من الصعب أن نعرف ما الذي كان سيرسمه الفنان السويسري أرنولد بوكلين لو أنه عاش في أيامنا هذه وخبر خلال السنوات التي بدأت مع بدايات هذه الألفية، كل تلك الشرور والكوارث والمصائب المتوجة اليوم بالوباء الكوروني المنتشر بأقسى من انتشار الطاعون الذي كثيراً ما عبر عنه في لوحاته؟ نطرح هذا السؤال ونحن نستعرض رسومات هذا الفنان التي دائماً ما رسمت تحت شعار الموت والأوبئة والآلام والزوايا الغامضة التي لا تحمل إلا الخوف والأسى لمن يتأملها. ولئن كان بوكلين قد رأى كل ذلك وصوره في لوحات تبنتها نخب القرن العشرين بدءاً من السورياليين، واعتبرتها معبرة عن رؤية للمصائر البشرية تحفل بكل أنواع الخراب، وصوره تحديداً في أزمنة كانت أعياداً جزلة مقارنة مع ما نعيشه اليوم، كيف كان من شأنه أن يصور هذا الزمن الذي نعيشه هو الذي قبل سنوات قليلة من موته عند مفتتح القرن العشرين، جعل من كل لوحة من لوحاته وصية موت وبؤس ودمار؟ وإذا كان هذا القول ينطبق على مجمل ما رسم بوكلين خلال العقدين الأخيرين من حياته، حسبنا أن نتأمل تلك اللوحة المعتبرة وصيته، "الحرب"، والتي رسمها عام 1898 في نسختين لم يستكمل سوى واحدة منهما تعتبر اليوم، ثاني أشهر لوحاته، طبعاً بعد اللوحة الأكثر سواداً والتي تحمل عنوان "جزيرة الموتى". لقد كثر الحديث عن "جزيرة الموتى" واستيحائها ومحاكاتها واستلهامها أدباً وأفلاماً، بحيث بات ضرورياً النظر صوب لوحات أخرى للفنان. ومن هنا نلتفت إلى تلك اللوحة التي تعنينا هنا والتي ينظر إليها باعتبارها وصيته.
استيعاب ما لفرسان الرؤيا
توجد النسخة الأشهر والمكتملة من لوحة "الحرب" (بارتفاع 100 سم وعرض نحو 70 سم) معلقة في متحف المعلمين الجدد في درسدن بألمانيا، حيث تعتبر من أشهر مقتنيات هذا المتحف. وعادة ما يقارن الباحثون هذه اللوحة بلوحة النهضوي الألماني آلبريخت دورر الممثلة "فرسان الرؤيا الأربعة" كما تحدث عنهم القديس يوحنا المعمدان في كتابه الكابوسي. بيد أن بوكلين جعل فرسانه ثلاثة يمتطون معاً أحصنة ثلاثة تنطلق في هجمة فضائية معلقة فوق مشهد طبيعي لمدينة من المفترض أنها غير محددة تماماً، لكن الخبراء يقولون إنها بالتأكيد إحدى مدن منطقة توسكانا الإيطالية التي عاش فيها الرسام خلال السنوات الأخيرة من حياته.
إذاً في لوحته/ الوصية هذه، اكتفى بوكلين بثلاثة من فرسان الرؤيا: الموت والحرب والطاعون، لكنه أضافها إليهم كبديلة عن الفارس الرابع امرأة بثوب أحمر لا ندري ما إذا كانت تمتطي حصاناً أو تشارك الآخرين أحصنتهم، لكننا نلاحظ أنها تحمل مشعلاً بكل يد تستعد بهما لإحراق أي مكان يمرون به. بل يبدو حتى أنها أنجزت جزءاً من مهمتها عبر اختراقها ورفاقها سماء المدينة التي تبدو محترقة يتطاير منها اللهيب والدخان. هي رؤية كابوسية بامتياز في نهاية المطاف، حققها بوكلين في واحدة من سنواته الأخيرة في إيطاليا، في وقت كان يعاني فيه الفقر وشتى أنواع الأمراض مدركاً أن نهايته قد حلت فـأراد أن يوزع بؤسها على الخلق أجمعين في انعكاس لحداثة من الواضح أنها كانت تنتمي إلى الأزمنة المقبلة.
قفزة إلى العصر التالي
إذ حتى وإن كان بوكلين قد افتتح القرن العشرين برحيله في يناير (كانون الثاني) 1901، فإن من المنطق اعتباره واحداً من أبناء القرن العشرين، هو الذي رسم وعمل وعاش خلال النصف الثاني من القرن السابق عليه. ولكن بوكلين رفض ضمنياً الالتصاق بالقرن التاسع عشر وكلاسيكيته، الشكلية والموضوعية، بل انتمى وبكل وضوح إلى القرن المقبل الذي لم يشهده على أي حال. فالواقع أن معظم رسوم بوكلين، ذات الطابع المأساوي الرمزي، والتي ارتبطت بالأسطورة وبخاصة الأساطير الدينية الرمزية، جاءت وكأنها نبوءة بما سوف يحدث في القرن العشرين، بمآسي هذا القرن وبطابعه التراجدي. ناهيك عن أن أرنولد بوكلين الذي ولد في بال بسويسرا، اكتشف باكراً أنه ليس بإمكانه، في توجهه الفني كما في اختياراته الإنسانية، إلا أن يكون أوروبياً. ومن هنا كانت تلك البداوة المبكرة التي جعلته ينتمي، في آن معاً، إلى ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، وأحياناً إلى فرنسا التي عاش فيها ردحاً من الزمن، بل اكتسب فيها وعيه، حين كان مقيماً فيها في 1848 وشهد بأم عينيه ثورتها التي كانت واحدة من أولى الثورات المدنية، ومن أولى علامات الحداثة. والحداثة، هي على أي حال، واحدة من الكلمات- المفاتيح في حياة بوكلين وفي عمله. وهكذا، لئن كان هذا الرسام قد رحل والحداثة لا تزال بعد في أطوارها الأولى، فإنه كان قد عرف، على مدى سنوات عمله كلها كيف يرسم للحداثة آفاقاً... فكان بذلك حلقة الوصل المهمة بين آخر تجليات الكلاسيكية وأولى علامات العصور الحديثة في الفن التشكيلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ابن الزمن الرومانطيقي
ولد أرنولد بوكلين، كما أسلفنا في بال (سويسرا) في 1827، من أب كان ثرياً ومديراً لمصنع مكنه منذ صباه من تحقيق حلمه بأن يتعلم فن الرسم فسمح له، باكراً، بأن يرتاد مدرسة للرسم في المدينة. وفي الثامنة عشرة من عمره توجه بوكلين إلى داسلدورف في ألمانيا حيث درس رسم المناظر الطبيعية طوال سنتين، وبعد ذلك توجه إلى باريس حيث اطلع عن كثب على أعمال الرسامين الرومانطيقيين والرمزيين وشهد فصول ثورة عام 1848. ومنذ ذلك الحين نراه لا يكف عن التجوال، حيث عاش عقود عمره متنقلاً بين سويسرا وألمانيا وإيطاليا، فتوقف لفترات طويلة في مدن مثل بال، زيوريخ، فايمار، ميونيخ، روما وفلورنسا، ونحن لو تتبعنا عمل بوكلين عبر مراحل تجواله، لاكتشفنا كم أن ذلك التجوال قد انعكس حيناً في مواضيعه، وحيناً في خطوطه وألوانه، بحيث من السهل اليوم القول إن بوكلين كان فناناً أوروبياً بامتياز.
اشتهر بوكلين أول ما اشتهر في عام 1859، حين عرض في ميونيخ واحدة من أشهر لوحاته. ولقد مكنته تلك الشهرة من أن يمارس بين 1860 و1862 وظيفة مدرس للرسم في أكاديمية فايمار التي كانت قد أنشئت حديثاً. وكان من السهل عليه أن يدرس في ألمانيا هو الذي كان منذ نعومة أظفاره قد تأثر بكبار فناني النهضة الألمان وفي مقدمتهم هانز هولباين الصغير. كما أن معظم أصدقاء بوكلين خلال إقامته في إيطاليا كانوا من الرسامين الألمان ومنهم انسلم فويرباخ، الذي اشتهر برسومه الرمزية والميثولوجية، ويعتبر فن بوكلين شديد القرب من فنه، وهانز نون مارييس، الذي سيلعب دوراً كبيراً في ازدهار الفن الرومانطيقي الألماني. ولا بد أن نذكر هاهنا أن بوكلين، خلال إقامته في روما، اطلع عن كثب على الجداريات الأثرية المتبقية بين أطلال مدينة بومباي، وهي جداريات من الواضح أنها قد مارست تأثيراً كبيراً على لوحاته.
إغراق في الذاتية المقلقة
هذه التأثيرات المختلفة انتهى بها الأمر إلى جعل بوكلين يتخلى عن أساليب الحداثة الشكلية التي طبعت أعماله الأولى، وللانصراف إلى أسلوب رومانطيقي أسطوري شديد الذاتية، تطبعه كلاسيكية مخادعة على أي حال. ومن هنا تميزت لوحات تلك المرحلة من حياته (سنوات السبعين من القرن المنصرم) بلوحات ذات شخصيات رمزية وأسطورية. غير أن هذا الفنان سرعان ما بدل أسلوبه من جديد في زيوريخ خلال العقد ونصف العقد الأخير من القرن المنصرم، حيث صارت لوحاته أكثر تلويناً وخطوطه أكثر التباساً، وسيطر على موضوعاته هاجس الموت الذي أمضى الأعوام الأخيرة من حياته، في إيطاليا، يعبر عنه في مواضيعه. وهكذا نراه يرسم لوحة كبيرة مزدوجة، في 1896 بعنوان «الموت» ويتبعها في العامين التاليين بلوحة عنوانها «الطاعون».. ومن المؤكد أن هاتين اللوحتين كانتا الإشارة الأولية لولادة التعبيرية الألمانية من جهة والسوريالية من جهة ثانية، لكنها ولادة لم يشهدها بوكلين الذي رحل عن عالمنا، وكل ذلك لا يزال في طور الاختمار.