Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ذكرياتي مع ديسموند توتو... الرجل الذي كنا نطلق عليه اسم "ذي أرتش"

ساعدني توتو في الخروج من السجن وكتب رسالة لابنتي عشية زفافها ولكننا نستذكره اليوم رجلاً أسهم في استئصال التعصب في جنوب أفريقيا

"ذكرت نفسي حالاً بأنه كان رجل محبة وليس رجل منطق هادئ" (رويترز)

عانقني ديسموند توتو بشدة عندما التقينا في مطار كايب تاون أمام عدسات الكاميرات التي تصور وثائقياً خاصاً للتلفزيون وقال لي "بوسعي أن أبتسم الآن لأنني أخرجتك من السجن".

لديَّ الكثير من الأسباب التي تدفعني إلى الشعور بالامتنان للرجل الذي كنا نسميه تحبباً بـ"ذي أرتش". ولكن لعل أعظم تلك الأسباب كانت من دون شك مطالبته من خلال رسالة مهذبة وحاسمة في الوقت نفسه مسلحي حركة حماس المتشددين بإطلاق سراحي بعد 26 يوماً من الاعتقال في غزة. وتميز نص الرسالة بكلمات قوية جاء فيها "يعتبر السيد مارتن صحافياً محترفاً يتمتع بدرجة عالية من النزاهة، وأدى دوراً في غاية من الإيجابية على مدى عقود في معارضة التمييز العنصري في بلده الأم، جنوب أفريقيا، كما اعتقل في جنوب أفريقيا على يد نظام الفصل العنصري". وتابعت الرسالة "لا شك أنه كمراسل مستقل فذ، سيغطي بطبيعة الحال قصصاً لن تعجب أي نظام، ولكن هذا ما يجب علينا توقعه منه وحتى الإشادة به".

لم يكتفِ "ذي أرتش" بالسعي لتأمين حريتي وحسب، بل تابع المسألة من خلال تهديده بالمجيء شخصياً إلى غزة لتحرير الرجل الذي كنت أصور الوثائقي معه، وهو رجل إطلاق صواريخ فلسطيني تحول إلى طالب سلام خلال محاكمة كادت تسجنه لمدى الحياة. تم إطلاق سراحه في نهاية المطاف وسرعان ما قدم له توتو فرصة عمل مع مؤسسته التي تعنى بالسلام في كايب تاون وهي وظيفة حظرت عليه حكومة جنوب أفريقيا قبولها.

لست واثقاً إذا ما كانت تدخلات "ذي أرتش" هي التي أفضت بشكل مباشر إلى إطلاق سراحي أنا والرجل الفلسطيني ولكن "ذي أرتش" كان متأكداً من ذلك. وقال لي "حصل هذا الأمر، ولا بد أن الله استخدمني لإتمام خطته".

غالباً ما كانت معتقدات "ذي أرتش" الدينية أوسع وأشمل من معظم رجال الدين التابعين للكنيسة الأنغليكانية. كما أنه ألف كتاباً بعنوان "الله ليس مسيحياً" God is Not a Christian. كان فعلاً رجل إيمان ومستعداً للمجازفة بسلامته الشخصية صوناً لرؤيته للعدالة البشرية. ففي إحدى المناسبات، وعلى الرغم من وجود عصابة غوغائية، همَّ توتو لإنقاذ رجل كان على وشك أن يحرق حياً بإضرام النار في عجلة وضعت في عنقه للظن أنه جاسوس لصالح نظام الفصل العنصري. سحبه توتو بعيداً وأزال العجلة عن عنقه ثم وضعه في سيارته قبل أن يقلع مبتعداً لبلوغ بر الأمان.

أصبحت ابنتي وحفيدة توتو صديقتين مقربتين منذ الطفولة عندما انتقلنا زوجتي وأنا إلى سويتو، أنا كمراسل وزوجتي كمعلمة خلال حقبة الفصل العنصري. وفي عام 2014، أي بعد ما يقارب الثلاثة عقود، دعت ابنتي لورا "ذي أرتش" وزوجته لحضور زفافها. لم يتمكنا من الحضور ولكن المفاجأة أن توتو كتب رسالة رائعة لابنتي وخطيبها مقدماً لهما نصيحة حكيمة عن كيفية التأسيس لزواج يدوم طويلاً. وتضمنت هذه النصيحة أهمية قول شكراً ولطفاً. وكتب في نص الرسالة "نحن كناية عن مخلوقات ضعيفة بحاجة إلى تشجيع". كما نصحهما أن يتعلما "هذه العبارة الصعبة للغاية: أنا آسف، سامحني". وختم قائلاً "ليحميكما الرب الآن ودائماً. أرتش".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أعجبت بتوتو منذ أحلك أيام عصر الفصل العنصري، عندما أيقن الكاهن المشاغب حصوله على حماية رجال الدين التابعين لكنيسته من الاعتقال، فكان الصوت المدافع عن حقوق الغالبية المظلومة والمضطهدة. وفي عام 1990، كان توتو الشخص الوحيد من ذوي البشرة السوداء الذي يعيش في منطقة راقية مخصصة للبيض، على الرغم من الفصل السكني، إذ لم تمنع الحكومة أول رئيس أساقفة أسود من العيش في المطرانية المعترف بها رسمياً.

في اليوم الذي تلا إطلاق سراح نيلسون مانديلا، دعاني ذي أرتش للانضمام إلى مجموعة صغيرة من المراسلين. وكان توتو يقوم بإعداد الحديقة الخلفية لاستضافة لقاء مانديلا الأول مع الصحافة منذ ثلاثة عقود. وقال لي بعد ذلك "سأنسحب من الحياة السياسية. بوسع مانديلا القيام بذلك".

ومع ذلك، عندما تولى مانديلا بعد أربع سنوات حكومة ديمقراطية غير عنصرية، لم ينتهِ دور "ذي أرتش " السياسي. وسرعان ما أثار الفساد حنق توتو فأطلق توبيخه البارع واللاذع لحكومة مانديلا "لأنها أوقفت قطار المرق لفترة كافية فقط لركوبه".

وفي المقابل، حاول نظام جنوب أفريقيا الذي يرأسه جايكوب زوما حالياً منعه من إلقاء خطاب في التكريم الذي نظمته الدولة لرفيق سلاحه نيلسون مانديلا في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2013 في ملعب كرة القدم الضخم في سويتو. وفي النهاية، تمكن "ذي أرتش" من إلقاء خطابه ولكنه حظي بدور ثانوي. وتزايد حنقه وثورته على قيادة البلاد حتى إنه شارك في احتجاج في الشارع اعتراضاً على خداع الرئيس جايكوب زوما.

كان "ذي أرتش" يستهل أي لقاء بيننا من خلال الإمساك بيدي وتمتمة صلاة هادئة منفتحة. وغالباً ما كان يستذكر ولعه وحبه بالتأمل البسيط وبساطة العيش التي كان يستمتع بها عندما كان كاهناً أنغليكانياً متدرباً في غولدرز غرين في لندن.

ولكن أولاده سلكوا اتجاهات مختلفة، إذ اتبعت إحدى بناته خطواته لتكون كاهنة (قسيسة)، فيما كان صديقي تريفور محباً للحياة والمتعة وكان يلعب في مناسبات عديدة جولات من الغولف قبل أن نحتسي معاً بعض الشراب.

خلال أواخر عصر الفصل العنصري، كنا نلعب الغولف عادة على ملعب خالٍ من العشب في سويتو، ولكننا أيضاً تمكنا من التحايل لدخول نادٍ فخم للغولف مخصص للأشخاص من ذوي البشرة البيضاء حصراً. فقد تلقيت دعوة للعب في نادي "رويال جوهانسبورغ" لأنني كنت أغطي فعاليات دورة جنوب أفريقيا المفتوحة South African Open لصالح صحيفة إنجليزية. وسألتهم بطريقة ماكرة إن كان بوسعي "إحضار صديق برفقتي". وتسللنا تريفور وأنا إلى الملعب بشكل خفي وجمعنا أمتعتنا عند الانتهاء ضاحكين وساخرين. رقصنا ولوحنا بمضارب الغولف على الممر الثاني (الذي كانت تفصله الأشجار عن النادي) وتفاخرنا بانتهاكنا نظام الفصل العنصري وبدأنا نغني "رجل أسود على ملعب البيض؟ ما هي الخطوة التالية؟"

لم نكن ندرك أبداً بأن نظام الفصل العنصري هذا بدأ يلفظ آخر أنفاسه وبأن والد تريفور شكل أحد المهندسين الرئيسيين لانهياره غير المأسوف عليه.

في أواخر سنواته، استمتع "ذي أرتش" بدوره كعضو في جمعية "إلديرز" Elders وهي مجموعة من رجالات الدولة السابقين الذين حاولوا التدخل في الأزمات بفضل سلطتهم المعنوية المشتركة. ولكنه اتسم أيضاً بنقاط ضعف. ومن أحد أكثر هذه النقاط وضوحاً كان الاعتقاد بأن نموذج جنوب أفريقيا قابل للتطبيق في كل مكان. وكان يستنكر أفعال إسرائيل ضد الفلسطينيين، بيد أنه في الوقت نفسه أصبحت هذه الانتقادات لاذعة بشكل غير مبرر، وهو أمر لم يكن قادراً على رؤيته أو لم يود ذلك أصلاً.

وبدا أن عينيه أعميتا عن رؤية القمع الساحق لحقوق الإنسان ومئات آلاف الأرواح التي أزهقت جراء الصراعات في الشرق الأوسط خصوصاً في سوريا. وعندما حثثته في لقائنا في مكتبه الواقع قبالة مرفأ كايب تاون في عام 2016 على التنديد أيضاً بأنظمة الفصل والعنصرية والقتل التي تمارسها الدول العربية، تحول فجأة إلى إنسان غاضب ورافقني فوراً إلى الباب بصمت. فذكرت نفسي حالاً بأنه كان رجل محبة وليس رجل منطق هادئ. ولم نتطرق إلى هذا الموضوع أبداً من جديد.

كان يحق لـ"ذي أرتش" إطلاق الأحكام المسبقة الخاصة به. ففي النهاية، قام هذا الكاهن الفذ والمحب بما يكفي لاستئصال الأحكام المسبقة والتزمت من نفوس الأشخاص الذين أحبهم فعلاً ولجنوب أفريقيا التي ابتكر لها لقب "بلد قوس قزح"، سيبقى نوره ساطعاً أبداً.

بول مارتن هو رئيس تحرير موقعي ميديا زونز MediaZones.net وكوريسبوندنت وورلد Correspondent.World

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء