Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جميلات بيروت القرن 20  يلتقين في رواية لينة كريديّة 

قصص حبّ وخيبة وموت تمثل وجوه المدينة المتعددة

لوحة للرسامة اللبنانية ريم الجندي (صفحة الرسامة على فيسبوك)

تقدّم الكاتبة والناشرة اللبنانيّة لينة كريديّة روايتها الرابعة بعنوان "غانيات بيروت" (دار النهضة العربيّة، 2021)، وهو عمل بالكاد يتخطّى المئة صفحة لكنّه يحمل في طيّاته كماً وافياً من أخبار أهل بيروت القرن العشرين. فمن "ابتسام" الفتاة الجميلة الفاتنة المولودة عام 1891 وصولاً إلى "نوال" الجميلة الأنيقة المولودة عام 1969 إلى جميلات بيروتيّات عانين وتعذّبن وتدمّرت حيواتهنّ لمجرّد أنّهنّ فاتنات بوجوههن وقاماتهن، وكأنّ الجمال الصارخ لا ينجو يوماً من العقاب.

ومن الجدير بالذكر أنّ عنوان كريديّة "غانيات بيروت" شامل ومتوافق مع الفضاء السرديّ للنصّ بشكل كبير. فالغانية أوّلاً هي الفتاة الفاتنة التي لا تحتاج إلى الزينة لتُظهر أنوثتها وبراعة جمالها، وقد تكون هذه الغانية فتاة هوى أو لا، فهذا ليس شرطاً فعليّاً ليتمّ المعنى. وينطبق هذا الوصف على بطلات الكاتبة التي تملأ نصّها بأخبار نساء فائقات الجمال: منهنّ فتاة الهوى، ومنهنّ المتزوّجة، ومنهنّ من تتزوّج لتهرب من ضيق الحال، ومنهنّ من تفقد عقلها عندما يقسو عليها المجتمع، ومنهنّ من تلقى حتفها بسبب جمالها. فتيات ومدينة وحقل معجميّ خاصّ بالجمال والأنوثة يتعارض مع حقل معجميّ آخر خاصّ بالموت قد يكون بالحجم والحضور نفسيهما في هذا العمل الذي قد يبدو للوهلة الأولى موجزاً ومقتضباً، لكنّه يفضح مدينة تقسو على أهلها أحياناً أكثر ممّا يجب.

بين الحبّ والموت

يكتشف قارئ "غانيات بيروت" أنّ النصّ يتأرجح بين إروس (Eros) إله الحبّ، وتاناتوس (Thanatos) إله الموت. فعلى الرغم من أنّ العنوان قد يخدع القارئ ويوهمه أنّ السرد موسوم بالجمال والحبّ وليالي السهر في بيروت، يبدو أنّ الموت هو الحاضر الأبرز في النصّ ومنذ صفحاته الأولى. فالفصل الأوّل الذي يتوقّف عند قصّة الجميلة "هيام"، يطالع القارئ بسوداويّة تمهّد للموت الذي سيحفّ النصّ بأسره. فبالحديث عن هيام وحياتها الزوجيّة، تقول الكاتبة: "تكبر هيام وتشعر أنّ حياتها قبر اسمه خالد. هو نعشها الذي يمنع عنها الهواء". (ص: 11) وكأنّ الموت هو المصير الذي لا مفرّ منه، وكأنّ الجمال لم ينقذ هؤلاء النساء من الموت بل منحهنّ الوهم بأنّهنّ وقعن على الحبّ ليتبيّن أنّه في الواقع مجرّد قناع لحياة زاخرة بالألم والمعاناة والوحدة.

وترسّخ الكاتبة معاناة جميلاتها بأن تجعلهنّ جميعهنّ ضحايا جمالهنّ، وكأنّ القصّة واحدة، لكنّها تتكرّر مع نساء مختلفات وفي عقود مختلفة. فابتسام ولودي وهيام وناديا وغادة وغيرهنّ كثر من الجميلات الفاتنات اللواتي توهّمن أنّهنّ بزواجهنّ من رجال أقوياء أثرياء من أبرز رجالات عصورهنّ، قد يتمكّن من الهرب من بؤس حالهنّ وفقر عائلاتهنّ. إنّما لا. يتحوّل الجمال إلى لعنة. يتحوّل الجمال إلى عقاب، والحبّ الذي كان برّاقاً متوهّجاً في البداية تحوّل إلى قبر يبتلع نساءه.

غانيات فاتنات غدرهنّ الرجل وغدرهنّ المجتمع، فنوال الجميلة المتعلّمة المثقّفة أغرمت بشاب من طائفة غير طائفتها ودفعت الثمن بأن خسرت حياتها ورجاحة عقلها، هي التي شعرت منذ البداية أنّ قصّة حبّها لن تنتهي على خير: "لكن ثمّة ما تخشاه من التعلّق به. إنّهما من طائفتين مختلفتين. هو أرثوذكسيّ وهي من عائلة بيروتيّة سنّيّة محافظة". (ص: 57).

الجمال المعاقب

حاولت نسوة كريديّة الفرار من مصيرهنّ السوداويّ إنّما لم ينجحن، حالهنّ في ذلك حال بيروت التي غرقت في حروبها ومجازرها، بيروت التي عاشت الحرب العالميّة الأولى فالثانية، وصولاً إلى حربها الطاحنة الخاصّة، وكأنّ الغانيات الجميلات هنّ بيروت الجميلة المحكومة دوماً بالموت على الرغم من بحثها الدؤوب عن الحبّ.

يؤطّر الموت المدينة بأسرها، وليس فقط غانياتها، فلا تغفل الكاتبة عن التوقّف عن حادثات اغتيال قتلت فيها شخصيّات سياسيّة وصحافيّة، كما أنّها لا تتوانى في ملامسة التوتّر السياسيّ الذي كان قائماً في النصف الثاني من القرن العشرين في بيروت. الموت نفسه حاضر في معظم عناوين فصول الرواية، عندما لا يكون العنوان حاملاً لاسم الغانية البطلة، فعناوين مثل "المنتحرة طوعاً"؛ "السبت الأسود"؛ "غضب البحر"؛ "كان رأس المرحومة هنا"، وغيرها، تؤكّد أنّ الموت والدمار مصير لا مفرّ منه عندما تكون المرأة بهذا الجمال والتوهّج، وعندما تكون المدينة بهذا التمرّد والتعنّت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تتمعّن لينة كريديّة في نصّها بوصف جميلاتها. سطور تخصّ بها كلّ بطلة من بطلاتها تحوّل الجمال الموصوف إلى جمال ميثولوجيّ بعيد المنال. ففي وصف هيام مثلاً تقول: "تأخّرت هيام كثيراً كعادتها، فهي تأتي مع صديقاتها مشي الهوينى بغنج ودلال. تعرف أنّها جميلة ومحطّ الأنظار دائماً، ويزيدها سحراً شخصيّتها المتوهّجة البسّامة الواثقة،... منذ ما يقارب الأربع سنوات وهو مفتون بها. يخشى شخصيّتها الحرّة كفرس برّيّة يصعب ترويضها، وجمالها الأخّاذ" (ص: 7).

يتكرّر السيناريو في القصص كلّها لتجتمع معاً حول خطّ سرديّ واحد: فتاة فائقة الجمال والدلال والفتنة، قادمة من عائلة فقيرة رقيقة الحال، تلفت نظر رجل وجيه ثريّ يكبرها سنّاً بشكل واضح. تقبل الزواج منه لتهرب من بؤس حالها فتكتشف أنّ المال والوجاهة والفساتين والمجوهرات لم تشتر لها السعادة تماماً. تكتشف الغانية الرائعة الأخّاذة أنّ الرجل الذي يكبرها سنّاً لم يتمكّن من أن يشتري لها الحبّ والسعادة، هي التي هربت إلى أحضانه فراراً من البؤس. تكتشف أيضاً أنّ حساباتها لم تكن دقيقة وأنّ الحظّ خانها. فتقول الكاتبة عن "ناديا" مثلاً عندما تجد هذه الأخيرة أنّها يجب أن تختار بين الشاب الفقير الذي يميل قلبها إليها والرجل الثريّ الذي يكبرها سنّاً: "هي لا ترغب في الفقر مجدّداً، بل تريد أن تحيا حياة باذخة". (ص: 71)، ليبقى السؤال الأهمّ في هذه القصص كلّها: أيّهما أقسى: الفقر أم الحزن؟

"غانيات بيروت" رواية مكتوبة بسلاسة وسهولة وجذالة تروي بيروت في القرن العشرين عبر قصص نسائها ومصائرهنّ. رواية مدينة وحرب وحبّ وأجساد وطبقات اجتماعيّة وفقر وبذخ... وجميلات أنيقات متألّقات متوهّجات يجدن أنفسهنّ وحيدات حزينات مقتولات، هنّ اللواتي حرّكن القلوب وقهرن رجالاً لا تغلبهم جبال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة