Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تحولت مدارات ليفي ستراوس الحزينة إلى عمل أوبرالي

كاترين كليمان اقترحت الفكرة الغريبة والمفكر الفرنسي نصحها بألا تفعل ثم وافق مجاملة

كلود ليفي ستراوس (أ.ف.ب)

لا نذكر تماماً من هو الموسيقي الذي قال يوماً، إن الموسيقى يمكنها أن تفعل المعجزات، مضيفاً، "هاتوا لي دليل الهاتف في مدينة أمستردام لأحوله لكم إلى عمل أوبرالي بديع"، لكننا نعرف أن عالم الإناسة الفرنسي الكبير كلود ليفي ستراوس حتى وإن كانت الموسيقى معشوقته، لم يكن من المؤمنين بإمكانية أن تفعل ذلك النوع من المعجزات. ومن هنا كانت دهشته كبيرة بل وصلت إلى حد النفور المهذب حين جاءته الباحثة الصديقة كاترين كليمان وفي جعبتها فكرة مشروع تريده أولاً أن يوافق عليه، وثانياً أن يساعدها في تحقيقه. لم تكن كاترين موسيقية ولا من أهل المسرح، بل كانت باحثة وأديبة ومحاورة مميزة لكبار المفكرين ومؤرخة للحياة السيكولوجية، وكانت فوق هذا كله صديقة مقربة من ليفي ستراوس وتعتبر نفسها من تلاميذه. لكنها حين قابلته يومها كانت تحمل مشروعاً تصورت أنه سيعنيه كثيراً بصورة شخصية. لماذا؟ ببساطة لأنه يتعلق باقتباس موسيقي لواحد من أشهر كتبه، "مدارات حزينة".

لم تكن تمزح!

المدهش في الأمر أن الاقتباس الذي راحت كاترين تتحدث عنه مع المعلم يومها بقدر هائل من الحماس، لم يكن أقل من اقتباس ذلك الكتاب العلمي الأنثروبولوجي الغارق في أدب الرحلات، إلى عمل أوبرالي. للوهلة الأولى خيّل لليفي ستراوس أن محدثته تمزح. فأي مجنون هذا الذي يمكنه أن يفكر بهكذا مشروع مماثل للفكرة المبالغة التي تحدثت يوماً عن تحويل دليل هاتف إلى أوبرا؟ لكن كاترين أكدت لأستاذها المذهول أنها جادة كل الجدية وأنها تشتغل على المشروع منذ سنوات. وهو بتهذيبه الأسطوري على الرغم من دهشته، بل حتى على الرغم من نفوره، أنصت إليها حتى النهاية، وانتهى به الأمر إلى الموافقة كرمى لها، وليس عن اقتناع بصواب ما تقول. وكان ذلك في عام 1986. ثم بعد ذلك بعشر سنين تمكنت كاترين بدأبها الشديد وقدرتها على الإقناع وصلابة عزيمتها من أن تحقق المشروع أخيراً لتقدم الأوبرا على خشبة في مدينة ستراسبورغ مدينة ليفي ستراوس نفسها. طبعاً لا حاجة بنا هنا إلى القول إن المشروع لم يكن على النجاح الذي كانت صاحبته قد تصورته. وإن كلود ليفي ستراوس لم يكن راضياً في نهاية الأمر عن النتيجة. لكن هذا أمر آخر تماماً. فالمهم هنا أن "مدارات حزينة" الكتاب العلمي الذي أسس شهرة الباحث الأنثروبولوجي الصموت عادة، صار عملاً أوبرالياً يحتسب في الريبرتوار الفرنسي والعالمي، وإن كان لا يجد فرقاً كثيرة ترغب في تقديمه. ويقيناً أنه لو نال رضى ليفي ستراوس لكان مصيره أفضل.

كلاسيكي بكل صراحة

لكن ليفي ستراوس لم يكن من أنصار هذا النوع من الأوبرا ذات الموسيقى المعاصرة، حتى وإن كان يحرص في كتبه والحوارات التي كانت تُجرى معه لا سيما كتاب الحوار الطويل الذي أجراه معه ديدييه إيربورن آخر سنوات حياته على الدنو من الموسيقى، وبالتحديد من فن الأوبرا معلناً على رؤوس الأشهاد أن هذا الفن قد انتهى وانتهت أزمنته مع آخر الأعمال التي وقعها فاغنر وفيردي. بل إن الموسيقى نفسها قد انتهت مع شوينبرغ، وربما أيضاً مع "أعراس" سترافنسكي. بالنسبة إلى ليفي ستراوس، كل ما أتى بعد ذلك قد يكون بديعاً وابن زمنه، لكنه كان في حقيقته تكراراً لمبتكرات أولئك الكبار وتنويعاً على نتاجاتهم العبقرية. وهو لم يخف هذه الآراء بالطبع عن كاترين منذ اليوم الأول الذي أتته فيه حاملة مشروعها المبتكر. كما أنه لم يخفه عن الموسيقي جورج آبرغيس حين اصطحبته إليه كاترين بعد ذلك بسنوات، ليحدثه عن برنامجه الموسيقي المتعلق بموسقة الكتاب. وها هو هذا الموسيقي يروي بنفسه تفاصيل ذلك اللقاء الذي جمعه للمرة الأولى بالعالم الكبير، "كنت شديد التأثر لأني سوف أجتمع بكلود ليفي ستراوس في بيته بفضل كاترين كليمان. لقد ذهبنا إليه يومها كي نتناقش معه في تفاصيل مشروعنا لتحويل "مدارات حزينة" إلى أوبرا. ومن فوري لم أر أمامي فقط عالم الإناسة الكبير ولا رائد البنيوية الأكبر، بل الشخصية الأساسية في أوبراتي المقبلة، وهو أمر نادر الحدوث بالتأكيد. حينها لم يخف عني، كما كان قد فعل مع كاترين دهشته الكبيرة إزاء هذا المشروع، كما لم يسه عن باله أن يذكرنا بالمسافات الشاسعة التي تفصله عما يتعلق بموسيقى هذه الأيام. لكنه مع ذلك قال لنا إنه سيتركنا نتصرف بحرية. وهو إذ أعلن ذلك بأريحية انتقل ليحدثنا عن الموسيقى معبراً عن نفوره من كل الموسيقى الحديثة هو الذي ذكرت كاترين، أنه كان في محادثة سابقة بينهما قد قال لها جازماً، إنه منقطع عن الموسيقى منذ شوينبرغ. مضيفاً الآن أنه بعد أن شهد العرض الأول لـ"أعراس" سترافنسكي ليس في وسعه أن يتحمل اليوم أية موسيقى جديدة أتت من بعدها..."

موسيقى الهنود الحمر

ويتابع آبرغيس حكاية ذلك اللقاء قائلاً، "إذ قال المعلم ذلك راح يدندن أمامنا مقتطفات ومقاطع وأنغام من هدهدات أخبرنا أنها جزء من الحياة اليومية لشعوب النامبيكوارا الهندية الحمراء، بيد أنه نبهنا إلى أن ما يدندن به ليس موسيقى بالمعنى الحرفي للكلمة، بل نوع من مقاطع يدندنها هؤلاء الناس دون أن تكون لها بنى موسيقية  منتظمة. "هي مجرد ظواهر صوتية عفوية" قال مبتسماً وهو ينصحني وقد رآني أدون بعض الملاحظات بألا أحاول أن أجمعها في بنية محددة. فقلت له إنني لا أنوي أن أفعل... كل ما في الأمر أنني، كما أضفت، أشتغل على شيء آخر تماماً. والحقيقة أنني كنت في تلك اللحظات بالذات، ودون أن يتنبه مضيفنا الكبير ولا حتى كاترين لما أفعل، كنت أدون جملة أسطر وملاحظات سأشتغل عليها لاحقاً، لأرسم نوعا من "بورتريه موسيقية" لليفي ستراوس، هي بالطبع البورتريه التي سأستخدمها في تحديد ملامح "عالم الإناسة" الذي سيكون الشخصية المحورية في الأوبرا، إنما دون أن أطلق عليه اسماً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفشل في الانتظار

مهما يكن ستحمل الأوبرا نفسها عنوان الكتاب وتستوحي عديداً من المشاهد والمشاعر المقتبسة منه مباشرة، وجميعها تتحلق من حول رؤى وتنقلات وأفكار وحتى ضروب غضب كلود ليفي ستراوس التي يعبر عنها في الكتاب فصلاً بعد فصل. صحيح أن ليفي ستراوس آثر خلال تلك الجلسة أن يختصر إلى الحدود الدنيا أية أفكار تثار معه حول الطريقة التي ستشتغل بها الأوبرا، وبخاصة أنه ظل يعلن عن استحالة الأمر موضحاً وإن بشكل موارب، أن النتيجة لن تكون مرضية، غير أن ذلك لم يمنعه من إبداء بعض الملاحظات التي لم تكن تتعلق بالجانب الفني بل بالجانب الفكري للعمل. وهي ملاحظات لا بد من القول أن مؤلفيْ الأوبرا قد أخذا بها بطبيعة الحال. بيد أن ذلك لم ينقذ مجمل العمل الذي لم يجد كثراً للدفاع عنه، حين قدم في عرضه الأول في ستراسبورغ. والطريف أن النقد الأكثر قسوة للأوبرا أتى من جانب صحيفة "الأومانيتيه" الناطقة باسم من تبقى من الحزب الشيوعي الفرنسي  التي كان من المتوقع أن تقف إلى جانب ذلك التحويل الأوبرالي لكتاب يلتقي مع بعض فكرها. لكنها لم تفعل بل أعلنت أن العمل جاء "سطحياً وفاشلاً" إلى جانب أنه "يتناقض مع كل ما هو معروف عن كلود ليفي ستراوس من ولع بالموسيقى الحقيقية والأوبرا الحقيقية". فهنا، وبحسب ناقد الصحيفة "لم نر أثراً للحس الموسيقي الذي كثيراً ما تلمسناه في ثنايا كتابات هذا المؤلف، لا  سيما بنية كتابته التي يجب ألا يسهى عن بالنا أنها كانت وتبقى دائماً بنية موسيقية ذات هندسة كلاسيكية لا لبس فيها" والحقيقة أن هذا النقد "الناسف" الذي عبرت عنه الصحيفة الشيوعية يومها أتى أخف وطأة وغضباً مما كتبه نقاد آخرون... دافعوا عن مؤلف "مدارات حزينة" على الضد من موسقة عمله!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة