Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أنطونيوني يطل على أميركا في  فيلمه "زابريسكي بوينت"

ثورة الهبيين بين صراع الأجيال وتدمير مجتمع الاستهلاك

مشهد من فيلم "زابريسكي بوينت" (موقع الفيلم)

من بين عشرات وربما مئات المخرجين السينمائيين العالميين الذي حلموا ولو مرة في سياق عملهم أن يقدموا صورة ما عما يتصورونه أميركا وعالمها "الغامض"، هناك على الأقل ثلاثة من السينمائيين الأوروبيين - من غير الذين هاجروا في نهاية الأمر إلى أميركا واندمجوا في عوالمها -، تمكنوا من تحقيق ذلك الحلم الإبداعي من دون أن ينتهي بهم الأمر إلى سكنى العالم الجديد إذ بقوا أوروبيين بشكل أو بآخر. وهؤلاء الثلاثة هم الألماني فيم فندرز، و"اليوغوسلافي" أمير كوستوريتسا، والإيطالي ميكائيل أنجلو أنطونيوني. فكل واحد من هؤلاء وفي فيلم كبير له تمكن ذات مرة من أن ينقل "تصوّره" لأميركا إلى الشاشة مع تفاوت في ما بينهم إنما في تميّز لافت عن مجمل الذين أتيح لهم بدورهم تحقيق ذلك الحلم الإبداعي.

دور الخراب في العمار

ولئن كانت الحيرة تستبد عادة بمتابعي هذا الشأن في لعبة المفاضلة بين الأفلام "الأميركية" لهؤلاء السينمائيين الكبار، لا شك أن الصور الثلاث التي يقدمونها في أفلامهم، وهي تباعاً "لا تأت قارعاً بابي" لفندرز، و"حلم آريزونا" لكوستوريتسا، و"زابريسكي بوينت" لأنطونيوني، ستبدو في نهاية المطاف متكاملة حيث أن فندرز صور أميركا وشيخوختها، من منظور الثقافة المضادة ونقده للرأسمالية على الطريقة الأميركية، فيما صور كوستوريتسا الحلم الأميركي في أوضح تجلياته، بينما صور أنطونيوني تلك الثقافة المضادة الأميركية التي سادت القارة الجديدة والعالم عند نهائيات ثورات الشبيبة لتسفر عن نفسها ثقافة تخريبية من منطلق الفكرة التي تقول إن ما من بناء تغييري يمكن أن ينجز من دون خراب يطاول ما سبقه. وطبعاً نعرف أن هذه الفكرة شغلت كثراً من السينمائيين الأميركيين بين سنوات الستين والثمانين من القرن العشرين، لكنها في التكامل الذي يمكن ترصده بين أفلام هؤلاء الأوروبيين الثلاثة الكبار، أتت من الخارج أكثر صدقاً وشمولية في تعبيرها عما كان يعتمل في أذهان شبيبة ومثقفين كانوا يتناغمون مع تلك الروح الثورية التي وصلت أميركا آتية من خارجها في ذلك الحين.

كل "التيمات" له

والحقيقة أن النقاد ومؤرخي السينما واشتغالها على الذهنيات، فضلوا دائماً فيلم أنطونيوني وهو الأقدم بين الأفلام الثلاثة التي نشير إليه، على اعتبار أن "زابريسكي بوينت" أتى شاملاً في ثنايه العناصر الثلاثة المكونة لتلك النظرة الجديدة تُلقى على أميركا: الحلم الأميركي، الثقافة المضادة وبالتالي، لعبة التدمير التي تكاد تكون هيبية الجذور... ولعل كوستوريتسا وفندرز كان في إمكانهما أن يقولا في هذا الصدد أن مشكلتهما كمنت في أن سلفهما الإيطالي الكبير، استحوذ لنفسه قبلهما على تلك "التيمات" الأساسية معاً ليكوّن واحداً من تلك الأفلام التي تسم مرحلة بعينها مطلقة مرحلة جديدة باحثة عن ذهنيات جديدة وأفكار تتقاطع مع ثورات "صراع الأجيال" التي بدت في ذلك الحين مغلفة للقضية بأسرها.

أميركا العميقة

وذلكم هو في الحقيقة، جوهر ذلك الفيلم المدهش الذي حققه أنطونيوني في عام 1970 وكان قد بلغ حينها الثامنة والخمسين من عمره وباتت سينماه تمعن في إنتاج أفلام خارج بلده إيطاليا ولا تمت بصلة إلى جذوره أو مواضيعه الإيطالية كما سنرى بعد سطور. فـ"زابريسكي بوينت" هو بعد كل شيء أكثر الأفلام أميركية بين الأفلام التي صورها غير أميركيين عن أميركا. ولعل الدلالة الأعمق على هذا هو تصوير أنطونيوني فيلمه في أميركا العميقة متأرجحاً بين الواقع المفرط الذي يكاد ينتمي إلى لوحات إدوارد هوبر، وإلى الأحلام الميتافيزيقية التي كانت تعبق بها حياة الهبيين على خطى أشعار جيل البيتنكس، والاستعراضات الراقصة المسرحية في برودواي وخارجها. وإذا قلنا هبيين هنا فإننا نعني شريحة عريضة من الشبيبة المنتمية إلى البورجوازية المتوسطة والصغرى، بل الكبرى كذلك بالنسبة إلى الفتاة بطلة "زابريسكي بوينت" التي في ثورتها على عائلتها وانخراطها في الممنوعات والموسيقى والغناء الناقم على مجتمع الآباء وعلى الضد من حرب فيتنام التي كانت قد وصلت ذروتها في ذلك الحين، راحت تحقق ثورتها ولكن، كما يفيدنا الفيلم في مشهد أخير فيه لم يسبق لأي فيلم آخر أن صور الخراب المنشود بمثل ما صوره، في لغة "بسيكيديلية" مذهلة... لكنها تبقى لغة حلم، بالنسبة إلى البعض، ولغة كابوس بالنسبة إلى البعض الآخر، حتى ولو نقلت لنا الكاميرا صورة انفجارات تطاول ألوف البضائع والمواد التي يمكن اعتبارها رموزاً حقيقية لمجتمع الاستهلاك الذي كان الهبيون قد بدأوا ثورتهم ضده.

بين المجتمع وحكايات الحب

مهما يكن من أمر، إذا نحينا واحداً من أول أفلام أنطونيوني، وهو "مدونات حب" (1950)، الذي يحمل حتى هو، تناقضاته بين تصوير المناخ الاجتماعي، وبين الحبكة "الغرامية" التي يدور من حولها، سنجد كل سينما أنطونيوني، من "المهزومين" (1952) إلى "ما وراء الغيوم" (1995)، ومن "سيدة دون كاميليا" (1953) إلى "زابرسكي بوينت" و"المهنة مخبر" و"تعريف امرأة" (1982)، أفلاماً شديدة الخصوصية، حتى من الناحية الاجتماعية. بل أن ثمة في سينما أنطونيوني (راجع مثلاً "المغامرة" و "الصرخة" و "الصحراء الحمراء" - وكلها حققت بين 1957 و1964، في أوج توجه فن السينما يساراً، في أنحاء عدة من العالم) ما ينسب هذه السينما إلى نوع خاص من الرواية الوجودية، حتى وإن كانت الأولى بين هذه الأفلام تنتمي إلى المجتمع الإيطالي، الذي كان مثقفوه الأكثر راديكالية، على تناقض تام مع أية نزعة وجودية. الحب، الملل، الموت، العائلة، فقدان التواصل، الآفاق المسدودة... ولكن خصوصاً لدى الأفراد، وفي شكل أكثر وأكثر خصوصية لدى البورجوازية الصغيرة والمتوسطة كما لدى شرائح من الأنتلجنسيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل الخروج إلى العالم

تلكم هي المواضيع الأساسية التي دارت من حولها كل الأفلام الروائية الطويلة التي حققها أنطونيوني في إيطاليا، قبل أن يخرج من ثوبه الإيطالي هذا، بدءاً من أواسط ستينيات القرن العشرين. وبالتحديد منذ حقق "بلو آب" عام 1966، في لندن، انطلاقاً من قصة قصيرة لخوليو كورتاثار. والمدهش أن أنطونيوني الذي كان عام 1964 قد حقق "الصحراء الحمراء" (أول أفلامه الملونة)، فيلماً إيطالياً خالصاً، عرف كيف يحمل نفس مواضيع هذا الفيلم، ليحط بها في لندن الستينيات، أي لندن "بلو آب". ولسوف يكون ذلك بداية تجوال سينمائي حقيقي لديه، حتى وإن كان عدد الأفلام المحققة خلال آخر ثلث قرن من حياته، أي منذ "بلو آب"، حتى "ما وراء الغيوم" (1995)، قليلاً جداً لا يتجاوز الستة أفلام روائية، كان يقطعها بين الحين والآخر بأعمال وثائقية لعل أروعها "تشونغ كيو" الذي جال فيه، مع كاميرا ذكية وحادة، أرجاء عدة من الصين. أما الأفلام الروائية الأخيرة، فكانت تباعاً، بعد "بلو آب"، "زابرسكي بوينت" (في الولايات المتحدة  (1970، "المهنة مخبر" (بين أفريقيا وإسبانيا عام 1974)، "سر أوبروالد" -الذي عاد فيه عام 1980، ليصور في إيطاليا، ومن بطولة فاتنة بعض أفلامه الأولى مونيكا فيتي-  و "التعريف بامرأة"، الذي جعل السينما موضوعاً له، قبل أن يحقق عام 1995، وهو على كرسي نقال غير قادر على الكلام أو الإصغاء، فيلمه الأخير "ما وراء الغيوم"، الذي كان في الأصل أشبه بأنطولوجيا لأفلام لم يتمكن أنطونيوني من تحقيقها طوال حياته، وموضوعها الأساس الحب... وهو كان قبل ذلك قد جمعها في كتاب.

هل كان إيطالياً؟
خلال الجزء الثاني من حياته، لم يكن أنطونيوني، إذاً، إيطالياً، بالمعنى الذي كان يمكننا أن نقول معه إن فيسكونتي وفلليني إيطاليان، أو أن إنغمار برغمان سويدي. ولعل هذا ما جعل أنطونيوني يعتبر "البدوي الأكبر" في فن السينما خلال الثلث الأخير من القرن العشرين. ومن المؤكد أن مراجعة سينما أنطونيوني، لا تضعنا فقط أمام هذه الحقيقة، بل إنها تطرح علينا سؤالاً آخر أساسياً بدوره: هل كان انطونيوني، أصلاً، إيطالياً حتى في أفلام مرحلته الأولى؟ بل لعل في إمكاننا أن نبدل هذا السؤال بسؤال آخر: ترى أفلم يكن أنطونيوني كوزموبوليتياً بالمعنى الأعمق للكلمة في معظم أفلامه/ كوزموبوليتياً توّج مساره بتلك الإطلالة الرائعة والقاسية على أميركا في "زابريسكي بوينت"؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة