في صمت إعلامي وثقافي غريب يعبر حدث تنظيم معرض فني للتشكيلي المغربي الراحل محمد القاسمي، أحد أبرز الأسماء في تاريخ الفن في البلاد. فالمعرض الذي انطلق مع نهاية الشهر الماضي، ويستمر إلى التاسع من الشهر المقبل، في صالة "المعادن – مراكش، لم يحظَ لا بالمواكبة الإعلامية التي يستحقها الفنان الراحل، ولا بالاهتمام اللازم من طرف أهل الحقل الفني والثقافي، خصوصاً أن القاسمي يشكّل أحد أكثر التجارب الفنية نضجاً ووعياً وتفرّداً في العصر الحديث. وقد عُرضت لوحاته في أكثر من مئة معرض في أوروبا وأميركا، فضلاً عن بلدان أفريقيا والعالم العربي، وتناول أعماله بالدراسة والتحليل نقّاد وفنانون ومؤرخون.
عصامي يصل إلى العالمية
لم يدرس محمد القاسمي التشكيل في المعاهد ومدارس الفنون الجميلة، ولم يخضع لأي تكوين أكاديمي منظم. دخل حديقة الرسم من باب الولع الخاص، ووقف في سن مبكرة أمام كبار الرواد وحظي بتقديرهم وبتقدير الدارسين. اشترت له أمه في طفولته علباً للتلوين، فاهتدى بذلك إلى عالم الرسم، وبدأ شغفه بالفن يتجلّى منذ تردده على مرسم إحدى الفنانات الأوروبيات التي كانت تقيم في مدينته مكناس. وبالرغم من عدم دراسته للفن وفق تأطير أكاديمي، كان من كبار مثقفي المغرب، ومن العارفين بأسرار الفن وتاريخه وتياراته، فضلاً عن انخراطه في التأليف الأدبي. وصفه المفكر الراحل عبد الكبير الخطيبي بالفنان "ذي الموهبة الكبرى، والمثقف بالمعنى الكامل". كان القاسمي في شبابه مدرّساً للأطفال، وإن كان ترك عالم التربية متعقباً الألوان والظلال، فقد عاد إلى هذا المجال من زاوية أخرى في أعوامه الأخيرة، حين عيّنه ملك المغرب ضمن لجنة عليا كُلّفت وضع الخطوط العريضة لإصلاح قطاع التعليم.
منذ منتصف الستينيات إلى أواخر السبعينيات، سافر القاسمي مع لوحاته إلى بلدان عدة، بدءًا من إسبانيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والدنمارك وصولاً إلى كندا. ومع مطلع الثمانينيات، شارك في معارض كبرى في الاتحاد السوفياتي وأميركا، فضلاً عن بلجيكا وسويسرا والكويت والعراق والجزائر والبرازيل، ليتوجه في الأعوام اللاحقة إلى مصر والسنغال والبحرين وإيطاليا وغيرها.
شاعر الألوان
حمل معرض مراكش عنواناً لافتاً "العمل مكشوفاً"، للدلالة على رغبة المنظمين بالكشف عما وراء أعمال القاسمي من تمثلات وخلفيات فكرية. لذلك تم تقسيم الأعمال المعروضة وفق ثلاث مراحل تاريخية مفصلية في تجربة الفنان المغربي الراحل: "نهاية أيديولوجيا جماعية" 1979-1982، ثم "محيطات للعبور" 1982-1988، بينما حملت المرحلة الثالثة عنوان "نحو الكونية" واشتملت على الأعمال المنجزة ما بين 1995 و1998.
في معظم أعماله المعروضة في صالة "المعادن"، يلوذ القاسمي بالألوان الخافتة في نزعة صوفية واضحة. نادراً ما تظهر في لوحاته الألوان المبهجة التي يهيمن فيها الضوء. فالأسود بتدرجاته هو اللون الأثير عند القاسمي. إنه ليس لون الليل والسكينة فحسب، بل هو لون أعماقنا، حيث يتشكّل كل شيء في الظل قبل أن يخرج إلى الضوء.
تتجلى لمن يدنو من لوحات القاسمي صورة الشاعر والفيلسوف، هو الذي أصدر أعمالاً شعرية ونشر كثيراً من المقالات التي عبّر فيها عن فلسفته الفنية، بالتالي نقل خصائص الشعر ونظريات الفلسفة إلى أعماله، بل إنه أصدر أعمالاً مشتركة مع شعراء مغاربة أمثال عبد اللطيف اللعبي وحسن نجمي، جمعت بين التشكيل والكتابة الشعرية.
من القاعة إلى الشارع
لم يكُن القاسمي يرغب بأن تبقى الأعمال الفنية حبيسة جدران المعارض أو جدران المؤسسات المقتنية، لذلك كان سبّاقاً إلى عرض اللوحات في المعارض المفتوحة في الشوارع والساحات والأفضية العامة، والاشتغال المباشر مع التلاميذ في مدراسهم، ومع نزلاء المصحات النفسية. بل إن القاسمي كان رائداً في العالم العربي حين أشرك في ممارسة فنّه عامة الناس عبر ما سمّاه بـ"المعرض المفتوح"، بحيث أتاح لمحبيه إمكانية زيارة مرسمه وحضور لحظات تشكّل لوحاته والتفاعل معها بما يروق لهم. وفي السياق ذاته، أسهم القاسمي برفقة فنانين معروفين أمثال فريد بلكاهية ومحمد شبعة ومحمد المليحي في تحويل مدينة أصيلة خلال السبعينيات إلى حديقة تشكيلية مذهلة، إذ قاموا برسم عدد من الجداريات الكبرى في أحياء المدينة، وهي العادة التي دأبت مدينة أصيلة، منذ ذلك العهد، على تنظيمها باستمرار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
آمن القاسمي باكراً بمفهوم الالتزام، فقد كان مثقفاً يسارياً، غير أنه لم ينخرط في أي حزب سياسي يساري سواء كان راديكالياً أو معتدلاً. وعبّر سواء من خلال فنّه أو مقالاته في الصحافة العربية عن مواقفه في كثير من القضايا السياسية والفكرية. وحمل آخر معرض له شعار "الإبداع في مواجهة الدمار والتخريب"، وكان تنديداً بالحرب ورفضاً للتدخل الأميركي في العراق. لم يكُن الفنان الراحل يكتفي بالتعبير اللغوي والفني، بل ترجم مواقفه عبر انخراطه في الحركة المجتمعية، ويكفي أن نذكر أنه كان من المؤسسين للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان.
نشير في النهاية إلى أن صالة "المعادن" في مراكش سبق لها أن احتفت بالقاسمي قبل ثلاثة أعوام عبر معرض استعادي حمل عنوان "عبق الحرية"، وضمّ 74 لوحة من أعماله سواء التي أنجزها في بداياته أو التي ختم بها مساره الفني. كما تمّ تقديم الكتاب الذي أعدّته عنه المؤرخة الفنية نادين ديسندر.
كان القاسمي يشتغل على عمل أخير مع الشاعر عبد اللطيف اللعبي عنوانه "مكائد الحياة"، غير أن القدر شاء أن يغادر الفنان الحياة ومكائدها قبل أن ينهي هذا العمل.