Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عزة بيضون تنظر بعيون اللبنانيات لتقارب قضاياهن العربية

دراسات في واقع المرأة وما حققته وما حالت السلطة الذكورية دون إنجازه

لوحة للرسام كازيمير ماليفيتش (صفحة الرسام على فيسبوك)

على موقع "من هي" الذي أسسه المعهد العربي للنساء في الجامعة اللبنانية الأميركية، جاء تعريف الباحثة في علم النفس عزة شرارة بيضون كما يلي، "بصفتها لبنانية اختارت أن تكون مواطنة في دولة علمانية، وأن تكون امرأة حرة بحسب الدستور". ثم يتكرر التأكيد مرة أخرى على صفة "لبنانية". من حق الفرد أن يفخر بانتمائه إلى المحلي لكن التعريف لا يعبر فعلياً عن الرؤى والأبحاث والأفكار التي قدمتها بيضون على مدى مسيرة طويلة، بدأت منذ أن قررت الحصول على درجة علمية في علم النفس، لكونها لم تجد الشغف المنشود في الرياضيات.

الحياة أعقد كثيراً من معادلة رياضية، فكان السؤال الذي يشغلها هو الصحة النفسية للنساء، الواقع والمأمول، التعريف والممارسة، فراحت تبحث ميدانياً في التشكل الاجتماعي والثقافي لمعنى الصحة النفسية، وصدر كتابها الأول عام 1998 بعنوان، "صحة النساء النفسية بين أهل العلم وأهل الدين". وحديثاً صدر لها عن دار الجديد كتاب "بعيون النساء: شؤون اللبنانيات وقضاياهن"، ليظهر التأكيد على المحلي مرة أخرى، وكأن شؤون اللبنانيات وقضاياهن لا تتقاطع أو تتشابه مع شؤون النساء خارج الحدود اللبنانية، على الرغم من أن أهل العلم وأهل الدين لا يشغلهم سوى صنع النموذج النسائي المتخيل.

في مواجهة المؤسسات

أجدني مضطرة إلى إعادة تعريف عزة بيضون، فهي بصفتها نسوية عربية لبنانية، اختارت أن تكون مواطنة من الدرجة الأولى عبر مواجهة قيود المؤسسات المذهبية والطائفية الكائنة في لبنان وفي العالم العربي، ومنذ أن صدر كتابها الأول عن الصحة النفسية جاءت كل كتبها وأبحاثها بعد ذلك لتعزز من الصحة النفسية للنساء، أو كما تقول في نهاية كتاب "بعيون النساء" أن في كتابها الأول الصادر عام 1998 ظهرت  "بذور اهتماماتي البحثية اللاحقة وتعويل صريح، ما زلت ملتزمة به، على شمل الحركة النسوية لموضوع رفاه النساء النفسي، والبحث في شروط تحقيقه في سياق تطوير هذه الحركة لخطابها السياسي الأشمل".

ومن أجل السعي إلى تطوير الخطاب النسوي لا بد من قراءة هذا الإنتاج المعرفي لبيضون بعدسة لا تلتزم الحدود الجغرافية، عدسة ترى بوضوح صفة "اللبنانيات" في العنوان، ثم توسع مجال الرؤية والتلقي لتكون قراءة عابرة للحدود.

ما يهمني هنا هو نزع صفة المحدودية المحلية أو ما يطلق عليه الخصوصية، عما قدمته بيضون، فالأمر لا يتعلق بإحصاءات وأرقام أو مقابلات، بل إن الكتاب يقدم رؤية واضحة لمنظومة علاقات القوى التي تتحكم في المجتمع اللبناني والعربي، لتعضد تقسيم الأدوار بين النساء والرجال بما يمنح الرجل حقاً، على سبيل المثل وليس الحصر، بممارسة العنف على الزوجة أو الابنة أو الأخت. 

يضم الكتاب أربعة أقسام متناغمة غير منفصلة، فما أن ينتهي الجزء الأول الخاص بقضية العنف كما يقع داخل الأسرة ثم يمثل أمام القضاء حتى يجد القارئ أن الجزء الثاني الخاص بطبيعة الدراسات النسوية والمنهج الذي تتبناه، يقدم إجابة عن سؤال كيفية مناهضة العنف ضد النساء.

سؤال العنف ضد المرأة

في الجزء الأول الخاص بقضية العنف وهي قضية رئيسة لا يمكن التغاضي عن أهميتها في حال الحديث عن المواطنة، توضح الكاتبة الأطراف الرئيسة المسؤولة عن شرعنة العنف وبقاء الوضع كما هو عليه، وهي على صواب تماماً في ذلك.

العنف بـ "كل أشكاله" ضد النساء ليس متعلقاً بشخصية هذا الرجل أو ذاك، ولا علاقة له بمستوى التعليم أو الثقافة، فهو عنف تسانده المؤسسة السياسية والدينية والقضائية، وفي هذه الأخيرة لا يوجد فارق بين القاضي الرجل والقاضية، وذلك لأن الأمر ببساطة لا يتعلق بجنس الشخص بل برؤية حقوقية ومجتمعية.

قد (وأود التأكيد على "قد" التقليل أو "قد" الاحتمالية)، تكون خصوصية لبنان نابعة من إحالة قضايا النساء إلى مؤسسات الطوائف المذهبية وهي مخولة من الدستور اللبناني برعاية الشخصي والأسري، ولكن إذا كان الأمر معلناً في لبنان، فهو بالتأكيد ضمنياً في كل بقعة من العالم العربي، فالخطاب الديني المستحدث يشرعن تأديب النساء وتهذيبهن، ويمنح المنظومة الأبوية اطمئناناً كافياً لممارسة العنف، ومن هنا يحتل إنتاج المعرفة أهمية كبرى، وهو ما يتناوله القسم الثاني.

تقدم الكاتبة ثلاث إشكالات بحثية أراها ليست فقط مهمة في ما يتعلق بأبحاث الجندر، بل بالبحث العلمي عموماً. يتعلق الإشكال الأول بمسألة المنهج الذي يتم توظيفه في المنظمات غير الحكومية، فهناك مناهج نسوية حقيقية (وهذه الصفة الأخيرة إضافة مني)، لا تجعل صوت النساء مصدراً لـ "المعطيات الناجمة عن الوضعية المتناولة في النص وحسب، وإنما أيضاً حجة لفهم الديناميات التي تحكمها"، وهو ما يؤدي إلى تشكيل المعرفة من وجهة نظر النساء ووفقاً لمصلحتهن.

روايات النساء

أما المنهج الآخر والذي يختار عدم التصادم المباشر مع المنظومة الأبوية، فينتهج مسألة التمكين (مصطلح اخترعه البنك الدولي) عبر كسر الصمت حول روايات النساء، وهذا ما نراه في الشهادات والمقابلات وغير ذلك.

في كل الأحوال لا يتوجب أن يتم إنجاز البحث ليقبع بشكل أنيق على رفوف المكتبة، وهنا يظهر الإشكال الثاني، وهو المشاركة المجتمعية، القراء في هذه الحالة، فالقارئ هو الذي يمنح البحث وجوده، ومن أجل عدم تحدي القارئ لا بد من الاهتمام بالأبحاث العربية، وهو الإشكال الثالث المتعلق باللغة التي نكتب بها، وهو أمر أتفق فيه تماماً مع بيضون، إلا أن الكتابة باللغات الأجنبية في أحيان تجعلنا بمأمن من الرقابة السياسية التي هي طرف يساند التمييز ضد النساء.

في القسم الثالث لا تتنازل الكاتبة عن العودة للتأكيد على المحلي، فيكون العنوان هو "شؤون اللبنانيات وقضاياهن"، وبمطالعة الأبحاث في هذا القسم نجد أنها شؤون تنسحب على جميع النساء في المنطقة، فالكيفية التي يعيش بها الجيل الحاضر جانب الأمومة تتشابه مع كل بلد عربي، فالبوح والسرد على صفحات "فيسبوك" والمفردات المستخدمة للتعبير عن الحيرة والشعور بالعبء وأحياناً الذنب، كلها أمور لم تخطر في بال أي أم من قبل، بل إن دراسات الأمومة أصبحت سائدة في المجال الأكاديمي، ولم تعد قصراً على مجالي علم الاجتماع والنفس.

أما مسألة الصحة النفسية فهي إشكال أيضاً، بحيث يسهم الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تشكيل معنى الصحة النفسية، وبالتالي يختلف التعريف في ما يتعلق بامرأة عام 1970 وامرأة 1993، وهو ما يضع امرأة 2017 على الطرف النقيض تماماً في رؤية المعالجين النفسيين، لما يجب أن تكون عليه الصحة النفسية للمرأة في مجتمعاتنا التي يتنازعها التوق إلى الحرية السياسية، والتخلص من القيود الطائفية والفكاك من الاستحقاقات الأبوية، فالسلطة عموماً في أي زمان ومكان لا تفكر سوى في صورة الاستقرار بعيداً من منظومة علاقات القوى الجندرية في المجتمع، وهو ما حدث بعد اتفاق الطائف في لبنان وبعد كل استقلال وقع في المنطقة العربية.

تقسيم الأدوار

تم الحصول على الحقوق العامة من تعليم وصحة وقانون، وتم تجميل، بوصفه تحديثاً، المجال السياسي والبرلماني ببضع نساء، وتوقف الأمر عند ذلك، بل ازداد شراسة في ما يتعلق بتقسيم الأدوار (حجة الحفاظ على الهوية).

وحتى يومنا هذا تدور الأحاديث الأبوية والفتاوى الدينية حول مشروعية عمل المرأة خارج المنزل، وفي احتدام الانشغال المهموم بهذا الأمر يسقط العمل المنزلي من الحسبان، لمجرد أنه بلا مقابل، فلا يدخل في الناتج القومي. ويكتسب مصطلح "ربة منزل" كثيراً من المشاعر السلبية التي ترى أن ربة المنزل شخص عاطل من العمل، ولا غضاضة فهي مجرد امرأة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تندرج كل هذه القضايا، من وجهة نظري، تحت لافتة العنف ضد النساء، العنف الذي يسعى إلى إلغاء أو تهميش النساء في المجال السياسي والاقتصادي والنفسي والأسري، تهميش كلي في الخاص، وجزئي في العام (لافتات الحداثة مهمة ولا تتحقق من دون المجال العام).

يجيء القسم الأخير من الكتاب بعنوان "ملحق خاص لا يخلو من العام"، ويتضمن مقابلات وشهادات تم إجراؤها مع عزة بيضون بوصفها باحثة وأستاذة وناشطة، وهي بالتالي تضيف مزيداً إلى الرؤية وتؤكد اتساقها وتوضح مزيداً من الأبعاد الاستراتيجية والمجتمعية التي تحركت الكاتبة بموجبها، وهذا ما يجعل هذا الجزء بمثابة ختام منطقي للكتاب، وهو ما تم ذكره في المقدمة، "أصبحنا نحن نسويات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي/الموجة الثانية، موضوعاً لمقابلات شخصية "معمقة" في محاولة من النسويات الشابات للبحث عن امتدادهن في الزمن الأسبق في مسارات حيواتنا، وبتوثيق أقوالنا وأقوال نساء من كل الفئات يتجمع لديهن سِير حيواتنا، وهي عناصر تصلح لتشكيل أرشيفات نسائية متاحة للباحثات والباحثين".

تحتاج أي حركة نسائية صلبة إلى الماضي الأرشيفي لتفهم موقعها الحالي، والأرشيف يبدأ من الخاص الذي يتحول إلى عام، فالخاص هو العام ولا تفرقة، كما أن قضايا اللبنانيات هي قضايا العربيات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة