Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية "طرطوف" تطرب ملك فرنسا وتضحكه قبل حظرها بساعات

موليير يعيد كتابتها ثلاث مرات والإنقاذ من خلال عقد مع البابا

من عرض قديم لمسرحية "طرطوف" (موقع المسرحية)

لعل حكاية مسرحية "طرطوف" للكاتب الفرنسي موليير كانت واحدة من أغرب حكايات الصراع بين الفن والرقابة حين تجابهت معها، وخرجت خاسرةً بعد ساعات من عرضها أمام الملك وعلية القوم دون أن يشفع لها إعجاب ملكي جعل لويس الرابع عشر يقهقه كما لم يفعل من قبل، ولا فعل من بعد. غير أن ذلك "الملك – الشمس" نفسه، والذي ازدهر المسرح الفرنسي في زمنه ازدهاراً استتثنائياً وقد لمع فيه الثلاثي المدهش، كورناي وراسين في المسرح التراجيدي/ التاريخي، وموليير في المسرح الاجتماعي الهزلي، بين آخرين، كان هو من اتخذ قراره بمنع المسرحية بعد ذلك العرض الأول مجبراً كاتبه المفضل على إعادة كتابتها مرتين أخريين، ولكن سيقول لخلصائه إنه إنما فعل ذلك بغية "إنقاذ" موليير من براثن عديد من قوى الضغط التي انتفضت ضد المسرحية، وكادت توصل مؤلفها إلى السجن على الضد من الإرادة الملكية التي كانت تريد أن تكلله بالغار. وهنا بالتحديد تكمن غرابة الحكاية من ناحية، ولكن حقيقة منطق السلطة من ناحية ثانية.

قوة جمعيات الضغط

فالواقع أن من تصل هذه الحكاية إلى أسماعه اليوم قد ينظر بدهشة إلى ملك فرنسا وهو يذعن لضغوط اجتماعية ودينية ويضطر إلى التضحية بواحد من كبار كتاب البلاد فيما الناس ينظرون إليه على أنه حاكم مطلق لا تعلو إرادته إرادة، فتكشف عنه هذه الحكاية مساوماً ضابطاً للإيقاع متناسياً مسرّاته الفنية الشخصية كيلا يخسر قطاعات عريضة من الجمهور يمكن لجمعيات الضغط تأليبه، وغالباً باسم فهم متهافت للدين يخفي خلف قناع سميك، مصالح اجتماعية وسياسية. وهذا هو في نهاية الأمر جوهر هذه الحكاية التي لم تشكل في ذلك الحين ولا بعده، سوى حلقة في سلسلة لم تتوقف على مدى الزمن، من حكايات رقابية لا شك أن زمننا الحاضر، حتى وإن كان يعج بها، يشهد على انتشار تقنيات وذهنيات لم تعد تسمح بأن ينهزم المراقبون على مذبح رغبات المراقبين.

إعجاب قبل المنع

ومن هنا قد يتوجب علينا أن نذكر كيف أن موليير نفسه اضطر لكتابة، وإعادة كتابة، مسرحيته مرات عديدة كيما يتمكن من تقديمها، إذ في كل مرة كانت تقدم، كان أهل الجمعيات أو "التقوى" أو حتى أهل البلاط وأصحاب المصالح والمشارب المتنوعة والمختلفة يصرخون زاعقين مطالبين بمنع المسرحية! كذلك لا بد من أن نذكر تلك الحكاية التي تقول لنا إن الملك نفسه، الذي كان محباً لفن موليير راعياً له، حامياً لفرقته، شاهد "طرطرف" في نسختها الأولى في عام 1664، واستمتع بها كثيراً وضحك أكثر... ولكنه في اليوم التالي وجد نفسه يأمر بمنعها. لماذا؟ بكل بساطة لأنها أثارت غضب جمعيات الجانسينيين، الذين كانوا - كما أشباههم في كل مكان وزمان وفي كل المجتمعات قديمة كانت أو جديدة - عينوا أنفسهم بأنفسهم حماةً للأخلاق في المملكة، كما أثارت غضب غير تلك الفرقة من الفرق الدينية التي كانت تعمل في الخفاء، لكن نفوذها كان يطاول كبار رجال الدولة. وهكذا اختفت المسرحية كما صاغها موليير في المرة الأولى، من دون أن يعثر لها على أثر، كما اختفت أجزاء كبيرة من المسودات والمحاولات "التصحيحية". والحال أن النص الذي بقي لنا اليوم من موليير ليس سوى النص الثالث أو أكثر ربما، الذي كتبه موليير، بعد سنوات من ظهور النص الأول ثم اختفائه.

عقد مع البابا

والحقيقة أن الملك سيكون بعد عامين ونيّف من عرض واختفاء المسرحية، في مقدمة الذين أرضاهم تصرف موليير واشتغاله على المسرحية مرات عديدة حتى باتت قابلة لأن تقدم، ولا سيما أن الملك كان في تلك الأثناء قد وقع ما اعتبر "عقداً مع الكنيسة" يضع نهاية لخلاف بين البلاط والبابا. وهي نهاية خففت من غلواء الكنيسة وأعادت حرية التصرف للملك. وهكذا إذ تمكن موليير من "تجديد" مسرحيته وأضاف إلى عنوانها ما يفيد بأن "طرطوف" نصاب محتال، وجد الملك أن في مقدوره دعمه الآن فقدمت المسرحية من جديد لتنال نجاحاً عززت منه حكايتها مع الرقابة والدعم الملكي، بل لا تزال تعيش حتى اليوم بوصفها واحدة من أعظم الكوميديات الاجتماعية في تاريخ المسرح، إلى درجة أن كاتبها نفسه فضل السكوت إلى الأبد عما كانت عليه أول الأمر، بالتالي لم يعد في وسع أحد أن يعرف ما إذا كنا بصدد المسرحية الأصلية نفسها، أم أمام عمل مختلف!

لو كان اليوم بيننا

إذاً فإن موليير، بعد منع الملك النص الأول، أخفاه، ثم اشتغل في عام 1667 على نص ثانٍ عنوانه "بانولف أو النفاق"، ولكن هذا النص الجديد سرعان ما منع بدوره تحت ضغط الجمعيات نفسها، وبناءً على طلب رئيس مجلس "النواب" في ذلك الوقت. وفي عام 1669، ظهر نص جديد، مخفف إلى أبعد الحدود، بحيث إن الجمعيات والسلطات لم تجد نفسها قادرة على منعه. وهذا النص، لا النص الأساسي، هو الذي نعرفه اليوم... ومن الصعب، طبعاً، تصور ما كان عليه النص الأول في تفاصيله وحواراته التي يبدو أنها كانت شديدة الجرأة، طالما أن موليير كتب المسرحية وهو معتقد أن في وسعه تمرير أفكاره وغضبه على مدعي الدين والأخلاق، تحت حماية الملك، فتبين له - بعد أن دفع الثمن - أن لحماية السلطات للكاتب حدوداً. وهنا، قد يكون مناسباً أن نفتح هلالين لنتساءل عما كان من شأن موليير نفسه أن يكتب لو أنه عاش بيننا في هذا الزمن الذي بات يخلق من مدعي الأديان والمتاجرين باسمها آلاف الشخصيات المشابهة لطرطوف، وكذلك لنتساءل عما تغير إزاء ما نشهده من هجومات أصحاب المصالح على الأعمال الفنية والأدبية باسم قيم لا وجود لها إلا حيث تدعو الحاجة؟!

حكاية المنافق الكريه
وتتمحور مسرحية "طرطوف"، أو "المحتال" حول الشخصية التي تحمل اسمها، أي شخصية طرطوف، المنافق الكريه الذي يختبئ وراء درع مظاهر مكنه من أن يخدع أورغون البسيط وأمه السيدة برنيل. وأمام ما يبديه المنافق من ورع وأخلاق حميدة ينتهي الأمر بالابن وأمه إلى اصطحابه ليعيش في منزل أورغون وهما يعتقدان أن وجوده وتقواه في الدار سيكونان مفيدين لبقية أفراد العائلة، ولكن سرعان ما يتبين لنا أن كل من في البيت، باستثناء أورغون وأمه، وبمن فيهم الخادمة الثرثارة دورين، يدركون بسرعة حقيقة طرطوف، لكن الكلمة الأولى في البيت لأورغون الذي ما كان ليصدق "الأكاذيب" التي "تحاك" من حول طرطوف، بل يصل به الأمر إلى اتخاذ قراره بتزويج ابنته الحسناء ماريان من ضيفه التقي، على الرغم من أنها مغرمة بشاب يدعى فالير. وهنا تحاول ألمير، زوجة أورغون التدخل لمنع هذه المهزلة، فتطلب من طرطوف لقاء تسعى من خلاله إلى إقناعه بعدم طلب يد ماريان... لكن هذا بدلاً من أن يستجيب طلبها يحاول إغواءها. ولما كان ديني، شقيق ماريان، قد شهد كل ما حدث، يحاول أن يخبر الوالد عن الحقيقة كاشفاً عن سر النصاب، لكن أورغون بدلاً من أن يصدق ابنه يزجره ويقرر حرمانه من ميراثه فارضاً في وصية يكتبها للمناسبة أن يعود كل ما يملك، إلى طرطوف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شاهد عيان

في نهاية الأمر تتحقق ألمير من استحالة إقناع أورغون بتغيير موقفه، فتقرر اللجوء إلى الحيلة، فتقنع زوجها بالبقاء تحت المائدة فيما تتحدث هي إلى طرطوف. وهكذا يشهد أورغون بنفسه على محاولة النصاب إغواء ألمير، بالتالي يدرك أورغون كل الحقيقة... ولكن، طبعاً بعد فوات الأوان... لأنه كان قد وقع على وثيقة نقل الملكية إلى طرطوف. وهذا حين يدرك أن أمره قد انكشف، يقوم، وفي كل بساطة، بطرد العائلة كلها من البيت. ولا يكتفي بهذا، بل يبلغ السلطات أن لدى أورغون أوراقاً سرية تخص صديقاً له منفياً لأسباب سياسية، لكن الضابط الذي يكلف مهمة القبض على المذنب، يقبض على طرطوف، لأن أمره انكشف حتى للسلطات، وتهمته: الإساءة إلى شخص ائتمنه. وتنتهي المسرحية بطرطوف في السجن، فيما يتصالح ديني مع أبيه ويعلن عن قرب زواج ماريان من فالير.

طرطوف على الطريقة العربية

بقي أن نضيف أخيراً أن مسرحية موليير هذه تكاد تكون من أكثر المسرحيات الفرنسية تقديماً في شتى اللغات، مقتبسة أو مترجمة وحسب، ونعرف أن المسرحي المصري عثمان جلال كان من بين أبرز الذين نقلوها إلى العربية نهايات القرن التاسع عشر، في اقتباس حمل فيه طرطوف اسم "الشيخ متلوف" الذي أصبح بالتالي رمزاً للمنافق باسم الدين، والدين منه براء، ليس في مصر وحدها، بل كذلك في كل البلدان الناطقة بالعربية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة