Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا لعن غراهام غرين كيم فيلبي وهو على فراش الموت؟

الجاسوس السوفياتي الأشهر بين العمالة المزدوجة والمثلثة

الكاتب البريطاني غراهام غرين (أ.ف.ب)

قبل ذلك وخلال عقود من السنين، كان عالم أدب الجاسوسية والاستخبارات البريطاني يعيش، بشكل أو آخر، تحت ظل ازدواجية أدبية طرفاها غراهام غرين من ناحية، وجون لوكاريه، من ناحية أخرى، لكن موضوعها مواطن بريطاني آخر قد لا تقل شهرته عن هذين الإثنين وإن كان محور القضية نشاطه الاستخباري الذي بدا مزدوجاً. نتحدث هنا عن كيم فيلبي الذي منذ انكشاف عمالته للسوفيات في عام 1963 وفراره من بيروت إلى موسكو، لم يتوقف عن أن يكون محور صراع وسجال أخلاقيين تمثل في نهاية الأمر من ناحية لدى لوكاريه الذي جاهر بالعداء له واحتقاره، وكتب ضده لائماً معتبراً إياه خائناً لبلاده، كما من ناحية ثانية، لدى غرين الذي في المقابل وجد له شفعة عبّر عنها في واحدة من آخر رواياته الكبرى، "العامل الإنساني". في سنواته الأخيرة كان غرين يدافع عن فيلبي. لكنه في النهاية وهو على فراش المرض ثم الموت أوائل تسعينيات القرن العشرين تبدّل موقفه فجأة وراح يلعنه بمرارة، بحث كثر عن سرّها فلم يدركوه.

لماذا تبدّل موقف غرين فجأة وبدا غاضباً على فيلبي؟

مات غرين ولم يجب أحد عن السؤال. ولكن بعد ذلك حدثت قلبة مسرحية جديرة الآن بأن تكون موضوع فيلم سيكولوجي. وبطل هذه القلبة هو نورمان شيرّي الذي كتب سيرة في مجلدين ضخمين هي الوحيدة المأذونة من بين السير العديدة التي صدرت عن غراهام غرين قبل موته وبعده.

فما الذي كشفه شيرّي؟

ببساطة أن كيم فيلبي لم يكن عميلاً مزدوجاً فحسب، بل مثلثاً! قد يبدو الأمر هنا وفي غياب الوثائق الدامغة، من قبيل "التخريف"، لكن شيرّي سيقول إن لديه من الوثائق والبراهين ما يؤكد هذا، ويؤكد في ما يخص غرين أن ذلك كان سبب غضبه على فيلبي الذي، كما همس له في واحدة من ساعاته الأخيرة، "خدعني... لقد خدعني وأبداني ساذجاً!" كيف؟ بإخفاء حقيقته "المثلثة" عنه تماماً حين التقاه في موسكو قبل وفاته – أي وفاة فيلبي.

وطنية مفاجئة

وهنا لكي لا تبدو الحكاية حكاية كلمات متقاطعة غير مفهومة، ها هو شيرّي يوضح في استطراد لجزء لم يُنشر بعد، من سيرة غراهام غرين، ما قد يبدو خفياً من الحكاية.

فمن المعروف أن فيلبي العضو الرئيس في حلقة كامبردج التي كانت تضم مجموعة من طلاب نابهين، بل عباقرة تمكن عميل سوفياتي في سنوات الثلاثين من أن يجرّهم - إذ رصد "شيوعيتهم المتحمسة" - إلى الاستخبارات السوفياتية مستفيداً من عملهم الاستخباراتي الدبلوماسي في صفوف الاستخبارات البريطانية. ونعرف أن كيم فيلبي كان واحداً من أفراد الحلقة الذين تأخر إنكشافهم... حيث لم يتلُه في الانكشاف سوى طوني بلنت، حافظ كنوز الملكة إليزابيث الفنية! ومن بعد فرار فيلبي من بيروت إلى موسكو كُتب الكثير عن عمله المزدوج وولائه للسوفيات وما إلى ذلك. وهو نفسه أسهب في الكتابة عن ذلك كله، في كتابه البديع "حربي السرية" الذي وضعه وهو في موسكو وكتب مقدمته... غراهام غرين نفسه، مشيداً بذكائه وعمله وإخلاصه لـ"مبادئه". ويقول لنا شيرّي اليوم إن تلك المقدمة نفسها هي التي يبدو أنها استثارت غضب غرين وندمه. لماذا؟

 

 

لأن وثائق بريطانية لاحقة، ودائماً بحسب شيرّي، أتت لتؤكد أن كيم فيلبي خدم ذات حقبة حرجة من حقب الحرب العالمية الثانية، مصالح بلاده الإنجليزية ضارباً مصالح السوفيات العسكرية بعرض الحائط مرة في حياته على الأقل. وكان ذلك حين كان لا يزال يعمل مع الإنجليز، فاستخدمه هؤلاء لإيصال معلومات مزيّفة إلى الألمان تتعلق بالإنزال في النورماندي. يومها قام كيم فيلبي بـ"واجبه" البريطاني إنما من دون أن يُعلم السوفيات بذلك – بل لربما يكون قد استخدم روابطه السوفياتية لتوصيل المعلومات المزيّفة إلى الألمان، لكن تلك حكاية أخرى ستبقى غامضة لزمن! ومن المرجح أن الإنجليز حفظوا له ذلك الجميل وتنبهوا إلى موقفه "الوطني" حين عادوا وكشفوا سوفياتيته، ما يعني أنهم ربما يكونون قد سهّلوا مسألة فراره من بيروت!

طبعاً قد يبدو هذا أقرب إلى الخيال، لكنه بالتأكيد يفسّر غضب غراهام غرين وهو على فراش الموت، ويجعل كثراً ينتظرون كلمة نورمان شيرّي الأخيرة حين ينكشف المزيد عن الوثائق الإنجليزية المتعلقة بكيم فيلبي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي انتظار ذلك يمكن العودة إلى غراهام غرين نفسه وإلى آخر ما يتعلق به، في ما يبدو على علاقة ما بالحكاية التي رويناها أعلاه.

شرائط مصورة

فالجديد اليوم "انكشاف" حكاية أخرى تتعلق بغراهام غرين، الذي عُرف بروايات التجسّس كما بروايات الأسئلة الدينية الشائكة، وتحديداً بفيلم كتب هو حكايته ويعتبر منذ عرضه في أواخر أربعينيات القرن الفائت، واحداً من أكبر أفلام التجسّس وأفلام الحرب الباردة في تاريخ الفن السابع: "الرجل الثالث" الذي حقّقه كارول ريد من بطولة أورسون ويلز. الحكاية هنا لا تدور داخل الفيلم، بل حوله. أو هذا على الأقل ما يقترحه علينا كتاب شرائط مصوّرة عنوانه "خبطة براغ" صدر قبل أشهر في لغات عدة آخرها الفرنسية، ويدور تحديداً حول انقلاب براغ الذي أشعل أتون الحرب الباردة بين منتصري الحرب العالمية الأولى. صحيح أن الخبطة تحدث في براغ، إلا أن الحكاية تدور في فيينا حيث يقترح علينا الكتاب أن غراهام غرين - الذي كان مزدوج النشاط: كاتباً كبيراً من جهة، وعاملاً مع قسم الاستخبارات البريطانية إنما زار يومذاك العاصمة النمساوية التي كانت تعجّ بالجواسيس من كل الأنواع، تحت ذريعة أنه يشتغل على التحضير لكتابة الفيلم الذي سينتجه ألكسندر كوردا، الذي كان معروفاً في أي حال بتعاونه مع أجهزة البروباغندا الإنجليزية، خلال الحرب وبعدها. أما حقيقة المهمة التي كان غرين يقوم بها، فكانت تتعلق تحديداً بمراقبة نشاط غامض كان يقوم به هناك، ونحو أوروبا الشرقية، انطلاقاً من هناك، كيم فيلبي الذي كان لا يزال من المفترض في ذلك الحين أنه يعمل لحساب الاستخبارات البريطانية، لكن شكوكاً غامضة كانت بدأت تتسرب تتعلق بعمله مع الاستخبارات السوفياتية وضلوعه في ترتيب الانقلاب التشيخي.

 

 

الدور الذي لعبته بيروت

فما الذي يعنيه هذا كله؟ باختصار، إن غراهام غرين أسهم في الكشف عن بدايات تلمّس أجهزة الاستخبارات البريطانية عملَ كيم فيلبي ضدها... وذلك من خلال اللعبة "السينمائية" التي توجه إلى فيينا ليلعبها، تماماً كما ستكون الحال بعد ذلك بنحو ربع قرن حين توجه مسؤول الـ "سي آي إيه" الذي لعب بن آفليك دوره، كما يقول لنا فيلم "آرغو"، إلى طهران للعب اللعبة ذاتها، مع فارق أساسي هنا وهو أنه فيما لم ينتج من خدعة "آرغو" أي مشروع سينمائي حقيقي مكتفياً بتهريب الرهائن، نتج من جولة غراهام غرين في فيينا فيلم حقيقي يعتبر اليوم مَعْلماً من معالم سينما الحرب الباردة، ولكن أيضاً، بداية لانكشاف كيم فيلبي الذي لن يلبث، بعد "الرجل الثالث" بسنوات أن يدرك أن أمره انكشف ليفرّ من مكان إقامته في بيروت إلى موسكو بسفينة أرسلها السوفيات إلى منطقة بحرية بيروتية تقع خلف فندق السان جورج لتقله قبل ساعات من وصول رجال الشرطة لاعتقاله من شقته في منطقة القنطاري وسط بيروت على مبعدة عشرات الأمتار من الفندق الذي رست السفينة السوفياتية على بعد أمتار منه وربما بتواطؤ من سلطات بحرية لبنانية آثرت أن تقدم للسوفيات هذه الخدمة لأسباب لن يُكشف عنها أبداً... والحقيقة أن هذا الفرار في حدّ ذاته يستحق فيلماً سينمائياً على طريقة تمزج بين غراهام غرين وجون لوكاريه، بيد أن أحداً لم يصنعه لحد علمنا حتى الآن. غير أن هذه حكاية أخرى بالطبع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة