في معرض "قرب الماء" الذي أقيم في غاليري آزاد للفنون يدعونا الفنان المصري عبدالوهاب عبدالمحسن للدخول إلى عالمه التصويري المفعم باللون، هذا العالم الذي شكل ملامح تجربته على مر السنوات، ومثل إطاراً لممارساته الإبداعية على نحو عام، من تصوير ورسم وحفر وأعمال مركبة. في هذا المعرض لا يبتعد الفنان عن عالمه الخاص المرتبط بالأرض والمكان، لكنه يضيف إليه بعداً حالماً ورمزياً، هو أقرب ما يكون إلى الأسطورة.
تخرج الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن في قسم الغرافيك بكلية الفنون الجميلة - الإسكندرية عام 1976، وقام بتدريس الفن في أكاديميات عدة، بينها المعهد العالي للفنون التطبيقية في القاهرة، وجامعة الزيتونة في الأردن، وهو أحد المؤسسين لملتقى البرلس الدولي الذي ينظم سنوياً على شاطئ بحيرة البرلس، شمال مصر، حيث فضل الاستقرار والعمل هناك، مستلهماً أعماله وتجربته ككل من طبيعة المكان المحيط به.
بعيداً عن المدينة
ترتبط معالم التجربة التصويرية للفنان عبدالوهاب عبدالمحسن بالمكان والأرض، فابتعاده عن المدينة وإقامته الدائمة في إحدى محافظات الدلتا المصرية حيث مسقط رأسه، وقربه كذلك من بحيرة البرلس المطلة على البحر المتوسط، كلها أمور قادته حتماً إلى هذا الثراء البصري الذي يميز أعماله. وظف الفنان كل هذه العناصر المحيطة به ليشكل من خلالها ملامح أعماله عبر مراحلها المختلفة، بعين المدقق والمتأمل، باحثاً عن مسارات بصرية وجمالية مختلفة أو غير ظاهرة في كثير من الأحيان، كالخطوط المتعرجة والمتشابكة لتشققات الأرض الطينية الجافة، وبرك المياة الصغيرة، ونباتات البحيرة، وانعكاسات الضوء على صفحة مياهها، وغيرها من التفاصيل الأخرى التي ألهمت خياله.
غير أن توظيف الفنان لهذه العناصر المحيطة به لم يقتصر على الشكل فقط، بل تجاوزه إلى عملية مستمرة من البحث الدؤوب عن الخلفية الأسطورية والرمزية لهذه المفردات. فالطائر هنا مثلاً يحمل رمزية خاصة في المعتقدات المصرية القديمة، وبخاصة هذه الطيور اللصيقة بالأرض وحياة الفلاح، كطائر أبو منجل الذي قدسه المصريون القدماء كرمز للإله تحوت، إله القمر والحكمة والطب، وعرف بكونه سيد الكلمة المقدسة. وإن كانت أعداد هذا الطائر ذي الشكل المميز قد تراجعت اليوم في مصر، إلا أن مكانته ما زالت شاغرة بأحد فصائله المعروفة عند الفلاح المصري بـ"أبو قردان"، وهو طائر ينتشر بكثرة في المناطق الزراعية في مصر ومنطقة شمال أفريقيا.
وظف الفنان عبدالوهاب عبدالمحسن صورة هذا الطائر في أعماله المعروضة، كتيمة مرتبطة بالأرض والماء والنبات. من طريق هذه العناصر الأربعة شكل الفنان أعماله الأخيرة، وهي عناصر دالة وذات رمزية. حين نتأمل هذه العناصر الأربعة نجد أن لها مرجعيات ميثولوجية وأسطورية ممتدة عبر التاريخ الإنساني، فقد تعاملت معها جميع الحضارات القديمة بنوع من الامتنان والتقديس، وكان لها جميعها مكانة مميزة عند المصريين القدماء على وجه الخصوص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تجتمع هذه العناصر الأسطورية الأربعة لتشكل البنية الرئيسة للأعمال المعروضة، وتتحول إلى ما يشبه الأيقونات، أو أحرف الهجاء التي يمكن الاستعانة بها في قراءة المشهد البصري الذي بين أيدينا. يعكس التوظيف البصري لهذه العناصر الأربعة في أعمال عبدالمحسن حالة التوحد بين الفنان والمكان من ناحية، ويشي بالتركيبة البنائية لأعماله من ناحية أخرى. يستعين الفنان في أعماله بالشكل من دون تهميش للتفاصيل البصرية الأخرى المرتبطة به، كاللون والنسب والمنظور وغيرها.
فهي تتحول بدورها إلى دلالات توازي دلالة الشكل ورمزيته الطاغية، فالطائر الأبيض في اللوحة مثلاً قد يكتسب اللون الأخضر أو القرمزي في لوحة أخرى، أو ربما يكتسي بلون قاتم أحياناً. هذه السمة الرمزية لدرجات اللون تبدو عاملاً مشتركاً للأعمال المعروضة جميعها، وربما في كثير من أعمال عبدالوهاب عبدالمحسن وتجاربه السابقة، وهي تبدو هنا أكثر حضوراً وألقاً.