Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

300 ألف عرض لـ"الأرملة الطروب" خلال حياة ملحنها

أوبريت فرانز ليهار افتتحت حضور المسرح الغنائي العالمي في القاهرة بعدما آنست ليالي فيينا

مشهد من عرض حديث لأوبريت "الأرملة الطروب" (موقع المسرحية) 

"شاهدتُ مع جمهور القاهرة أوبريت "الأرملة الطروب"، التي قدمها مسرحنا الغنائي بدار الأوبرا في أول عرض له، وإذا كنتُ قد فَسَّرْت عدم إقبال الجمهور الإقبال الكافي في العام الماضي على مُشاهدة أوبريت "يوم القيامة" لملحننا العربي زكريا أحمد، وأوبريت "الباروكة" لسيد درويش، بأنَّ جمهورنا قد تَطَوَّر ذوقه تطوراً كبيراً وأصبح عسير الذوق والإرضاء، وإذا كان لا يزال يطرب للتلحين الشرقي للأغاني، فإنه أصبح يُدْرِك أن التلحين العالمي هو الذي يصلح للموسيقى والغناء المسرحيَّيْن. إذا كنتُ قد قلتُ ذلك عن طريق الحدس؛ فقد تأكَّدَ لي صحة هذا التفسير مساء الأحد الماضي، عندما أحسسْتُ بالجمهور يستجيب استجابة عميقة لألحان الموسيقي المَجَري العالمي فرانز ليهار في أوبريت "الأرملة الطروب"، ولأصوات رتيبة الحفني وأميرة كامل ويوسف عزت في المقطوعات الغنائية التي ترجمها إلى العربية الشاعر عبد الرحمن الخميسي بأسلوب دارج بسيط، ولكنه مرهف الشاعرية. ولم تكن أوبريت "الأرملة الطروب" متعة للآذان فحسب، بل كانت متعة لكافة الحواس؛ فالإخراج والديكور والبلاتوهات الدائرة والملابس والألوان والأضواء كانت تكوِّن سيمفونية بصرية رائعة الجمال، ورقص الباليه ـ وبخاصة الرقص الثنائي ـ لم يكن يَقِلُّ في شيء عن أرقى المستويات العالمية". هذا ما كتبه الناقد المصري محمد مندور عن تلك التي كانت أول أوبريت تقدم مترجمة عن لغتها الأصلية إلى العربية في واحد من أزهى العصور الذهب التي عرفتها الحياة الفنية المصرية عند بدايات ستينيات القرن الفائت.

الجمهور كان في الانتظار

ويشارك مندور في رأيه الناقد علي الراعي الذي اعتبر في كتابه "همومي وهموم المسرح العربي" هذه الأوبريت البداية الحقيقية لتعامل الجمهور المصري بشكل إيجابي مع ذلك الفن الوافد حينها بقوة إلى بلد لم يكن محروماً على أية حال من فن كان له أقطابه ولكن ليس ما يكفي من جمهور كما يشير مندور الذي أوضح بكل صراحة أن الجمهور كان في انتظار مثل أوبريت "الأرملة الطروب" كي يستعيد علاقة قديمة وقوية بذلك الفن. ويذكر قراء المجلات الثقافية الراقية التي كانت تصدر في القاهرة في ذلك الحين كيف أن مجلة "المجلة" التي كانت تصدرها وزارة الثقافة ويرأس تحريرها يحيى حقي، قد احتفلت يومها احتفالاً كبيراً بعرض "الأرملة الطروب" وخصصت لها ملفاً كاملاً جعل من ملحنها فرانز ليهار في نظر القراء المصريين زعيماً من زعماء الموسيقى الكبيرة عند بدايات القرن العشرين لا تقل مكانته عن مكانة أوفنباخ إن لم يتساو في المكانة مع فاغنر وفيردي الذي كان معروفاً بقوة في مصر من خلال أوبرا "عايدة". وطبعاً يصعب وضع ليهار في تلك المكانة حتى وإن كانت الأوبريت التي عرضت له في مصر تشكل نوعاً من الريادة في ذلك المجال، وربما يمكننا إيجاد علاقة ما تربطها بواحدة من أجمل أغنيات أسمهان "ليالي الأنس في فيينا" التي لحنها فريد الأطرش ولا تزال تعتبر واحدة من أجمل الاغاني العربية.

300 ألف عرض!

ومع ذلك الحضور والنجاح العربيين لا بد من الإشارة إلى أن التقديم العربي اللافت لـ"الأرملة الطروب" لم يكن سوى قطرات في بحر الحضور الشامل لها في العالم. فهي قدمت منذ ظهورها للمرة الأولى في فيينا عام 1905 في حضور ليهار وحتى وفاة هذا الأخير عام 1948، في العالم أجمع بلغتها الأصلية أو مترجمة إلى الفرنسية وغيرها، ما لا يقل عن 300 ألف مرة. كما أنها اقتبست للسينما منذ كانت هذه صامتة حتى عام 1962 وحده نصف دزينة من المرات عدا عن عشرات المرات التي اقتبست فيها في أفلام لم تفصح عن المصدر. لنضف إلى هذا تحويلها إلى باليه مرات عديدة واقتباس الموسيقي السينمائي ديمتري تيومكين لحناً أو لحنين منها في الموسيقى التصويرية لفيلم "ظلّ شك" لألفريد هتشكوك، كما فعل أرنست لوبيتش حين استعاد ذكر الأوبريت في فيلمه "يمكن السماء أن تنتظر" وسار الموسيقي الروسي شوستاكوفيتش على خطاهما في الحركة الأولى من سيمفونيته السابعة مستعيناً، على سبيل السخرية كما سوف يقول، بلحن "أنا عائد من عند مكسيم" المعتبر من أشهر أجواء الأوبريت. من دون أن ننسى هنا استعانة كاتب مسرح اللامعقول صمويل بيكيت بموسقى أغنية "ساعة مميزة" الثنائية في التصوير الموسيقي لمسرحيته "يا للأيام السعيدة"... وطبعاً يمكن لهذه اللائحة أن تطول لتؤكد مكانة وفرتها هذه الأوبريت لمبدعها تبدو فائضة كثيراً عن مكانته في الحياة الموسيقية العالمية في القرن العشرين، هو الذي تكاد تلك الحياة والسمعة التي حققها كموسيقي معاصر، تكون وقفاً على "الأرملة الطروب" من دون غيرها.

الشكوى حتى النهاية

مهما يكن، من المؤكد أن فرانز ليهار الذي كان ينبغي عليه أن يشعر بالممنونية لعمل أعطاه شهرة ونجاحاً جعلاه في مقدمة مبدعي هذا الفن، لم يكف عن الشكوى خلال السنوات الأخيرة من حياته من كون "الأرملة الطروب" غطّت على إنتاجه الذي كان كبيراً ومميزاً على الأقل في مجال الموسيقى الخفيفة، حيث كان لسان حاله يقول: لكن لي أعمالاً أخرى كثيرة. فلمَ اكتفى الناس بتبجيل هذه الأوبريت ونسيان ما عداها؟ وهو كان محقاً في طرح هذا السؤال. ففي نهاية الأمر ليس ثمة حقاً ما هو مميز، فنياً على الأقل، في مغناة مسلية خفيفة لا تبارح قصور الطبقات المخملية الكوزموبوليتية ولا مسرات الحياة التي تواكبها موسيقى تخلو من أية أبعاد درامية، تتحدث عن علاقات غرامية تدور في سفارة دولة وهمية رسمت على مثال تلك الدولة الأوروبية البلقانية الصغيرة، مونتينيغرو، التي سميت في الأصل النمساوي للأوبرا، بونتيفيدرو لتتحول في ترجمتها الفرنسية إلى مارسوفيا، ومن حول غراميات ومناورات زواج تتعلق بدانيلو، المسمى هنا على اسم عاهل مونتينيغرو الحقيقي الراحل، وتلك الأرملة الثرية الآتية من صفوف الشعب والتي تشكل مطمعاً لكثر من رجالات ذلك المجتمع الطامعين بمكانتها وثروتها وما إلى ذلك. وتتنقل الحبكة بين صالونات وحفلات ومؤامرات "تزويجية" عبر غناء بالغ الخفة والطرافة ووسط موسيقى تكاد تختصر المخزون الموسيقي المعهود في تاريخ الموسيقى في القصور النمسوية بفالساتها الرائعة التي تبدو وكأنها تستكمل جهود الموسيقيين من آل شتراوس التي واكبت العصر الذهبي في تلك المدينة الساحرة عند نهايات القرن التاسع عشر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حنين إلى أزمنة غابرة

من الواضح أن إعجاب مشاهدي الأوبريت وحماستهم لها قد انبثقا من نوع من حنين كان يسود طوال النصف الأول من القرن العشرين إلى تلك الصورة الزاهية التي رسمت للإمبراطورية النمساوية في عصر إمبراطورها فرانسوا جوزف الذي نعرف أن كل تلك الحياة الذهبية قد اندثرت برحيله حيث راحت الأمور تتبدل وصولاً إلى تلك اللحظة التي زالت فيها إمبراطورية سيطرت على أوروبا عقوداً طويلة، ليس بالسلاح بل بزمن إبداعي افتتح الحداثة الفكرية والفنية في القرن العشرين، بل افتتح كذلك ذلك التحليل النفسي الذ كان فرويد مؤسسه ومن ثم من كبار مطوريه ضمن إطار ما سمّي حينها بـ"حلقة فيينا". وفي سياقنا هنا لا بد من التأكيد على أن ليهار الذي اعتبر بشكل أو بآخر الوريث الشرعي لكل التجديدات الموسيقية التي عرفتها فيينا وعاشتها ولكن قبل أن تغرق الموسيقى نفسها في حداثة تجريبية ربما كان لها قدر كبير من الشعبية، غير أن "الجماهير العريضة" بقيت مرتبطة بالتقاليد الموسيقية الزاهية التي يبدو من الواضح أن فرانز ليهار، في "الأرملة الطروب" كما في غيرها من أعمال سارت على منوالها، عرف كيف يعصرنها بل حتى يعطيها ذلك الطابع الكوزموبوليتي الذي جعل ناقدنا العربي محمد مندور يتحدث لمناسبة تقديم الأوبريت في القاهرة، عن "أجواء شرقية" طغت على بعض اللحظات الموسيقية فيها لتبدو وكأنها "موسيقى شرقية خالصة كانت شرقيتها هذه في خلفية إعجاب الجمهور القاهري بها"!

المزيد من ثقافة