Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"رباعية" أنطونيوني السينمائية تغوص في استلاب الإنسان المعاصر

من "المغامرة" إلى "الصحراء الحمراء" نساء ورجال في متاهات زمن اللاقرار

مونيكا فيتي في مشهد من "الصحراء الحمراء" (الفيلم)

بات من البديهي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان أن يبدأ كل حديث عن المخرج السينمائي الإيطالي ميكائيل أنجلو أنطونيوني بتلك الحكاية المحزنة البائسة التي شهدت دورة عام 1960 لمهرجان "كان" السينمائي فصولها ولا تزال تتسم بالغرابة حتى اليوم. فخلال تلك الدورة وإذ عرض فيلم "المغامرة" من إخراج أنطونيوني ضمن إطار المسابقة الرسمية، حدث ذات لحظة في الصالة ما لم يكن أحد يتوقعه، بل ما لم يكن ثمة في ما يظهر على الشاشة أي مبرر له. كل ما في الأمر أنه في وسط لقطة طويلة ظهرت على الشاشة ضمن إطار الفيلم وتصور امرأة تركض في ممر طويل لفندق باروكي عريق، حلاً لأحد المشاهدين في الصالة أن يمزح وقد شعر بالملل لطول الفيلم وعدم فهمه للقطة فصرخ زاعقاً" "اقطعوا... اقطعوا!" ليتبع ذلك زعيق وحشي مشابه من عدد من متفرجين آخرين امتزج بالشتائم وعلامات الضيق... فساد هرج ومرج اضطرت معه الإدارة إلى وقف العرض فيما كان مخرج الفيلم أنطونيوني وبطلته مونيكا فيتي، إحدى كبريات نجوم السينما الإيطالية حينها إلى الهرب من باب جانبي وقد عم الغضب معظم الحاضرين بعضهم إزاء الفيلم والبعض الآخر وهو قلة، إزاء مثيري الشغب.

عريضة غاضبة من الكبار

ولقد كان من بين تلك القلة الغاضبة على الغاضبين عدد من مبدعين ونقاد سينمائيين تداعوا في اليوم التالي ليحتجوا على ما حدث عبر توقيع 37 من كبارهم بياناً يدافع عن الفيلم وصانعيه ويطالب بإعادة عرضه وحفظ أمن الصالة وهدوئها؛ مؤكدين أن مثل هذه السينما التجريبية قد تكون نخبوية لكنها لا يجب أن تعامل وحتى تشاهد من قبل الرعاع. وطبعاً كان لهم ما أرادوا بل إن إدارة المهرجان، وعلى سبيل التعويض بالأحرى، ابتكرت من أجل الفيلم شهادة خاصة منحت له في حفل الختام وسط تصفيق وإكبار لم يخفيا بعض الضيق. ومع ذلك ظل الإحباط ملازماً أنطونيوني إزاء ذلك المصير لفيلم كان يعول عليه كثيراً. والحال أن أنطونيوني لم يكن جديداً على عالم السينما حينها ولم يكن تجريبياً إلى ذلك الحد. كان طليعياً بالتأكيد وكان قد حقق قبل "المغامرة" عدة أفلام نالت تقديراً لا بأس به، غير أنه لم يكن قد أضحى عالمياً بعد. فعالميته كانت تنتظر على أي حال خروج مواضيعه السينمائية إلى العالم وتحقيقه أفلاماً خرج بها عن عالمه الإيطالي، مثل "بلو – أب" الذي حققه في لندن عام 1966 عن قصة للأرجنتيني خوليو كورتازار، أو "زابريسكي بوينت" الذي حققه في الولايات المتحدة عام 1970 وغيرها من شرائط وفرت له مكانة في القمة بين كبار سينمائيي العالم.

قفزة مذهلة إلى المقدمة

بيد أن هذا كله كان لا يزال بعيداً يوم "حادثة كان" ولكن بصورة نسبية هذه المرة، ذلك الاستفتاء الذي ستجريه بعد عامين، مجلة "سايت أند صاوند" السينمائية المرجعية التي يصدرها معهد الفيلم البريطاني حول اختيارات السينمائيين والنقاد ونخبة من قرائها لما يعتبرونه أفضل الأفلام في تاريخ السينما حتى ذلك الحين، فإذا بـ"المغامرة" بالذات يحل في المركز الثاني تالياً للفيلم– الأيقونة في ذلك التاريخ، "المواطن كين". ونعرف أن فيلم أنطونيوني المغضوب عليه ذات ليلة لم يتوقف منذ ذلك الحين عن احتلال مكانه في مقدمة أعظم الأفلام في تاريخ السينما. وبالتالي وجد أنطونيوني في هذا التكريم المتواصل اللاحق خير تعويض له على تصرف جمهور عام 1960 الأحمق. ومع ذلك فإن هذا المبدع الذي سيعيش ويعمل ويحلق باسمه وفنه طوال ما يقرب من 47 عاماً بعد ذلك، لم يتوقف عن متابعة مسيرته قبل العالمية وقبل الاستفتاءات، وعلى الطريق نفسها التي صاغ بها "المغامرة" وبنفس الأفكار ودائماً مع نجوم كبار لم يتوانوا عن العمل معه مغامرين أحياناً بخسارة قطاعات من جمهور عريض بقي على أي حال معادياً لسينماه التي كان يعتبرها مثقفة أكثر مما ينبغي وفلسفية كما لا ينبغي للسينما أن تكون. خصوصا وأنها محبطة بتصويرها تأزم عيش الإنسان المعاصر، لا سيما أزمة حياة "الثنائي" كرجل وامرأة في عالم حديث يحول تلك الحياة إلى هبوط متواصل إلى الجحيم لكل من الرجل والمرأة أو للاثنين معاً. هبوط تضيع فيه الأحلام وتنهار القيم وتختفي إمكانية التواصل وسط غياب تام للحب والرومانطيقية.

الأفلام عديدة والأسئلة نفسها

منذ "المغامرة" عام 1960 إذاً وعلى الأقل حتى "الصحراء الحمراء" في عام 1964، مروراً بـ"الليل" (1962) و"الكسوف" (1963) أي خلال خمسة أعوام متتالية، ومباشرة قبل الانصراف إلى أفلام أقل تقشفاً وأكثر "وضوحاً" من تلك الأربعة السابقة، من حيث مواضيعها وتبسيطية أسلوبه في مرحلته التالية التي انطلقت مع "بلو – أب" المعتبر أكثر أفلامه شعبية، حقق أنطونيوني رباعية وودع خلالها علاقته المباشرة بالسينما الإيطالية ولو إلى حين إذ إنه سيعود إليها في عملين أو ثلاثة عند نهاية مسيرته لكن هذه حكاية أخرى. فالمهم بالنسبة إلينا هنا هي تلك الأفلام الأربعة التي تكاد تعبر عن نوع من فكر وجودي ينهل من نظريات فلسفية تتساءل عما إذا كان لا يزال ثمة مكان للإنسان وتفاعله الخلاق مع الحياة في مجتمع ممكنن بات يشوه كل فكر وعيش، ولكن بخاصة لدى الفئات المتوسطة والمثقفة من الشرائح العليا لبورجوازية إيطالية كانت قد انبهرت بأحلام ووعود رخاء مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية رغم أن بلدها الإيطالي خرج منها مهزوماً. من ساندرو مهندس فيلم "المغامرة" الذي لايني يشعر بالفشل والإحباط وهو يبحث مع صديقة مشتركة عن امرأته وقد اختفت خلال نزهة بحرية قرب شواطئ سردينيا، إلى أن يرتبط بالصديقة وقد اكتشف أنه رغم نجاحه المهني قد فشل في حياته ودمر أحلامه؛ إلى جوفاني وليديا في "الليل" وقد اكتشفا خلال زيارة مواساة يقومان بها إلى صديق لهما يعاني المرض ويوشك على الاحتضار كم أن حياتهما المشتركة تبدو الآن خاوية لا معنى لها بعد ارتباط دام حتى الآن نحو عشر سنوات ليتساءلا الآن كيف دام ولماذا طارحين سؤال المصير: وماذا بعد؟ مروراً بالثنائي الآخر المؤلف في "الكسوف"، من بيارو ولكن خصوصاً من فيتوريا إلى جانبه والتي تشعر ذات لحظة بأنها سئمت تلك الحياة التي تعيشها مع صاحبها ريكاردو الملحق في إحدى السفارات، وقد باتت حياة لا مكان فيها للحب أو للشغف تمر بها الأيام فارغة روتينية فتطرح على نفسها أسئلة تصل بها إلى التخلي عن صاحبها هذا وتعيش فراغاً لا ينقذها منه سوى التقائها يوماً بأمها اللعوب وفي رفقتها عميل في البورصة يفتنها ولكن... حتى إشعار آخر. ووصولاً أخيراً إلى خاتمة الرباعية، وأقوى أفلامها على أي حال: "الصحراء الحمراء" الذي كان أول فيلم يستخدم فيه أنطونيوني الألوان ولكن أي ألوان!!!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسئلة امرأة العصر

ففي "الصحراء الحمراء" وحتى إذ يواصل المخرج هنا تساؤلاته حول ما الذي يبقى من الأحلام القديمة ولماذا توقفت ضروب التواصل بين البشر ثم دائماً وأبداً سؤال المصير الفتاك: ماذا بعد؟ ها هو أنطونيوني يتخلى عن تقشفه ولو جزئياً على درب تخليه عنه نهائياً في ما سوف يحقق بعده من أفلام، من دون أن يتخلى عن تصوير إحباط الزمن المعاصر وقد تحول فيه كل إنسان إلى جزيرة تعيش وحدتها. وهذه الحال في "الصحراء الحمراء" هي حال جوليانا الزوجة في عائلة ناجحة مهنياً ترتفع اجتماعياً في عالم الصناعة حيث يدير زوجها دييغو مصنعاً حديثاً ذا هندسة مبهرة. غير أن جوليانا، وبعد إبلالها من حادث سير خطير، تجد ذاتها أمام نفس الأسئلة التي كان طرحها "أبطال" الأفلام الأربعة السابقة على أنفسهم، وكان من الواضح أنها في الحقيقة أسئلة أنطونيوني بدوره في تأزمه الخاص هو الذي كان يردد دائماً أنه وإن حمل أسئلته إلى "أبطال" أفلامه، فهؤلاء إنما هم في الحقيقة مرآة لذاته حتى ولو اتخذوا سمات مارتشيلو ماستروياني أو آلان ديلون أو حتى جان مورو أو خاصة مونيكا فيتي التي كانت ملهمته الأساسية في حياته وفنه... والبطلة المفضلة في معظم أفلامه الأساسية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة