفون على سجيتهم في لهجتهم وفي المنطق الذي يسير أمورهم من دون أن تطلق العنان لسلطتها ككاتبة أو متمردة.

نماذج كويتية

تجسد هذه الرواية نماذج عن نساء الكويت ورجالها. فالنساء صامتات منصاعات من دون أن يكون في ذلك ضعف أو انكسار. هو صمت الحشمة والحفاظ على العادات والتقاليد وعدم الرغبة في كسر كلمة الرجل رأس العائلة. تقول لؤلؤة مثلاً واصفة برمزية جميلة مشهد العودة من المدرسة إلى البيت خلف الجد: "يومئ برأسه إيماءة نفهمها من دون أن ينطق، نستعجل السير خلفه وكأننا فرقة عسكرية، لا كلام، لا ضحك، لا توقف، ولا نثير حتى الغبار أثناء سيرنا، حتى لا تفهم أي حركة بأننا خفيفات" (ص70). من هنا، يتخذ العنوان "لا موسيقى في الأحمدي" معنى النفي القاطع على صعيد آخر: لا اعتراض على النظام الساري. للنساء نظام وأصول يتبعنها ويعشن وفقها وللرجال كذلك، ولا مكان للحب أو للحرية أو للموسيقى أو للتمرد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الرجل فهو صياد أو تاجر أو طبيب أو رجل بارز في المجتمع، يحمي عائلته ويحرص على سلامة أفرادها، لكنه كذلك مهرب آثار يعمل لصالح امرأة بريطانية. وليس اختيار جنسية المرأة اعتباطياً. إن ظاهرة بيع الآثار إلى متاحف بريطانية بطريقة غير قانونية ليس بالأمر الجديد على المجتمع الكويتي، فتدخل شخصية السيدة الإنجليزية إلين التي تعمل على تهريب الآثار التاريخية من الكويت إلى بريطانيا لتكون العنصر المكمل للفسيفساء. فتقول عنها الراوية لؤلؤة: "تفرغت تماماً لشراء القطع الأثرية من محمد أبي مشاري وشحنها إلى لندن لبيعها إلى سماسرة المتاحف البريطانية هناك" (ص85). على الرغم من أن شخصية إلين تكون على وفاق مع الشخصيات الأخرى، وتكون هي التي تختار أولاً عنوان "لا موسيقى في الأحمدي" عنواناً لمذكراتها، يصعق القارئ في النهاية عندما يكتشف أنها تخون الرجل الكويتي الذي ساعدها، ثم تعود إلى بريطانيا وطنها الأم.

"لا موسيقى في الأحمدي" رواية المجتمع الكويتي في النصف الثاني من القرن العشرين، رواية مجتمع محافظ نموذجي زاخر باللهجات المحلية والأمثلة الشعبية والأناشيد العامية وقصص الحب المحظورة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة