"وكفى بمقامي في سرنديب غربة/ نزعت بها عني ثياب العلائق
ومن رام نيل العز فليصطبر على/ لقاء المنايا واقتحام المضايق
فإن تكن الأيام رنَّقْن مشربي/ وثلَّمْن حدي بالخُطُوب الطوارق
فما غيّرتني محنة عن خليقتي/ ولا حولتني خُدعة عن طرائقي
ولكنني باقٍ على ما يسرني/ ويُغضب أعدائي ويُرضي أصادقي
فحسرةُ بُعدي عن حبيبٍ مُصادق/ كفرحة بُعدي عن عدو مُمَاذِق
فتلك بهذي والنجاة غنيمة/ من الناس، والدنيا مكيدة حاذق
ألا أيها الزاري عليَّ بجهله/ ولم يدر أني دُرة في المفارق
تعز عن العلياء باللؤم واعتزل/ فإن العلا ليست بلغو المناطق
فما أنا ممن تقبل الضيم نفسه/ ويرضى بما يرضى به كل مائق
إذا المرء لم ينهض بما فيه مجدُه/ قضى وهو كَلٌّ في خُدُور العوائق
وأي حياةٍ إنْ تنكرَتْ له/ الحال لم يعقد سيُور المناطق
فما قذفاتُ العِز إلا لماجد/ إذا هَمَّ جلّى عزمه كل غاسق
يقول أناس إنني ثرت خالعاً/ وتلك هَنَّات لم تكن من خلائقي
ولكنني ناديت بالعدل طالباً/ رضا الله واستنهضْتُ أهل الحقائق
أمرتُ بمعروف وأنكرْتُ مُنكَراً/ وذلك حكمٌ في رقاب الخلائق"
هذه القصيدة من نظم محمود سامي البارودي تعتبر من أجمل الأشعار التي قيلت في المنفى. وكتبها الشاعر/ السياسي وهو منفي في سيلان، التي كان اسمها عند ذاك سرنديب، وكان الإنجليز ينفون إليها وجوه الحركات الوطنية في مصر وغيرها. ومن الطبيعي أن يكونوا قد نفوا البارودي لوطنيته ونضاله السياسي لا لكونه شاعراً. ونعرف أن هذا المناضل الوطني الكبير في تاريخ مصر عند نهاية القرن التاسع عشر كان من كبار المشاركين في سياسات بلده المناوئة للعثمانيين كما للإنجليز، وقد اجتمع لديه النضال السياسي والنضال الإبداعي. أما حكاية نفيه فيمكن تلخيصها كما يلي.
في مهب السياسة
بينما كان محمد شريف باشا، رئيس مجلس النظار، يحاول أن يضع للبلاد دستوراً قويماً يصلح أحوالها ويرد كرامتها، فارضاً على الوزارة مسؤوليتها على كل ما تقوم به أمام مجلس شورى النواب، إذا بالحكومتين الإنجليزية والفرنسية تكيدان للخديو إسماعيل عند الدولة العثمانية لإقصائه الوزيرين الأجنبيين عن الوزارة، وإسناد نظارتها إلى شريف باشا الوطني الغيور، وأثمرت سعايتهما، فصدر قرار من الدولة العثمانية بخلع إسماعيل وتولية ابنه توفيق. ولما تولى الخديو توفيق مقاليد الحكم أسند نظارة الوزارة إلى شريف باشا، فأدخل معه في الوزارة البارودي ناظراً للمعارف والأوقاف. وللمناسبة حيا البارودي توفيق بولايته على مصر، واستحثه على إصدار الدستور وتأييد الشورى، في واحدة من أكثر قصائده ارتباطاً بالسياسة. لكن توفيق تراجع بل قبض على جمال الدين الأفغاني ونفاه من البلاد، وشرد أنصاره ومريديه، وأجبر شريف باشا على تقديم استقالته، وقبض هو على زمام الوزارة، وشكلها تحت رئاسته، لكنه أبقى البارودي في منصبه وزيراً للمعارف والأوقاف، مع ما تلا ذلك من تطورات سياسية أبعدته عن الحكم كما سوف نرى بعد سطور كما أبعدته إلى المنفى.
اختيار ثوري
مهما يكن فإن الصورة المعهودة لمحمود سامي البارودي هي صورة السياسي والشاعر، الذي شغل مكانة أساسية في التاريخ المصري الحديث، إضافة إلى أن قراءة شعره في هذه الأيام تجعله رائداً أساسياً من رواد الشعر العربي النهضوي، وقد تدفع كذلك إلى الاعتقاد بأن الرجل عاش حياة هادئة متزنة تليق بمكانته السياسية، وأن اختياره الثوري حين وقف إلى جانب عرابي وثورته كان اختياراً هادئاً ومنطقياً أملاه عليه حسه الوطني، ثم دفع ثمنه غالياً حين انهزمت الثورة وآثر ألا يقلب لها ظهر المجن فنفي مع المنفيين. تلكم هي الصورة المعهودة، أما الصورة الأكثر دقة فإنها، في الحقيقة، تضعنا أمام شخصية شكسبيرية بالمعنى العميق للكلمة. فالحال أن وقوف محمود سامي البارودي مع الثورة العرابية لم يكن على تلك العفوية والبساطة اللتين تذكران عادة، بل إن بإمكاننا تخيله خلال الشهور التي سبقت ورافقت وتلت الثورة العرابية يعيش في داخل أعماقه صراعاً بلغ من العمق ما عجز حتى شعره عن التعبير عنه.
هوة من المستحيل ردمها
فالواقع أن البارودي سعى كثيراً للتخفيف من غلواء ضباط الجيش الثائرين بقيادة عرابي، حين اشتدت حركتهم وأدت إلى عزل وزارة رياض باشا، ثم إلى استقالة حكومة شريف باشا. وهو إن كان قد قبل أن يشكل الحكومة التالية فإنما كان يسعى من خلال ذلك إلى التوفيق بين الجيش والخديو، بعد أن أدرك أن اشتداد الهوة بين الطرفين سيؤدي حتماً إلى دخول الإنجليز والأوروبيين بشكل عام. غير أن البارودي صدم بالضباط يغالون في موقفهم إلى حد المطالبة بعزل الخديو توفيق، فعاش أياماً من القلق والصراع النفسي قادته لأن يحتار بين معرفته بضرورة بقاء الخديو خوفاً من أن تتمزق مصر، وإدراكه بأنه بات من الصعب عليه الآن أن يتخلى عن الثوار. فكان أن اختار الوقوف إلى جانبهم، لكنه سرعان ما أحس بخطر ذلك كله وقد راح يطبق على مصر، فنصح عرابي ورفاقه بالتروي ثم انتهى به الأمر إلى تفضيل اعتزال الفريقين والخلود إلى مزرعته، لكن هذا لم يجده نفعاً، إذ انهزمت الثورة ودخل الإنجليز ونفي محمود سامي البارودي إلى جزيرة سرنديب (سيلان) حيث أمضى سبعة عشر عاماً كاملة أكلت خيرة سنوات عمره وأعادته إلى مصر ضريراً واهناً عجوزاً عند نهاية ذلك القرن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
17 عاماً في المنفى
لقد أتى موقفه الحائر يومها، ثم أتت سنوات النفي لتضع حداً لحياة خصبة كانت تعد بمكانتين كبيرتين: مكانة سياسية ومكانة شعرية. ولكن حين رحل محمود سامي البارودي عن عالمنا ليلة 11/12 ديسمبر (كانون الأول) 1904، كان من الواضح أن السياسي فيه قد غدر بالشاعر، وأن البارودي دفع من حياته ومساره الجمالي ثمن الأخطاء السياسية التي تراكمت في مصر خلال ذلك الزمن. غير أن البارودي الذي بقي في المنفى سبعة عشر عاماً كاملة، وجد عزاءه في الشعر الذي راح يكتبه ويجدد فيه. فالشعر كان المبرر الأساسي والكبير لحياته منذ صباه حتى وإن كان قد اختار المدرسة الحربية والعمل في الجيش مصيراً له، انطلاقاً من وضعه العائلي حين كان أبوه أميراً للمدفعية، ومن انتسابه إلى أسرة مملوكية الأصل حققت كل وجودها ومجدها تحت السلاح. ولكن البارودي بسبب خيبات وضروب حرمان رافقت طفولته، وهو المولود في السودان عام 1838، اكتشف الشعر والأدب العربي باكراً، كما اطلع خلال شبابه على أشعار الأتراك والفرس لمعرفته بلغتهم، وهذا ما أهله لأن يبدأ باكراً بكتابة الشعر جاعلاً من انتسابه لمصر وللتاريخ العربي انتساباً نهائياً له، مما جعله يعيش في معزل عن أبناء جلدته من ذوي الأصول الشركسية والمملوكية الذين كانوا يعيرونه بذلك ويندمج كلياً في الحياة المصرية وفي التاريخ العربي.
الشعر بين المدح والذم
غير أن قوله الشعر لم يبعد البارودي عن الحياة العسكرية، حيث نجده يسافر إلى فرنسا وبريطانيا في بعثات لدراسة الفنون الحربية، ثم يشارك في حملة الجيش المصري على جزيرة كريت، قبل أن يلتحق بحرس الخديو إسماعيل، ثم يرسل مع قوات مصرية لمساعدة تركيا في حربها ضد الروس في عام 1877. وهو حين عاد من تلك الحرب، راح يخوض المعترك السياسي وكتابة الشعر في الوقت نفسه، فشارك كوزير للمعارف والأوقاف والجهادية في العديد من الحكومات التي تعاقبت على مصر قبيل ثورة عرابي كما أسلفنا. أما بالنسبة إلى الشعر فقد كان رائده فيه قوله "الشعر زين المرء ما لم يكن/ وسيلة للمدح والذم" ومساره متعلقاً من قوله "تكلمت كالماضين قبلي بما جرت/ به عادة الإنسان أن يتكلما - فلا يعمدني بالإساءة غافل/ فلا بد لابن الأيك أن يترنما". والحقيقة أن البارودي لئن كان قد أخفق في حياته السياسية، فإنه حقق نجاحاً كبيراً في حياته الشعرية، يشهد على ذلك ديوانه ومختاراته التي طبعت بعد وفاته، وجعلته يعتبر على الدوام رائد الحداثة الأساسي في شعر النهضة العربية، والشاعر الذي خلص الشعر من آفاته التي كانت قد تراكمت خلال القرون الأربعة السابقة عليه. ولقد توزع شعره بين الوصف والغزل والسياسة إضافة إلى شعره الوطني، شعر الحنين إلى مصر، الذي كتب معظمه خلال إقامته في المنفى، والذي لا يزال يعتبر إلى اليوم من أرق ما كتب من شعر عربي في حب الوطن والحنين إليه.