Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

150 عاما من الفن... الأوبرا قوة مصر الناعمة من عهد الخديوي إلى عصر الثورة

شيدت بجذوع النخل على الطرز الإيطالية... وشارك رسامون عالميون في تزيينها... وكانت مركزاً للاحتفال بالمشروعات الكبرى

كلّف الخديو إسماعيل مهندسيين إيطاليين بتصميم الأوبرا المصرية واستعان برسّامين ومثّالين عالميين لتزيينها (غيتي)

القبةُ الناصعةُ أبداً، تقفُ على مدار عقود شاهدةً لا يُطرف لها جفنٌ، على بعد خطوات من كل شيء: وسط القاهرة وبرجها ونيلها، وقلب الجيزة، وحي الزمالك الهادئ. إنها دار الأوبرا المصرية التي تحتضن كل ما نحبه، ولا تخذلنا أبداً، القوة الناعمة دون شعارات رنّانة تتجسّد في هذا الصرح، الذي يعدُّ معمارياً عمره فقط 31 عاماً.

لكن، الحقيقة أن دار الأوبرا ثقافياً ممتدة في مصر منذ قرن ونصف القرن، إذ كان الحدث الأكبر بافتتاح أول أوبرا بالشرق الأوسط في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1869، لكن فقدت مصر تلك الدار في حريقٍ مروّع عام 1971 بعد تقريباً 100 عام من إنشائها، لتبقى المحروسة 17 عاماً فقط دون دار أوبرا، ثم تُفتتح الأوبرا الجديدة.

150 سنة أوبرا في مصر
يقول السيد محمد منير رئيس المركز الإعلامي بدار الأوبرا المصريّة، "طوال الـ17 عاماً ما بين حريق الأوبرا القديمة (الخديوية) وافتتاح الأوبرا الجديدة بمنحة من الحكومة اليابانية، إذ اُفتتحت في 10 أكتوبر (تشرين الثاني) 1988 بعد 34 شهراً من العمل، كانت العروض تجوب المسارح المحيطة، إذ لم ينقطع المدُّ الثقافي لدرا الأوبرا مع غياب المكان، واستمرت العروضُ على مسارح أخرى مثل مسرح الجمهوريّة".

 

الأوبرا القديمة كما هو معروف كانت في ميدان إبراهيم باشا بمنطقة العتبة، بينما الحالية بأرض الجزيرة، ويشهد مسرحها الكبير الاحتفالية الكبرى (مرور 150 سنة أوبرا في مصر)، التي حسب بيان رسمي صادر عن الأوبرا سوف يُكرّم خلالها 12 شخصية من روّاد فنون الأوبرا، هم الجيل الأول من عارضات الباليه في مصر: سونيا سركيس، ومايا سليم، وودود فيظي، وعلية عبد الرازق، والدكتور شريف بهادر العميد الأسبق للمعهد العالي للباليه، والدكتور عصمت يحيى الرئيس الأسبق لأكاديمية الفنون، ونواة مغنيي الأوبرا المصريين الباريتون الدكتور جابر البلتاجي أستاذ الغناء الأوبرالي بأكاديمية الفنون، والدكتورة نبيلة عريان، والدكتورة عواطف الشرقاوي، والدكتور ألفي ميلاد، والدكتورة عفاف راضي، ومارسيل متّى أول عازفة بيانو مصرية وأول رئيس قسم للآلة بمعهد الكونسيرفتوار.

ويضيف منير، في حديثه مع "اندبندنت عربية": "برنامج الاحتفالية يتضمن فيلماً وثائقياً عن الأوبرا الخديوية وتاريخها، وأهم الفنانين والعروض التي قدّمت على مسرحها، إلى جانب فقرات فنيّة يقدمها كل من فرق أوبرا القاهرة، وباليه أوبرا القاهرة، وكورال أكابيلا بمصاحبة أوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة المايسترو أحمد الصعيدي من إخراج حازم طايل، وتضم مقتطفات من أهم الأوبرات الكلاسيكية العالمية، منها ريجوليتو، وكارمن، ودون كيشوت، ولاترافياتا، إلى جانب عددٍ من الأعمال الموسيقية الكلاسيكية منها الدانوب الأزرق وكارمينا بورانا".

قصة الأوبرا الخديوية
دار الأوبرا المصرية ارتبطت منذ نشأة الأوبرا الخديوية بمنجزات ثقافية وحضارية على أرض الفراعنة، إذ اُفتتحت للمرة الأولى بالتزامن مع انطلاق مشروع قناة السويس في عصر الخديو إسماعيل، وكان مقرراً حينها أن يكون أول عروضها "أوبرا عايدة" المستوحاة من التراث الفرعوني، لكن تأخّر التجهيز فتم الافتتاح من خلال عرض "ريجوليتو" أو "المهرج"، وهو عرض إيطالي، ولم تُعرض "أوبرا عايدة" إلا بعد افتتاح الأوبرا الخديوية بعامين أي في 1871.

 

ويواصل رئيس المركز الإعلامي بالأوبرا حديثه، قائلاً "دار الأوبرا المصرية القديمة كان يتناوب على رئاستها مصريون وإيطاليون، وكان آخر رئيس لها قبل الحريق هو صالح عبدون، كما أنها بالأساس كانت مُشيّدة من جذوع النخل رغم تصميمها الفريد ومعمارها المميز، وقد يكون هذا هو ما سهّل حريقها، بينما المبنى الجديد أكبر بكثير من حيث المساحة، وهو مبنيٌّ على الطراز الإسلامي، خصوصاً فيما يتعلق بالقباب".

ويتابع: "من أبرز الأمور اللافتة في المبنى أنه بالنظر إليه من مسطح رأسي ومحاولة التقاط صورة له من أعلى برج القاهرة مثلاً سوف يظهر المبنى ككل على شكل تمثال أبو الهول الفرعوني، وهو يرمز إلى قوة الفن وصموده على مر العصور".

في قلب الحدث السياسي
دار الأوبرا المصرية التي نظراً إلى موقعها الجغرافي المميز في وسط القاهرة وقُربها من ميدان التحرير الذي كان ملتقى الثوار في ثورتي 25 يناير (كانون الثاني) و30 يونيو (حزيران) شهدت أحداثاً مهمة، ومع ذلك ظلت بعيدة عن أي تهديد، وهو أمرٌ يعكس قيمتها وأهميتها في نفوس المصريين، إذ لم يتعرض إليها أحدٌ بأذى رغم توتر الأوضاع، ويفسّر هذا الأمر منير قائلاً، "المصريون يعرفون قيمة الفن وقيمة صرح كبير مثل الأوبرا، وبالتالي لم يكن هناك قلقٌ عليها. الفنُ جزءٌ من تكوين المصريين، لذا كانوا يخافون على الأوبرا ويحمونها".

 

ويضيف: "دار الأوبرا شهدت شرارة انطلاق ثورة 30 يونيو (حزيران) من خلال احتجاجات شارك بها كبار فناني مصر، فالأوبرا دوماً مرتبطة في مصر بأحداث قومية مهمة ومشرفة، فهي أصبحت جسراً حقيقياً في التواصل مع العالم".

ويسرد منير حكاية في ذكرى مرور 25 عاماً على الأوبرا الحديثة، قائلاً "سفير اليابان في مصر قال إن فكرة المشاركة اليابانية في بناء دار الأوبرا بمصر لاقت وقتها اعتراضاً من الداخل الياباني، إذ لم تكن هناك وقتها أوبرا باليابان، لكن السفير حينها قال، الآن عرفنا أهمية وقيمة المكان الذي يعدُّ قناة تواصل ثقافي حقيقية".

وشهدت دار الأوبرا المصرية الحديثة عند افتتاحها عرضاً أوبرالياً يابانياً لفرقة الكاوبوكي الشهيرة، كما أدى المغني الأوبرالي المصري البارز صبحي بدير في حفل الافتتاح أيضاً نشيد "الجهاد" للموسيقار محمد عبد الوهاب.

مقتنيات نادرة 
دار الأوبرا المصرية تضم 14 فرقة فنية ومركزاً لتمنية المواهب به أكثر من 5000 طالب، وأكثر من متحف، بينها متحف يضم مقتنيات وصوراً من دار الأوبرا الخديوية، وبينها صور نادرة لرؤساء مصر في أثناء زياراتهم الأوبرا القديمة، وصور لرؤساء دار الأوبرا المصرية القديمة بين جنباتها، وأبرزهم الممثل الشهير سليمان نجيب، ومتحف لآلات موسيقية عمرها ما بين 150 و200 سنة.

كما أن فرق مثل الباليه والأوكسترا أُسست خلال الأوبرا القديمة أيضاً، وشهدت الأوبرا الحديثة زيارات لكبار فناني وأدباء مصر، بينهم الموسيقار محمد عبد الوهاب والأديب العالمي نجيب محفوظ.

الخديو إسماعيل أراد أن تكون دار الأوبرا مركزاً للاحتفال بمشروعاته الكبرى والترويج لإنجازاته، وبالتالي كان يوليها مكانةً خاصةً، باعتبارها الأولى بالمنطقة العربية والشرق الأوسط وأفريقيا، وكنت مصر من أوائل دول العالم التي اهتمت بوجود دار أوبرا على أرضها، وشهدت دار الأوبرا استضافة كبار نجوم العالم أيضاً، وكانت تعد تيمة أساسية في الأفلام، إذ صوّرت بها لقطات ومشاهد كثيرة في الأعمال السينمائية المهمة على مدار تاريخ السينما المصرية.

الخديو إسماعيل... عاشق الفنون الرفيعة
وكان لافتاً أن الخديو إسماعيل قرر بناء الأوبرا في مصر بعد 6 سنوات فقط من بدء حكمه في يناير (كانون الثاني) 1863، وكانت مع كثيرٍ من المشروعات الحضارية الأخرى سبباً في إعطائه لقب المؤسس الثاني لمصر الحديثة، بعد جده محمد علي باشا الكبير، إذ اهتم الخديو إسماعيل بتطوير السكك الحديدية وخدمات البريد والبرق، وبنى كوبري قصر النيل وكثيراً من القصور الفخمة التي تعد تحفاً معمارية قائمة إلى يومنا هذا، إذ لا يزال يُطلق على بعض المناطق التي تحافظ على معمارها "القاهرة الخديوية".

 

واهتم أيضاً بإنشاء نهضة تعليمية واقتصادية وصناعية وزراعية وإدارية، إضافة إلى كثيرٍ من الإصلاحات السياسية، ورغم شعبيته كونه أسس نهضة حقيقية، فإنه عُزِل بسبب الأطماع الاستعمارية من إنجلترا وفرنسا، وبسبب قلق السلطان العثماني من نفوذه واستقلاليته بحكم مصر، إذ صدر فرمان بعزل الخديو إسماعيل في 26 يونيو (حزيران) عام 1879.

وفيما يتعلق بدار الأوبرا تحديداً، وحسب بيان رسمي صادر عن دار الأوبرا، فقد أنشأها الخديو لحبه الفن الرفيع، وشغفه به، وأراد أن تكون تحفةً معماريةً لا تقل عن مثيلاتها بالعالم، فكلّف المهندسَين الإيطاليَين أفوسكاني وروسي بوضع تصميم لها يُراعى فيه الدقة الفنية والروعة المعمارية، واهتم بالزخارف والعظمة الفنية، واستعان بعددٍ من الرسّامين والمثّالين والمصورين لتزيين الأوبرا وتجميلها، وبُنيت من الأخشاب، واستغرق العمل فيها 6 أشهر.

المزيد من تحقيقات ومطولات