عاد الحديث مجدداً في الجزائر حول وضع حقوق الإنسان، بعد انتقادات وجّهتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان للحكومة، لكن ما يدعو للاستغراب إشارة الهيئة الحقوقية إلى القوانين المتعلقة بالمجال الأمني ومكافحة الإرهاب. وفتحت الرسالة الأممية الموجهة للحكومة الجزائرية الأبواب للتشكيك في خلفية الملاحظات المقدمة، بخاصة في ما تعلق بالأمر رقم "08-21"، والقانون رقم "06-20" من قانون العقوبات، وهي النصوص التي تندرج في سياق مكافحة الإرهاب والحفاظ على الأمن والاستقرار، واعتبرتها قوانين تعارض أفضل الممارسات في تشريعات مكافحة الإرهاب، وشددت على أن أي إجراءات تتخذ ضد الإرهاب والتطرف العنيف تقتضي الامتثال لالتزامات الدولة بموجب القانون الدولي.
رسالة وشكوك
وأشار خمسة خبراء أمميين في الرسالة إلى القرار "22/6" لمجلس حقوق الإنسان الذي يطالب الدول بأن تتماشى تشريعاتها الخاصة بمحاربة الإرهاب والحفاظ على أمنها القومي مع التزاماتها بموجب القانون الدولي، وألا تعرقل عمل وأمن الأفراد والجماعات ومنظمات المجتمع العاملين على تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عنها، وأبرزوا أن مكافحة الإرهاب واحترام حقوق الإنسان هدفان لا يتناقضان، وإنما يكمّلان بعضهما البعض، وأعربوا عن قلقهم من الصيغة المعدّلة لقانون العقوبات في المادة 87 مكرر كونها تفتقر إلى الدقة المطلوبة في تعريف الإرهاب، على اعتبار أنها تنص على أنه "يعتبر فعلاً إرهابياً أو تخريباً، كل فعل يستهدف أمن الدولة والوحدة الوطنية واستقرار المؤسسات وسيرها العادي، عن طريق أي عمل غرضه السعي بأي وسيلة، للوصول إلى السلطة أو تغيير نظام الحكم بغير الطرق الدستورية، أو التحريض على ذلك والمساس بأي وسيلة السلامة الترابية أو التحريض على ذلك".
كما تعيب الرسالة على السماح بتصنيف أفراد أو كيانات كإرهابية في ظل غياب حكم قضائي نهائي، وهو ما "يتنافى مع مبدأ قرينة البراءة ومع مبادئ أخرى معترف بها دولياً تتعلق بالحق في محاكمة عادلة"، منتقدين اللجنة الخاصة بتصنيف الإرهابيين وإدراجهم في القائمة الوطنية من أي ممثل عن السلطتين التشريعية والقضائية أو عن اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان.
ونبّهت من مخاطر تقييد حرية التعبير من خلال القانون "06-20" الذي يعاقب على الازدراء وإهانة مسؤولين في مؤسسات الدولة، ويعاقب على نشر الأخبار الكاذبة، واعتبرت أنها مصطلحات فضفاضة بإمكانها أن تمس بحرية التعبير بشكل خطير وغير متناسب، كما انتقدت القيود المفروضة على التمويل الخارجي لمنظمات المجتمع المدني في إطار التشريعات المتخذة لمكافحة تمويل الإرهاب.
واختتمت الرسالة الحقوقية بدعوة الحكومة إلى مراجعة القوانين المشار إليها بما يتماشى مع التزامات الجزائر الدولية في مجال حقوق الإنسان، واقترحت تعاونها ومساعدتها التقنية من أجل تحقيق ذلك، وطلبت المفوضية تقديم تفسيرات ورد مفصل يتضمن الإجراءات التي ستتخذها الجزائر لضمان حرية التعبير والتجمع السلمي وتكوين جمعيات وحرية عمل المدافعين عن حقوق الإنسان والحق في محاكمة عادلة.
استفسارات وملاحظات
وتعليقاً على الرسالة ومحتواها، وما تبعها من جدل سياسي وتناول إعلامي، قال الملاحظ السابق بمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، محمد خذير، إن الرسالة للاستفسار، تنتظر رد الحكومة الجزائرية عليها، ولم يكن هناك توبيخ، وإنما ملاحظات حول نقائص، موضحاً أن المفوضية الأممية لا يمكنها توبيخ دولة ذات سيادة، غير أنه لها الحق في أن تستفسر عن بعض الأمور التي قامت بعض المنظمات غير الحكومية برفعها في شكل شكاوى، وأبرز أن الشكاوى هي التي تدفع المفوضية إلى توجيه خطابات للسفارة الجزائرية أو البعثة الديبلوماسية الجزائرية في جنيف، أم عن طريق ممثلها لدى الأمم المتحدة، ولا يتعلق الأمر بالجزائر فقط وإنما كل الدول معنية، وعليه فالإجراء عادي، إذ تناقش تقارير كل دولة في مجلس حقوق الإنسان، في شكل محاكمة بين قوسين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف خذير، المدير التنفيذي للمنظمة الحقوقية "صوت حرّ" في جنيف، عن رفع حركة "رشاد" لشكاوى، وأوضح أنه، حسب أحد أعضاء حركة "رشاد" في جنيف، المتحدث باسمها، المدعو مراد دهينة، قال إن الحركة وجهت رسالة إلى المقررين الأمميين في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، بالإضافة إلى حركة "الماك" الانفصالية، مشيراً إلى أن المقررين لا يذكرون كل المنظمات التي تسلموا منها شكاوى. وأضاف أن مجلس حقوق الإنسان الذي تم تنصيبه أخيراً في الجزائر له مسؤولية ودور كبيران عليه أن يقوم بهما على المستويين الداخلي والدولي لإعطاء نظرة على الأقل مقبولة عن الجزائر، مشيراً إلى أن مثل هذه المنظمات يمكن أن تضر كثيراً بصورة الجزائر في الخارج، في ظل استمرار عدم دعم الحكومة للمنظمات غير الحكومية التي من شأنها الدفاع عن إنجازاتها في مجال حقوق الإنسان.
ضغط ذو مصدر مُعادٍ
من جانبه، رأى أستاذ القانون عابد نعمان، أن الرسالة التي جاءت في ظل مجموعة من القوانين التي شرعت السلطة في إقرارها منذ 2020، بداية من قانون مكافحة التمييز العنصري وخطاب الكراهية، مروراً بالقانون المتعلق بالإرهاب الذي أفاض الكأس حينما تم تصنيف منظمات وجمعيات في قائمة الإرهاب، و"هذا ما يجعلنا نستقرئ أن الرسالة انحرفت عن الموضوعية تحت غطاء إلزامية تطابق التشريع العقابي مع الاتفاقيات الدولية والقانون الدولي، وهذا مؤشر لبصمة غير بريئة"، مشيراً إلى أن المادة 87 مكرر التي عرّفت العمل الإرهابي، هي التي فجرت الصراع مع التيار الأيديولوجي المتطرف باسم العرق القبائلي، ما اضطر كوادره إلى تقديم شكاوى لدى المفوضية، وقال إن المفوضية بمفهومها قزّمت العمل الإرهابي، بالتالي هي تستجيب لضغط ذي مصدر معاد لتشويه النصوص وكسر الاستراتيجية الجديدة المعتمدة في بناء حزام قانوني لتقوية الدولة الوطنية.
تصنيفات الإرهاب
وكانت الرئاسة الجزائرية قد أعلنت أن المجلس الأعلى الذي ترأس اجتماعه الرئيس عبدالمجيد تبون، قرر إدراج حركة "الماك" التي تطالب بانفصال منطقة القبائل، وحركة "رشاد" التي تُعد امتداداً لحزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ المنحلة المتورطة بالإرهاب في سنوات التسعينيات، الناشطتين في الخارج، على قائمة "المنظمات الإرهابية، والتعامل معهما بهذه الصفة".
وليست المرة الأولى التي تثار مسألة حقوق الإنسان في الجزائر، فقد دأبت منظمات دولية وأممية عدة على توجيه الانتقادات، وكانت فترة الحراك الشعبي ثرية بتدخلات هذه الهيئات، وآخرها طلب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، من السلطات الجزائرية، أن توقف أعمال العنف ضد متظاهرين سلميين، وكذلك الاعتقالات التعسفية، وأعلن المتحدث باسمها، روبرت كولفيل، "أننا قلقون جداً لتدهور وضع حقوق الإنسان في الجزائر والقمع المستمر والمتزايد ضد أعضاء الحراك المؤيد للديمقراطية". وأشار إلى "تقارير ذات صدقية مفادها بأنه تمت ملاحقة 1000 شخص للمشاركة في الحراك أو لنشر رسائل تنتقد الحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي".
عدم إدراك حجم التحديات
إلى ذلك، بيّن الباحث المصري المهتم بالشؤون العربية، رئيس مركز "الجمهورية الجديدة" للدراسات السياسية والاستراتيجية، حامد فارس، أن الرسالة ليست في محلها، ولا تتماشى مع الوضع الراهن الذي تعيشه الجزائر ويهدد أمنها القومي، بخاصة أن الجزائر تبذل كل الجهود في محاربة الإرهاب دفاعاً عن شعبها والعالم في منطقة الساحل والصحراء التي أصبحت هدفاً استراتيجياً للجماعات المسلحة والعمليات الإرهابية، موضحاً أن ملاحظات المفوضية تدل إلى عدم إدراك حجم التحديات التي تهدد الدولة الجزائرية وأمنها القومي، وشدد على أن إصدار هذه القوانين والتشريعات جاء لمواجهة خطر الإرهاب بخاصة أن الجزائر دفعت ثمناً باهظاً في التسعينيات، ولا تزال الأحداث محفورة في الأذهان.