Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"تحريم" الاحتفالات الدينية والفنية في العراق يتحدى الطابع المدني للمجتمع

يرى البعض أن الفيصل في تلك الشؤون يجب أن يكون الدستور والقوانين المرعية الإجراء

منح الدستور العراقي المواطنين حرية التعبير عن آرائهم وضمن لهم حرية العقيدة (اندبندنت عربية - محمود رؤوف)

يُعد المجتمع العراقي، سواء أكان في المدينة، أو الريف، وعلى مر تاريخه، مجتمعاً مدنياً يؤمن بالتقاليد المدنية، ويعتبر الدين مكملاً لها وضابطاً للأخلاق والتقاليد الاجتماعية.

ومن مظاهر الانفتاح التي يعيشها العراقيون، اليوم، المشاركة والتفاعل في الاحتفالات والمناسبات الخاصة، الوطنية، والقومية، والدينية، التي تندرج ضمن مفهوم حرية التعبير والعقيدة. وتنظم مثل هذه المناسبات والتجمعات العامة عبر اعتماد لوائح وقوانين عامة تسترشد بها المؤسسات الأمنية والجهات المعنية في عملها. كما منح الدستور العراقي المواطنين حرية التعبير عن آرائهم وضمن لهم حرية العقيدة، على الا تخرج هذه الممارسات عن الآداب العامة، ولا تؤدي إلى الإضرار بأموال وممتلكات الدولة والمواطنين.
وجاء في الدستور العراقي لعام 2005 (الفصل الثاني) تحت بند "الحريات" المادة 73، ثانياً "تكفل الدولة حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني".

احتفالات وأعياد

واحتفل العراقيون بعيد ميلاد السيد المسيح، وتزينت شوارع العاصمة بأشجار الميلاد، وأضاءت الألعاب النارية سماء بغداد بتشكيلاتها المختلفة، ولم تتوقف حتى صباح اليوم التالي. وتجمهرت آلاف العائلات للاحتفال ببداية العام الجديد حتى ساعات الصباح الأولى.
إلا أن بعض رجال الدين أبدوا معارضتهم إقامة هذه الاحتفالات وعبروا عن امتعاضهم من هذه الممارسات، بينما كان للبعض مواقف أخرى من قبيل نشر البيانات والتغريدات والمقترحات.
وغرد الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في 1 يناير (كانون الثاني) 2022، منتقداً ما جرى من مظاهر في احتفال رأس السنة الميلادي. وقال، "لو أنني وأمثالي من رجال الدين سارعنا إلى تحريم تلك التجمعات أو انتقادها، لكنا مثاراً للنقد اللاذع من بعض الصبية والمتحررين بصورة غير عقلانية". كما طرح الصدر 12 مقترحاً بديلاً عن الاحتفالات برأس السنة الميلادية في تغريدته على "تويتر"، كان أهمها التصدق على الفقراء، والتواصل الاجتماعي وزيارة المرضى، وتوزيع الهدايا وإقامة الولائم، والندوات أو المؤتمرات أو إقامة مسابقات رياضية، والسفر والسياحة وتزيين المحلات، فضلاً عن إرسال بطاقات المعايدة ورفع النشيد الوطني واستخدام المفرقعات الآمنة وعدم رمي الطلقات النارية.

مجون وعادات تحررية

وبرر الصدر موقفه مغرداً بأن "تفشي الوباء يمنع بلدان العالم من إقامة الاحتفالات، وعلينا أن نتأسى بهم بدورنا، ونترك النقد". وتساءل، "أليس الوباء نفسه متفشياً في العراق؟ أو ليست الإجراءات الصحية أقل في بلادنا؟"، ولذا "يقتضي أن نتأسّى بالغرب في منعهم للاحتفال أم نقلدهم في مجونهم وعاداتهم التحررية ولا نتأسّى بتطبيقاتهم العلمية والعملية والصحية؟".
وكان مفتي العراق، مهدي الصميدعي، قد أعلن في عام 2018 في خطبة له، عدم جواز الاحتفال بأعياد السنة الميلادية وشبه المحتفلين بها بأنهم يعترفون بعقيدة دينية لدى المسيحيين. وأثار حينها غضباً من السلطات التي أكدت أن المسيحيين جزء من النسيج الاجتماعي في العراق منذ القدم.


الحفلات منافية للأخلاق والدين

ومنعت أحزاب دينية استمرار إقامة حفلات غنائية في أحد المجمعات الترفيهية في بغداد، "سندباد لاند"، بدعوى أنها "حفلات منافية للأخلاق والدين"، والتي كان قد شارك فيها فنانون من البلدان العربية ودول الخليج. كما منع المجمع من التعاقد مع أي جهة فنية (مطربين ومطربات) لاستكمال البرنامج السنوي.
وتجمع مئات المتظاهرين على بوابة المجمع الترفيهي، وأقاموا الصلاة احتجاجاً، وكرد فعل على إقامة الفنان المصري محمد رمضان حفلاً في المجمع المذكور.
وكانت القضية قد أثيرت على خلفية هجوم رجل الدين المعروف، جعفر الإبراهيمي، على الجهة المنظمة للحفل. وركز رجال الدين العراقيون في خطابهم على شخص الفنان محمد رمضان، واتهموه بالترويج للخلاعة في مجتمع محافظ. واعتبر البعض أن الحفل "ماجن، ولا يليق ببيئة العراق"، وعدّوه جزءاً من "مخطط صهيوني لتدمير المجتمع العراقي". وبدورها، اضطرت الشركة المنظمة لتقديم اعتذار من الجمهور العراقي، وألغت كل الحفلات "احتراماً للمراجع الدينية"، بحسب تصريحها لوسائل الإعلام.
ولم تعلق السلطات العراقية على الموضوع، ولم يكن لوزارة الثقافة أي دور، لكنها اكتفت بالقول إنها "تدعم فقط الأنشطة ذات القيمة الفنية الرفيعة".

الحرب لمنع الاحتفالات

على صعيد متصل، أبدى رجل الدين الشيعي، صدر الدين القبانجي، رفضه "إقامة المهرجانات للاحتفال بأعياد الميلاد في مناطق جنوب العراق، كونها مناطق ذات طابع ديني ومخصصة للسياحة الدينية ومعروفة لكل العالم، ويؤمها الملايين في شهور محرم". وأضاف: "إننا مستعدون للحرب من أجل منع هذه الاحتفالات الخليعة".
من جهة أخرى، علق أمين عام "كتائب بابليون" ريان الكلداني على المواقف المتشددة لرجال الدين، فقال، "نحن نحترم الشريعة، ونُجلّ العادات الاجتماعية، ونعتز بكل العراق والشرق، لكن اعتلاء المنابر مسؤولية، والتحريض على العنف بحجة الفضيلة خطيئة والاحتفال بمولد المسيح تحلله كل المراجع الدينية بأطيافها المختلفة".

فكرة الدولة الدينية لم تلقَ القبول

ما عبر عنه عدد من رجال الدين، مرده توجه بعضهم نحو فرض التوجه الإسلامي في الحكم والشارع في العراق. مع العلم بأن فرض دولة إسلامية في العراق لم يلقَ قبولاً ونجاحاً كبيرين، نظراً إلى التنوع القومي والفكري والديني والمذهبي في البلاد منذ قديم الزمان وحتى اليوم، وليس بعيداً أن تحمل بعض هذه التوجهات نزعات سياسية دينية للإسلام السياسي في فرض توجهاته وأجنداته في المنطقة بجميع الأساليب والطرق، كما عبر عن ذلك الباحث السياسي سربست مصطفى.

في الطريق إلى " الدعشنة"

من جهة أخرى، قال الباحث السياسي وائل الشكر، "لا تختلف الأصوات المطالبة بإلغاء الحفلات الغنائية عن الأصوات التي تطالب برفع تمثال المتنبي من شارع المتنبي، وتمثال شهرزاد وشهريار من "أبو نواس"، أو رفع تمثال رأس أبي جعفر المنصور من حي المنصور، إذ تعتاش هذه الأصوات على محاربة الثقافة والفن وفرض الإرادة الإسلاموية على المجتمع العراقي، وتجد هذه الأصوات قوتها في الأحزاب الإسلامية المتنفذة في الحكومة، والتي تسير يوماً بعد يوم في الطريق إلى الدعشنة"، أي إن يصبحوا دواعش.

الاحتفالات بادرة أمل وانفراج

في المقابل، اعتبر البعض أن مظاهر الاحتفال هي "بادرة انفراج وانفتاح بسبب استقرار الأوضاع الأمنية نسبياً وعودة الروح للعراق كقوة إقليمية. وعلق على ذلك الباحث في مجال العلاقات الدولية، سعدون الساعدي، بالقول إن "انفتاحاً إقليمياً ودولياً أدى إلى إحياء المهرجانات الثقافية الدولية مثل مهرجان بابل الغنائي، ومهرجان المربد الشعري، فضلاً عن إقامة معارض الكتاب في البصرة وبغداد وغيرها من الأمسيات الثقافية والفنية التي شهدتها مسارح بغداد، كل ذلك انعكس إيجاباً على البنى التحتية الثقافية، كما شهد شارع المتنبي حملة إعمار كبيرة، وهو الشارع الذي يمثل هوية العراق الثقافية لما يحتويه من مكتبات عريقة. وبرأيي فإن العراق مقبل على ثورة ثقافية كبيرة تعيده إلى ماضيه المجيد كمركز ثقافي وأدبي وفني عربي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


رفض الوصاية

في هذا الشأن، قال سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، رائد فهمي، إن "هناك موقفين من الشارع العراقي، أولهما هو رفض الوصاية جملةً وتفصيلاً، لأنها تتعارض مع الحقوق المدنية الأساسية. والاحتفالات الغنائية والفرح قضايا إنسانية، ولا أجد فيها أي انتهاك لقاعدة أو مبدأ أخلاقي أو مقدس، ربما اعتمدت على اجتهادات معينة وتفسيرات خاصة للنص الديني، بالتالي تتقاطع هذه العملية مع القوانين الوضعية والدستورية أيضاً، فضلاً عن تأثيراتها الثقافية، والتي يعد الفن بأشكاله المختلفة جزءاً منها".
أما الموقف الآخر فينطلق من زاوية أضيق هدفه وضع ضوابط و"تابوهات" (محرمات)، ويدّعي أن بعض الفعاليات الغنائية قد يعرض فناً هابطاً ومسيئاً تترتب عليه تداعيات أخلاقية وسلوكية سيئة.
ويعلق فهمي، "من وجهة نظري، نعم ربما قدم شيء لا يرتقي إلى الفن المحترم وفيه تداعيات أو سلوك سيئ، ولكن كيف يتم التعامل معه؟ لقد تم التعاقد مع هذه الجهة بشكل قانوني، فضلاً عن كون الحدث يعكس رغبة الجمهور. هنا نتساءل: هل هناك ضوابط وضعتها وزارة الثقافة، أو أي مؤسسة ثقافية تناط بها هذه المسؤولية لوضع مواصفات تؤمن الفن الراقي؟ من واجب هذه المؤسسة أن تتناول إجازة الفعالية ونوعها ومضمونها ومستوى الفن المقدم والنصوص التي تحتويها. وتكون قابلة للإدارة وفق القانون. وبهذه الحالة تتحمل الجهات المسؤولة عن منح الإجازات في أي تقصير يحصل. أما اذا أقيمت هذه الفعاليات من قبل مستثمر خاص، فلا يجوز التعامل معها من ناحية دينية ونتفق أنه فن لا يستحق الترويج، ويمكن معالجته وفق القانون". وزاد المسؤول في الحزب الشيوعي العراقي أن "الضوابط من الناحية الدينية مقبولة، ولكن هل الموقف ملزم للدولة؟ وهل هو ملزم للمجتمع وأفراده؟ مجتمعنا متنوع وفيه ثقافات ومكونات وأديان، وهذا التنظيم ينبغي أن يصدر من الدولة، وليس على حساب الحقوق والحريات، وأيضاً ليس عن طريق التكميم أو التضييق على الإبداع. أما المسّ بالآداب العامة وما يدخل في باب التجاوز على الآداب العامة، فلا يختلف اثنان على قبول التدخل فيه عبر الجهات الحكومية المختصة".

تدخل سافر وغير مقبول

وحول اعتراض رجال الدين وموقفهم إزاء الفرح والاحتفال، قال الأمين العام للتيار الاجتماعي الديمقراطي، علي الرفيعي، "من الطبيعي أن يؤمن الإنسان بحرية الرأي وقبول الآخر، ومن حق أي مواطن أو فرد في المجتمع أن يبدي رأيه أسوةً برجل الدين، لكن مصادرة حق الآخر والمطالبة بمنع إقامة الاحتفالات أو حظرها على أساس قدسية المكان، وعدم إجازة إقامتها في بعض الأماكن، كما حدث في مدينة بابل فهذا غير مقبول. ومن غير المعقول اعتبار الاحتفالات، عورة فنية وأخلاقية، كما عبر رئيس ديوان الوقف الشيعي السابق في وصفها".
وأكمل الرفيعي، "في مدينة كربلاء قامت الدنيا، ولم تقعد، حين عزفت إحدى الفنانات اللبنانيات على آلة الكمان في مراسم افتتاح نشاط رياضي في ملعب المدينة". وأضاف "أعتقد أن ذلك يُعد تدخلاً سافراً، فتحشيد بعض مناصري رجال الدين للتظاهر أمام القاعات والمسارح، يعتبر اعتداءً وترهيباً وتجاوزاً غير مقبول، حرية الرأي محترمة من قبل كل عراقي، سواء أكان رجل دين أو مدنياً. وليس كل من يلبس عمامة رجل دين، ووضع العمامة لا يصنع من صاحبها رجل دين، ومن حق الطرف الآخر الاعتراض على رأي رجال الدين بالضبط كما من حق رجل الدين الاعتراض، والدستور هو الحكم".
وصرح الباحث سياسي سلمان الأعرجي على ذلك بالقول إنه "على الرغم من أن أنظمة الحكم التي مرت على البلاد اختلفت من مدنية إلى جمهورية إلى حكم عسكري، وحاولت أن تجعل المجتمع منقاداً لتوجهاتها، نلاحظ مرةً أن الدولة أقرب إلى الطابع العشائري، ومرة أخرى تضع المؤسسة الدينية في مقدمة المشهد، لكن في كل الفترات لم يكن الطابع المدني بعيداً من المجتمع والملاحظ أن المدنية وعلى اختلاف أنظمة الحكم كانت هي الطابع المميز للمجتمع العراقي".
وقال الناشط السياسي جاسم الحلفي، إنه "على الرغم من كل ما يشعر به العراقيون من ضيم وأذى نتيجة نهب الأموال العامة من قبل حفنة من الفاسدين والمنتفعين الذين لا يأبهون بوضع الناس وحاجاتهم، من نقص الخدمات والجوع والظلم، تبقى هنالك بارقة أمل بما يقدمه شباب العراق من مواقف هي مثار إعجاب الجميع، كان آخرها حين خرجوا إلى الشوارع للتعبير عن فرحهم على الرغم من السخط واليأس وعدم الرضى على الفساد المستشري. وبصفتي مراقباً، فإني معجب بقدرة العراقيين على صنع الفرح على الرغم من المعاناة. نجدهم يقتنصون أي فرصة، فمرة ينتظرون فوزاً كروياً أو نصراً وطنياً على أعداء العراق أو مناسبة عالمية، وفي كل هذا يوجهون رسالة إلى العالم مفادها أن العراقيين جزء من العالم، وليسوا بمعزل عنه في فرحهم وليسوا مادة حرب وقتال وعنف، بل مادة فرح وتطور، ومن الخطأ كبت فرحتهم".
وعلقت الناشطة المدنية ذكرى سرسم على "التداخل الكبير في الأدوار بين السلطة الدينية والسياسية، وغياب تطبيق القانون". ورأت أن "هذا يولد فوضى واجتهادات شخصية، وفي هذا المضمار تظهر لدينا بين فترة وأخرى فتاوى ودعوات للتحريم. إن غياب تطبيق القانون بالتأكيد تنتج عنه تجاوزات وانتهاكات كذلك غياب المحاسبة يحول المجتمع إلى غابة".
وفي هذا الإطار، اعتبر الشاب العراقي، همام سلام (25 عاماً)، أنه "لا يحق لرجال الدين التدخل في الشؤون الاجتماعية ما دامت غير مخلة بالآداب أو خادشة للحياء أو تلامس المحرمات"، متسائلاً: "هل يحق لنا التدخل بالشؤون الدينية؟". وأضاف، "الحاجة إلى الترفيه والاحتفال ضرورة لجميع الشرائح، وما دامت ضمن الأطر الصحيحة فلا أعتقد أن من حق أي إنسان منعها".
التعبير عن الفن، سواء في المسرح أو الغناء أو الشعر، وغيرها من الفنون، هي من حق المواطن، ولأتباع الفن والمدنية وجهة نظر كما لرجال الدين وأتباعهم وجهات نظر، وتبقى لكل المناسبات الوطنية والاجتماعية والدينية أجواؤها وطقوسها وأنصارها، ومن حق الجميع التعبير عن نفسه على الرغم من الاختلاف.
ويبدو أن كل المحاولات الممنهجة لتأطير المجتمع العراقي بأطر دينية طبقية هي مجرد محاولات تأخذ قوتها واعتبارها من شكل الحكومة ومرجعياتها، إلا أن المدنية في كل مرة تحسم أمرها وتبرز ملامحها باعتبارها الطابع الأوضح للعراق.

المزيد من تقارير