Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أصبحت بريطانيا منقسمة إلى هذا الحد؟

مجتمعها مجزأ وتاريخها موضع استقطاب إلى أقصى درجة، وسؤال عن دور ونستون تشرتشل في ذلك

بريطانيا العظمى أمة لا تعرف ما الذي تمثّله (غيتي)

على غرار رقصة "سارية مايو" (أيار) و"رقصة موريس" (رقصتان فولكلوريتان إنجليزيتان)، أصبح تشويه تماثيل ونستون تشرتشل الآن طقساً ربيعياً وصيفياً. وسواء تعّلق الأمر بإلباسه شعراً موهيكانياً (يقتصر على خصلات في منتصف الرأس) أخضر اللون، أو رش طلاء أحمر كالدم حول فمه، أو رش الرذاذ على هيئة كلمة "عنصري" عليه، تخبرنا الإرهاصات الأولى أن صوراً لأطواق تضربها الشرطة حول تماثيل تصوّر تشرتشل مرحاً، ستنتشر بعد وقت ليس بطويل.

أي شخص يبلغ الآن أكثر من 56 سنة، كان على قيد الحياة أثناء جنازة تشرتشل. في ذلك اليوم، وصفت صحيفة "تايمز" مظاهر الإجلال بأنها "نسيج تاريخي متحرك"، وأبرزت العاطفة الواضحة للحشود المتجمعة.

وأضافت بحماسة أن الجميع "وحّدتهم حميمية مشتركة في الذكريات الشخصية لهذا الرجل العظيم والمحبوب. كانوا كأنهم يشيّعون والدهم إلى مثواه الأخير".

بعد نصف قرن، كلما تعرّض أحد تماثيل تشرتشل إلى التشويه، تنقسم الأمة إلى عشائر معزولة بإحكام. في جهة، هناك الذين يتراوح شعورهم بين الصدمة والغضب. وفي أخرى، يقبع ائتلاف يمتد بين من يشيرون إلى أن تشرتشل كأي شخص آخر، له عيوبه الجدية، وبين من لا يريدون أن يكونوا جزءًا من بريطانيا التي تُجلّه باعتباره والد الأمة.

كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف تطور اليقين الذي ساد القرن العشرين بأن تشرتشل رجل عظيم، إلى نزاع سامّ كهذا؟ كيف وصلنا إلى التنافر المعرفي السياسي بحيث أمكن لوزيرين مثل ريشي سوناك وبريتي باتل، ذوي الإرث الهندي، أن يحضرا في قاعة تستضيف مؤتمراً لحزب المحافظين، ويهتفان بأعلى صوت لتشرتشل، وهما يعيان تماماً أنه قال، "أكره الهنود. إنهم شعب وحشي ذو دين وحشي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالطبع، لا تقتصر المشكلة على تشرتشل، على الرغم من أن كثيراً منها يتعلق به، وسنعود إلى هذه النقطة. لقد استُهدفت تماثيل تحيي ذكرى الجميع، من (المستشكف وتاجر العبيد والسياسي السير فرانسيس) دريك والأدميرال نيلسون (أحد قادة الأساطيل البريطانية، والسياسي الذي أسهم في سقوط نابليون بونابرت) إلى قتلى "حرب البوير الثانية" (شنتها بريطانيا في ما يعرف الآن بجنوب أفريقيا، ضد السكان الأصليين فيها)، في حين تحرّك المدافعون عنها (التماثيل) بسرعة لتشكيل طوق صحي ثقافي حولها، مصرّين على أنها "تاريخنا". ومن ناحية أخرى، تُهاجم في شكل منتظم المؤسسات الأمينة على التراث كالمتاحف و"الصندوق الوطني"، مع نصائح من قبل الأطراف كلها بوجوب التخلي عن معروضات أو إرجاعها إلى أصحابها أو إعادة تسميتها، أو تتغاضى تلك المؤسسات عن دعوات كهذه.

متى وكيف أصبح التاريخ البريطاني مثيراً للانقسام في هذا الشكل؟ أعتقد بأن الإجابة تأتي خلال الحملات المتعلقة بالاستفتاء على "بريكست"، وفي أعقابها. فعلى الرغم من أن المناقشات الأكثر مرارة استهدفت تسوية علاقة بريطانيا في المستقبل مع الاتحاد الأوروبي، لم تكُن مناقشات كثيرة سوى نزاعات جريئة بين رؤى مختلفة عن ماضي بريطانيا.

سواء وعينا الأمر أو لم نفعل، يشكّل نهجنا كأفراد في شأن التاريخ والعناصر التي نجلّها فيه، مكوناً من مكونات هويتنا. لذا، حين يُهاجم التاريخ، يُعتبر الهجوم شخصياً. وحين يرفع طرف ما لواء النظرة التاريخية إلى بريطانيا بوصفها أمة متاجرة وحاكمة البحار، مستدعياً السفن الحربية الشراعية لـ"سلاح البحرية الملكي"، يغضب ذلك أولئك الذين يرغبون  بالإقرار بالعنف والجشع والعنصرية غير القابلة للتشكيك التي مارستها الإمبراطورية البريطانية.

في المقابل، حين يشير آخرون إلى تاريخ إنجليزي أوروبي مشترك على صعيدي الحمض النووي والثقافة منذ العصر الحجري، يغضب ذلك أولئك الذين يطالبون بإقرار بأن بريطانيا في زمن الإمبراطورية مارست دوراً أكبر من حجمها، وحققت إنجازات قدّرها سكان الإمبراطورية، وعملت مع قليل من المشاركة من قبل أوروبا القارية.

وليست الصدوع في المجتمع البريطاني التي تبدّت من خلال "بريكست" والمواجهات حول التماثيل والحروب الثقافية سوى توضيح للمشكلة، في حين أن المسألة الجذرية ليست أيّاً من هذه الأمور. بدلاً من ذلك، إن المشكلة تكمن في أن البلاد فقدت فكرة مشتركة حول ما تمثّله. في نظرة تبسيطية ومختصرة إلى العمل السياسي، تقتصر الخيارات المعروضة (بشأن بريطانيا) على خيارين. ثمة بريطانيا الخاصة بتشرتشل، المملوءة بالنشاط البحري والقيمة الإمبراطورية، وروح معركة "دنكيرك" (خسرتها بريطانيا في بداية الحرب، ثم نهضت كي تهزم ألمانيا النازية). في المقابل، هناك بريطانيا البلد الأوروبي الحديث الذي يمتلك تاريخاً من التسامح مع صوت رائد في الكتلة التجارية الأكبر في العالم (الاتحاد الأوروبي).

لكن المشكلة الأساسية في ذلك الخيار الثنائي تتمثل في أنه يفوّت الفرصة، إذ يقتصر على النظر إلى آخر قرنين، ولا يتساءل عن وجود هويات بريطانية سابقة لأيام الإمبراطورية، وإن توافرت هويات كهذه، هل يمكن تعلّم أي شيء منها. تتمثل الإجابة بطبيعة الحال في أن هويات توافرت، بل توافرت بكثرة.

بصورة تقنية، ظلت بريطانيا في مرحلة ما قبل التاريخ حتى مايو (أيار) 43 بعد الميلاد حين وصلت الفيالق الرومانية إليها. وإلى جانب الأفيال الحربية وعجينة السمك، جلب الغزاة الكتابة، وأعلن الحضور البسيط للكلمة المكتوبة بداية تاريخنا. وكانت البداية جيدة. وتاجرت بريطانيا مع الإمبراطورية الرومانية منذ مدة، لا سيما بعدما استطاع الإمبراطور قيصر غزو شمال فرنسا، فجلب أسواق الإمبراطورية الرومانية إلى عتبة بابنا. في المقابل، أدّى ضم بريطانيا إلى الإمبراطورية إلى فرص دولية غير مسبوقة في التجارة والنفوذ السياسي.

وتتضح الثروة الناتجة (من الانضمام إلى الإمبراطورية الرومانية) في حياة الزعماء القبليين السلتيين الذين مكّنتهم الآلية الخاصة بروما من الحكم. وليس قصر "فيشبورن"، المنزل المحتمل لكوجيدوبنوس، حاكم قبائل كثيرة بالوكالة، سوى مثل واحد. وانطلقت ثورة بوديكا بسبب طريقة التعامل مع الثروة والملكية الخاصة بزوجها، براسوتاغوس، زعيم الإيكينيين.

جاء النفوذ السياسي من خلال العسكر، إذ احتاج الأباطرة الرومان إلى دعم الجيش. وتولّت الفيالق البريتانية إعلان سلسلة من الأباطرة، بمن فيهم كلوديوس ألبينوس وكاراكلا وغيتا وبوستوموس وكاروسيوس وأليكتوس وماغنوس ماكسيموس. وفي تطور يعتبر الأشهر، رفعت الفيالق في يورك عام 306 بعد الميلاد، قسطنطين الكبير إلى المرتبة الإمبراطورية، فتوجّت رجلاً يمكن القول إنه أنشأ الثقافة والحدود الخاصين بالغرب الحديث. لقد شرّع المسيحية في ممالكه، فكرّس الرابط الديني الذي سيجمع أوروبا الرومانية والقروسطية والحديثة المبكرة في هوية دينية واحدة. وأسس أيضاً مركز التحكم بالإمبراطورية الرومانية الشرقية في معقله الجديد القوي، القسطنطينية، وهي قلب الإمبراطورية البيزنطية اللاحقة ومعقل الرومانية المسيحية حتى سقوطها بيد السلطان محمد الثاني عام 1453.

على صعيد الهوية الثقافية، لم تكُن مقاطعة بريتانيا رومانية على غرار إيطاليا. بدلاً من ذلك، حل حضور عسكري وسياسي روماني صغير نسبياً في بريطانيا المحكومة من قبل حكام محليين، ما أبقى على كثير من الهياكل وأساليب العيش السلتية السابقة. وفي الواقع، شكّل ذلك النموذج نفسه الذي تبنّاه البريطانيون في إمبراطوريتهم بعد ألف و500 سنة. وقد يكون الوصف "بريطانيا شبه الرومانية (أحياناً)" وصفاً أفضل.

خلال التدهور البطيء للإمبراطورية الرومانية الغربية، انسحبت من بريطانيا حوالى عام 410 بعد الميلاد، وخلفت وراءها فوضى. ووجد الغزاة فرصتهم. وخلال قرن تقريباً، استوطن الأنغلوساكسونيون البلاد. في ذلك الوقت، كان المدافعون الرومان السلتيون عن بريطانيا مسيحيين، إذ تفيد إحدى القصص الأولى عن آرثر بأنه حمل صورة مريم العذراء خلال معركة مع الأنغلوساكسونيين، في حين عَبَدَ الغزاة الآلهة الجرمانية الاسكندنافية.

لكن، سرعان ما تبنّى الغزاة الذائقة الرومانية وانضموا إلى الهيكل الديني السياسي الخاص بالأراضي الرومانية السابقة في أوروبا. وأدت تلك الخطوة إلى ربط الأنغلوساكسونيين  بعالم واسع من المشاريع الفكرية والفلسفية والأدبية والعلمية ما لبثوا أن برزوا فيه. وكانت بريطانيا الأنغلوساكسونية منفتحة ونابضة بالحياة وناجحة وثرية. ولذا، رغب كثيرون بغزوها.

ومن أبرز هؤلاء، الاسكندنافيون، إذ جاء الفايكينغ (الغزاة) بدءًا من عام 793 بعد الميلاد. واختص الحضور العسكري الاسكندنافي بالغزو السريع، ثم أصبح أكثر إنذاراً بالسوء في 865 بعد الميلاد مع وصول "الجيش الوثني العظيم" (يُعرف أيضاً باسم جيش الفايكنغ الكبير، وتكوّن من الاسكندنافيين). وتجسّدت النتيجة في مستعمرة "داينلو" الاسكندنافية التي شملت شمال إنجلترا وشرقها. وفي شكل منفصل، خضعت مناطق من اسكتلندا وإيرلندا أيضاً إلى حكم الفايكينغ. وفي القرن الحادي عشر، تولّى العرش الإنجليزي سوين هارالدسون، عُرف أيضاً باسم "فوركبيرد"، فأطلق مرحلة الملوك الاسكندنافيين، أشهرهم كنوت الكبير، الذين حكموا ممتلكاتهم في بريطانيا ضمن إمبراطورية اسكندنافية مترامية الأطراف في بحر الشمال. وشكّلت اللغة الاسكندنافية القديمة لغة البلاط الإنجليزي، وجاء ورثة بيوولف بثقافتهم إلى هنا (بريطانيا).

بالانتقال بسرعة إلى القرن التالي، تغيّر كل شيء مجدداً. في عام 1066، استولى أحد أحفاد رولو، وهو فايكنغ وكان حاكماً لمنطقة نورماندي (تشكّل جزءًا من شمال فرنسا حاضراً)، على إنجلترا في أعقاب معركة "هاستينغز" وأعاد توجيه انتباه الأمة جنوباً صوب فرنسا. لكن سلالته النورماندية التي لم تحظَ بكثير من التأييد، سقطت حين استولى ستيفان على العرش من ماتيلدا، حفيدة الغازي، بعد 19 سنة من الحرب الأهلية، وتولّى الشاب هنري الثاني "فيتز إمبرس" العرش باعتباره أول ملك أنغوي (بلانتاجنت).

في سياق متصل، كان هنري أحد أشد الملوك المتوجين في وستمنستر، ذكاءً وحيويةً وطاقة على الإطلاق. وكان فرنسياً أيضاً، مثل زوجته، إليانور إكيتين، التي أعطته غرب فرنسا مهراً له، ما أنشأ إمبراطورية امتدت من الحدود الاسكتلندية إلى جبال البيرينيه، وشكّلت مملكة أوروبية رئيسة ومؤثرة. وكانت الإمبراطورية، بطبيعة الحال، لا تزال من الناحية الثقافية جزءًا من المسيحية الرومانية، التي مثّل إيمانها السابق للإصلاح (أي البروتستانتية) ما نسمّيه اليوم بالكاثوليكية الرومانية. وتميزت قوتها العسكرية والسياسية بأنها شبه معروضة على الدوام، فقد تولّى ابن هنري الثاني الأكثر ولعاً بالجيش، ريتشارد قلب الأسد، قيادة المهمة العسكرية الاستراتيجية الرئيسة لدى أوروبا في أواخر القرن الثاني عشر، وتمثّلت في استعادة القدس من السلطان صلاح الدين.

إذاً، ثمة ثلاث هويات مميزة في ماضي بريطانيا هي الرومانية والاسكندنافية والفرنسية. إنها هويات متميزة تماماً، لكنها كلها نماذج ناجحة في أيامها، وتمتّع كل منها بنظرة إلى كيفية ملاءمته في العالم. ولو وسّعنا العدسة قليلاً، لن يمكن الحديث عن الهوية من دون النظر أيضاً إلى الثقافة والتراث، وهذا يوصلنا إلى حركة الناس.

لم يتطور البشر في بريطانيا. لقد وصلوا إلى هنا سيراً على الأقدام حين كانت بريطانيا شبه جزيرة منبثقة من أوروبا القارية في بحر الشمال. وتعود أولى آثارهم إلى 950 ألف عام قبل الميلاد، وقد اكتُشفت في نورفولك على شكل مجموعة من آثار الأقدام العائدة إلى العصر الحجري، وتمثّلت آثار الأقدام البشرية الأقدم خارج أفريقيا. وذهب البشر وجاؤوا من ثم مع تشكّل الصفائح الجليدية وذوبانها، حتى استقروا في النهاية بشكل دائم في بريطانيا قبل 10 آلاف عام قبل الميلاد. ومارسوا الصيد والجمع، لكن حوالى 4000 قبل الميلاد، وصل مزارعون مهاجرون وحلّوا محل الكتل السكانية الموجودة. وحوالى عام 2500 قبل الميلاد، حلت حضارة القدور، وخلال ألف عام، استبدلوا 90 في المئة من الحمض النووي للبلاد بآخر.

وفور تحوّل ما قبل التاريخ إلى التاريخ مع وصول الفيالق، استضافت البلاد مستوطنين من مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية. وخلال المرحلة التالية، جاء الأنغلوساكسونيون من هولندا وألمانيا والدنمارك. وحلّ الفايكينغ من اسكندنافيا. وبعد الاسكندنافيين بفترة وجيزة نسبياً، جاء الـ"بلانتاجنت" من فرنسا. وبعدئذ أصبح الاستيطان أقل اتساعاً. ووصلت قبائل الـ"روما" الغجرية في القرن السادس عشر. وجاء الهنود مع "شركة الهند الشرقية"، وقَدم وحلّ الـ"هوغونوتيون" (فرنسيون بروتستانت يتبعون مذهب جون كالفن فيها) في القرن السابع عشر. وجاء الهولنديون مع غزو ويليام أورانج في 1688. ويأتي الأفارقة منذ العهد الروماني على الأرجح. ولا يزال ثمة حجر منحوت يخص حجاراً أفريقياً قروسطياً موجوداً في "كاتدرائية سالزبوري"، في حين أن جون بلانك، الطبّال في بلاط هنري السابع وهنري الثامن، أشهر من أن يُعرّف.

وبحلول عام 1888، استطاعت "تايمز" إعلان أنه "يجب أن يدرك كل شعب متحضر على وجه الأرض تماماً أن هذا البلد هو ملجأ الأمم، وأنه سيدافع عن اللجوء إلى آخر أونصة من كنزه، وآخر قطرة من دمائه. لا شيء نحن أكثر فخراً به وحزماً في شأنه". وبعد بضعة أعوام، عادت إلى الموضوع، فأشارت إلى أن "جزءًا من هويتنا يتمثّل في أن نكون ملجأ للأمم (...) ومن دمجنا القديم بين عدد من الأعراق، واستضافتنا كثيرين من اللاجئين، نستمد السوابق والقدرة على التعاطف مع قبائل الإنسانية كلها".

ولاحقاً، خلال الحرب العالمية الثانية، جاء إلى بريطانيا بولنديون وتشيكيون وأستراليون ونيوزيلنديون وروديسيون وجنوب أفريقيون. وقاتل كثيرون في السماوات خلال الصيف الطويل والحار عام 1940. ولم نكُن وحدنا بأي معنى للكلمة. ثم بدأت هجرة ما بعد الاستعمار في منتصف القرن العشرين، لا سيما في الأعوام الـ14 الممتدة بين عامي 1948 و1962، حين كانت سياسات الهجرة ليبرالية لمصلحة المقيمين في الإمبراطورية البريطانية والكومنولث.

وفي 1954، وقف هنري هوبكنسون، الوزير المحافظ للشؤون الاستعمارية في حكومة تشرتشل، في البرلمان وحدد رؤية الحكومة في شأن الهجرة الإمبريالية. "أي بريطاني من المستعمرات حرٌّ في دخول هذا البلد في أي وقت. ما زلنا نفخر بحقيقة أن الإنسان يستطيع أن يقول ’أنا مواطن بريطاني‘ مهما كان لونه، ونحن نفخر بحقيقة أنه يريد ويستطيع أن يأتي إلى البلد الأم". آنذاك، كان النموذج هو النموذج الإمبراطوري الكلاسيكي، تماماً كما عملت روما على توسيع الجنسية لسكان بريتانيا والإمبراطورية بأكملها في مرسوم القيصر كاراكلا عام 212 بعد الميلاد.

بالعودة إلى السؤال الأولي حول كيف أصبح المجتمع البريطاني بهذا التصدع وتاريخه مستقطباً إلى هذا الحد، قلت إنني سأعيد النظر في تشرتشل. إن مشكلات اليوم لا يسببها أي شيء قاله أو فعله. بل إنها تكمن في عجزنا عن التخلي عنه، وعن الحرب العالمية الثانية. يبدو الأمر كأن الفترة 1939-1945 كانت آخر مرة اتفقت فيها الأمة على من نحن. اليوم، مثل كل يوم، سيكتب صحافي عن روح الغارة أو روح معركة "دنكيرك" كي يبدي إعجابه بثبات شخص ما. إن استمرار شعبية هاتين العبارتين المستمرة، تذكير بتبجيلنا تلك الحقبة، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاحتفالات السينمائية والتلفزيونية السنوية تقريباً بتشرتشل وصوره الإلزامية في المتاجر السياحية، وهو يزين كل شيء من القمصان إلى أباريق الشاي.

واستطراداً، ربما تكون عواقب الاعتماد بكسل على تشرتشل وعالمه المتمثل في إمبراطورية إنجليزية عالمية تضيء الظلام، مألوفة ومريحة بالنسبة إلى كثرٍ منّا، إلا أنها لا تقدم حلولاً لمشكلات القرن الحادي والعشرين. إنها ليست الحل للانقسامات الاجتماعية والثقافية في البلاد، ولا للمعضلة الدبلوماسية التي تواجهها الأمة، فيما تواصل العملية الهادفة إلى معرفة أين تتناسب بريطانيا مع عصر المعلومات في ما بعد عصر الإمبراطورية.

تتمثل المهمة الآن في إعطاء الأولوية إلى الاتفاق على هوية جديدة. وينبغي لنا أن نبحث عن الإلهام في العصور المتعددة والمتميزة قبل الإمبراطورية والحرب (العالمية الثانية)، مع العمل على تحديد علامة تجارية وطنية جديدة. ربما تستمر تماثيل تشرتشل في التعرض للتشويه بشكل دوري، لكن كأمة، لن يمزقنا ذلك إلى أمتين، وسنتمكن حقاً من الحفاظ على الهدوء والاستمرار.

 

دومينيك سيلوود مؤرخ. كتابه الأحدث "تشريح أمة. تاريخ الهوية البريطانية في 50 وثيقة"، من منشورات "كونستابل"، 2021. وسيحاضر في المكتبة البريطانية في 11 نوفمبر (تشرين الثاني). البطاقة بـ13 جنيهاً استرلينياً (أو خمسة جنيهات للمشاهدة عبر الإنترنت)

https://www.bl.uk/events/british-identity-in-50-documents-with-dominic-selwood

© The Independent

المزيد من آراء