ملخص
"فقدان المعيل، أو توقف العمل، أو النزوح القسري، كلها عوامل تخرج الأسرة من دائرة التخطيط طويل الأمد إلى منطق اليوم بيومه. في هذا الواقع، تصبح الطفلة عبئاً اقتصادياً في نظر أسرة لا تملك القدرة على إعالتها أو حمايتها، بسبب انعدام البدائل".
لم تكن الأم السودانية نادية حسين تفكر في زواج ابنتها ذات الـ15 سنة، بخاصة حينما تتابعها وهي تطوي ثوب المدرسة وتضعه في صندوق خشبي قديم. فلم يكن قرار الزواج الذي تم أخيراً نابعاً من قناعة، ولا من رغبة في الستر، كما يقال، بل من عجز ثقيل فرضته الحرب المشتعلة في البلاد بين الجيش و"الدعم السريع" لأكثر من عامين، حين أخذت الأب وترك الأسرة بلا مُعيل، ولا خيارات واضحة للنجاة.
فمنذ مقتل زوجها في إحدى جبهات القتال، تحول البيت الصغير إلى مساحة ضيقة من القلق اليومي من ناحية إيجار متراكم، وطعام لا يكفي، ومدرسة لم تعد قادرة على استقبال ابنتها من دون مصروفات.
فالفتاة، التي كانت تحلم بأن تصبح معلمة، لم تمنح فرصة الاعتراض. ولم تفهم تماماً معنى الانتقال المفاجئ من مقاعد الدراسة إلى مسؤوليات الزواج، لكنها أدركت أن الحرب لا تقتل الرجال وحدهم، بل تجبر الأحياء على قرارات أقسى من الفقد نفسه.
فقر قسري
يرى الباحث الاقتصادي خالد محمد أن "ظاهرة زواج القاصرات في البيئات الفقيرة، لا سيما في سياق الحرب والنزاعات المسلحة، لا يمكن فهمها بمعزل عن الانهيار الشامل للمنظومة الاقتصادية والاجتماعية. فالحرب، لا تدمر مصادر الدخل فحسب، بل تعيد تشكيل أولويات الأسر قسراً، وتدفعها إلى قرارات اضطرارية تمس جوهر حياة أفرادها، وعلى رأسهم الفتيات". واستطرد، "فقدان المعيل، أو توقف العمل، أو النزوح القسري، كلها عوامل تخرج الأسرة من دائرة التخطيط طويل الأمد إلى منطق اليوم بيومه. في هذا الواقع، تصبح الطفلة عبئاً اقتصادياً في نظر أسرة لا تملك القدرة على إعالتها أو حمايتها، بسبب انعدام البدائل".
وأضاف محمد أن "الزواج المبكر يقدم في هذه الظروف بوصفه وسيلة لتخفيف العبء المالي، ونقل مسؤولية الإعالة إلى طرف آخر، حتى وإن كان الثمن هو حرمان الفتاة من طفولتها وتعليمها". وبيَّن أن "ما يميز هذا النمط من الفقر هو طابعه القسري، إذ لا يترك للأسر هامش اختيار حقيقي. فغياب شبكات الحماية الاجتماعية، وانعدام الدعم النقدي، وارتفاع كلف المعيشة، وتراجع الخدمات الأساسية، كلها عوامل تجعل القرارات الفردية انعكاساً مباشراً لفشل السياسات العامة. وبدلاً من أن تكون الدولة ضامناً للحد الأدنى من العيش الكريم، تترك الأسر لمواجهة مصيرها وحدها". وأكد أن "تطبيع زواج القاصرات في الخطاب العام باعتباره حلاً اجتماعياً يخفي جذوره الاقتصادية العميقة. فالمشكلة، في جوهرها، ليست في الثقافة وحدها، بل في اقتصاد منهار يجبر الفقراء على مقايضات أخلاقية مؤلمة. واستمرار هذا الواقع يكرس حلقة مفرغة من الفقر، حيث تزوج الفتيات باكراً، ويحرمن من التعليم، ثم يعاد إنتاج الفقر في الجيل التالي".
ومضى الباحث الاقتصادي في القول، "التعامل مع الظاهرة يتطلب رؤية اقتصادية شاملة، تبدأ بإعادة بناء شبكات الأمان الاجتماعي، ودعم الأسر المتضررة من الحرب، وضمان استمرار تعليم الفتيات، باعتبار ذلك استثماراً في كسر دائرة الفقر، لا عبئاً إضافياً على الأسرة. فمن دون معالجة جذور الفقر القسري، سيظل زواج القاصرات قائماً بوصفه خياراً مفروضاً لا قراراً حراً".
كلفة باهظة
في السياق أكدت اختصاصية الصحة الإنجابية جميلة سليمان أن "زواج القاصرات لا يقتصر أثره في تغيير الوضع الاجتماعي للفتاة، بل يفرض عليها كلفة صحية ونفسية باهظة تمتد لسنوات. فالجسد غير المكتمل النمو يدفع باكراً إلى أدوار لم يهيأ لها، ما يرفع معدلات المضاعفات الصحية المرتبطة بالحمل والولادة، ويزيد من أخطار فقر الدم، وسوء التغذية، والنزف، وارتفاع وفيات الأمهات بين الفتيات دون الـ18".
وتابعت سليمان، "الحمل الباكر غالباً ما يأتي في بيئات تفتقر إلى الرعاية الصحية المنتظمة، خصوصاً في مناطق النزاع والنزوح، ما يضاعف الأخطار. وفي كثير من الحالات، لا تمتلك الفتاة المعرفة أو القدرة على طلب المساعدة الطبية، أو اتخاذ قرارات تتعلق بجسدها، في ظل علاقة غير متكافئة من حيث العمر والسلطة". وواصلت، "أما نفسياً، فالفتاة القاصر تنتزع فجأة من عالم الطفولة والتعليم إلى فضاء المسؤوليات القسرية. هذا الانتقال الصادم يخلف آثاراً عميقة، من القلق والاكتئاب واضطرابات النوم، إلى الشعور بالعزلة وفقدان السيطرة. فهناك كثير من الفتيات يعانين صدمات غير مشخصة، بسبب غياب خدمات الدعم النفسي، والخوف من الوصم الاجتماعي".
وأردفت، "العنف الزوجي يكون أكثر حضوراً في حالات الزواج الباكر، نتيجة اختلال موازين القوة، وعدم قدرة الفتاة على التعبير أو الاعتراض. وغالباً ما ينظر إلى ما تتعرض له على أنه أمر طبيعي داخل الزواج، مما يفاقم الصمت ويطيل أمد المعاناة".
ولفتت اختصاصية الصحة الإنجابية إلى أن، "التعامل مع زواج القاصرات كقضية اجتماعية فقط يغفل كلفته الحقيقية. فالثمن لا يدفع مرة واحدة، بل يستنزف تدريجاً من صحة الفتيات، ومن قدرتهن على التعلم، ومن فرصهن في حياة آمنة ومستقلة. بالتالي فإن أي استجابة جادة للظاهرة يجب أن تضع صحة الفتيات الجسدية والنفسية في قلب المعالجة، لا على هامشها".
تأويل اجتماعي
من جهته أشار الباحث في الدراسات الإسلامية عبدالله عبدالرحمن إلى أن "الربط التلقائي بين زواج القاصرات والدين يعد اختزالاً مخلاً، إذ يجري في كثير من السياقات توظيف الخطاب الديني لتبرير ممارسات اجتماعية فرضها الفقر والحرب، لا النصوص الدينية ذاتها. وما يقدم بوصفه حكماً شرعياً هو في كثير من الأحيان تأويل اجتماعي نشأ تحت ضغط الواقع، ثم جرى تطبيعه مع الزمن".
وأوضح عبدالرحمن أن "الشريعة الإسلامية قامت في جوهرها على مقاصد واضحة، في مقدمها حفظ النفس، والعقل، والنسل، والكرامة الإنسانية، وهي مقاصد تتعارض مع أي ممارسة تلحق الضرر بالطفل، أو تحرمه من حقه في التعليم والنمو الآمن. واشتراط القدرة والرضا والمصلحة في الزواج يسقط أي محاولة لتسويغ تزويج طفلة لا تملك وعياً كافياً ولا قدرة على الاختيار". وحذر من "الخلط بين الأعراف المحلية والدين"، معتبراً أن "هذا الخلط ينتج خطاباً يبرر الانتهاك بدلاً من أن يحمي الضعفاء. فحين يستدعى الدين لتغطية العجز الاقتصادي أو فشل السياسات العامة، يتحول من منظومة قيم إلى أداة تبرير، تلقي باللوم على الضحية وتمنح الشرعية لقرارات قسرية". وزاد، "السكوت الديني عن الظاهرة، أو التعامل معها باعتبارها أمراً واقعاً، يسهم في إعادة إنتاجها، خصوصاً في المجتمعات التي تمنح الخطاب الديني سلطة أخلاقية عالية. في حين أن دور العلماء والباحثين لا يقتصر على نقل النص، بل يمتد إلى قراءة السياق، والتنبيه إلى مواضع الظلم، والانحياز لمقاصد العدالة والرحمة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلص الباحث في الدراسات الإسلامية إلى القول إن "معالجة زواج القاصرات لا تتطلب صداماً مع الدين، بل استعادة لجوهره، عبر خطاب ديني مسؤول يميز بين النص والتأويل، ويضع مصلحة الطفلة وكرامتها في صلب الفهم الديني، لا على هامشه".
كسر الدائرة
من جهتها تقول الناشطة في حقوق الطفل ومنظمات المجتمع المدني خالدة الهادي إن "زواج القاصرات يأتي نتيجة مباشرة لغياب السياسات الحمائية، ويمكن الحد منه متى ما توفرت بدائل حقيقية للأسر. فالتجربة الميدانية تظهر أن الأسر لا تلجأ إلى تزويج بناتها إلا عندما تغلق في وجهها كل أبواب الدعم الأخرى". وأضافت أن "توفير التعليم الآمن والمجاني للفتيات يمثل خط الدفاع الأول ضد الزواج الباكر لأن بقاء الطفلة في المدرسة لا يحميها فقط من الزواج، بل يمنح الأسرة أملاً في مستقبل مختلف".
وبينت الهادي أن "برامج الدعم النقدي المشروط، التي تربط المساعدة باستمرار التعليم، أثبتت فاعليتها في تخفيف الضغوط الاقتصادية التي تدفع الأسر إلى قرارات قسرية". وأشارت إلى أن "منظمات المجتمع المدني تسعى، على رغم محدودية الموارد، إلى سد الفجوة التي خلفها تراجع دور الدولة، عبر تقديم مساعدات مباشرة، ودعم نفسي للفتيات، وتوعية قانونية للأسر بحقوق الطفل، لكن هذه الجهود تبقى جزئية ما لم تدمج في سياسة وطنية شاملة تعترف بزواج القاصرات كقضية حماية، لا مسألة ثقافية فقط". وأكدت أن "حماية الطفلاًت تتطلب مساءلة قانونية واضحة، وتفعيل القوانين التي تحدد سن الزواج، إلى جانب إشراك القيادات المحلية والدينية في تغيير الخطاب السائد. فالتغيير، لا يحدث بالمنع وحده، بل ببناء بدائل واقعية تعيد للأسرة قدرتها على الاختيار دون خوف من الجوع".
ونوهت الناشطة في حقوق الطفل بأن "كسر دائرة زواج القاصرات يبدأ بالاعتراف بأن الفقر والحرب هما الجُناة الحقيقيون، وأن الاستثمار في الطفولة هو الطريق الوحيد لوقف إعادة إنتاج الأزمة. فحين تُحمى الطفلة اليوم، يُحمى المجتمع بأكمله غداً".