Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أميركا في حاجة إلى ثورة علمية جديدة للحفاظ على وتيرة اكتشافاتها

المعاهد الحكومية تهيمن على التمويل العلمي وتبطئ حركته ومطالب بتغيير النهج

انتشار البيروقراطية يؤثر سلبا في الابتكار وسرعة التوصل إلى اكتشافات علمية جديدة (غيتي)

على الرغم من التقدم الذي أحرزته شركتا "فايزر" و"ميرك" بعد إنفاق مئات الملايين من الدولارات لإنتاج حبوب تقلل من خطر الإصابة بفيروس "كوفيد-19"، فإن تجربة سريرية خلصت الأسبوع الماضي إلى أن عقار "فلوفوكسامين" المضاد للاكتئاب رخيص السعر والمتوافر في الأسواق منذ عقود، يُحدث التأثير ذاته، لكن الفارق يتمثل في أن تمويل البحث المتعلق بعقار "فلوفوكسامين" كان محدوداً للغاية وقدمه برنامج جديد يستهدف تسريع البحث العلمي، وهو ما يثير تساؤلات على نطاق واسع في الولايات المتحدة عما إذا كانت أميركا في حاجة إلى ثورة علمية جديدة للإبقاء على وتيرة تقدمها واكتشافاتها من خلال إعادة النظر في كيفية تمويل البحوث العلمية وانتقائها.  

خلال الأسبوع الماضي، خلصت تجربة سريرية كبيرة إلى أن عقاراً رخيص السعر يُستخدم منذ عشرات السنين لعلاج الاكتئاب والوسواس القهري هو "فلوفوكسامين"، يقلل بشكل كبير من وفاة الأشخاص المصابين بـ"كوفيد-19" أو معاناتهم من أعراض شديدة تؤدي إلى نقلهم للمستشفى، فقد اكتشف الباحثون أن المرضى الذين تناولوا الدواء لمدة ثمانية أيام على الأقل، شهدوا انخفاضاً بنسبة 91 في المئة بمعدل الوفيات، كما أوضح العلماء أن "فلوفوكسامين" يقلل أيضاً من الالتهاب، ونبّهوا إلى قدرته على تهدئة الاضطراب والخلل اللذين يصيبان الجهاز المناعي بسبب فيروس كورونا، الأمر الذي يبشر بأن هذه النوعية من العلاجات ربما تكون هي المعيار المعتمد مستقبلاً لمقاومة "كوفيد-19".

المنح السريعة

لكن ما يجعل هذه الأنباء مبهجة للغاية، أن الدراسة البحثية التي خلصت إلى تلك النتيجة لم تكُن ممولة من الحكومة الأميركية بل موّلها برنامج جديد هدفه الأساس تسريع البحث العلمي حول "كوفيد-19" دشنه مع بداية انتشار الفيروس، تايلر كوين، الخبير الاقتصادي في جامعة جورج ميسون، وباتريك كوليسون، الرئيس التنفيذي لشركة سترايب للمدفوعات المالية، وأطلقا على البرنامج اسم "المنح السريعة" بحيث جمعا فريقاً صغيراً من العلماء الذين كانوا في بداية حياتهم المهنية لفحص آلاف من الأفكار، وأرسل البرنامج أول دفعة من المال في غضون 48 ساعة فقط، كما تمكّن من جمع 50 مليون دولار خلال عام 2020 لتمويل أكثر من 260 منحة علمية دعمت البحث في اختبارات "كوفيد-19" القائمة على اللعاب، والإصابات طويلة الأمد بكورونا والتجارب السريرية للأدوية التي يعاد استخدامها بما في ذلك "فلوفوكسامين".

ويهدف برنامج المنح السريعة إلى حل مشكلة السرعة بطرق عدة، بحيث صُمممت عملية التقديم للحصول على منح علمية كي تستغرق نصف ساعة فقط، واتخذت قرارات التمويل في غضون أيام قليلة ضمن جهد غير عادي لضمان إنجاز المهمة.

تمويل شاق وبطيء

وتُعدّ هذه النوعية من التمويل محدودة في الولايات المتحدة، حيث يتدفق معظم التمويل العلمي من الوكالات الفيدرالية الحكومية مثل المعاهد الوطنية للصحة والمؤسسة الوطنية للعلوم، وكلاهما يقدمان حوالى 50 مليار دولار سنوياً لهذا الغرض عبر عملية شاقة وبطيئة يقضي فيها العلماء نحو 40 في المئة من وقتهم في العمل على تقديم المنح البحثية بدلاً من تمضيتها في البحث العلمي نفسه، كما تستغرق وكالات التمويل أحياناً سبعة أشهر أو أكثر لمراجعة طلبات التمويل والرد عليها أو طلب إعادة تقديمها وتعديلها، ما يقوّض زيادة إنتاجية البحث العلمي.

معاقبة الإبداع

ويشير موقع "ذي أتلانتك" الأميركي إلى أن تعدد طبقات البيروقراطية الحالية يؤثر سلباً في سرعة التوصل إلى اكتشافات علمية جديدة، كما يؤثر كذلك في عملية الإبداع، إذ تتطلب عملية مراجعة المنح في المعاهد الوطنية للصحة، أن يوافق عدد من المراجعين على الطلب، ويمكن أن يؤدي هذا الإجماع المطلوب إلى إعاقة الحداثة والتطوير، لأن الكم الهائل من العمل المطلوب للحصول على منحة يعاقب أيضاً الإبداع، إذ إن كثيراً من العلماء، الذين يتوقعون أن تنال طلباتهم الإعجاب، قد تُرفض مشاريعهم بعد 500 يوم، بينما كان من الممكن ضخ طاقاتهم في فكرة جديدة.

 وإذا كان ذلك يحدث في صناعة أكاديمية يبدو أن تأمين تمويل المعاهد الوطنية فيها أمراً صعباً، إلا أنه منذ الستينيات، أصبحت برامج الدكتوراه تستغرق وقتاً أطول مما كانت عليه في الماضي، ولهذا تراجعت نسبة الحائزين على شهادة الدكتوراه بنسبة 40 في المئة.

مفارقات النظام العلمي

في الأعوام القليلة الماضية، دار كثير من المناقشات بين رواد الأعمال والباحثين والكتاب حول حاجة الولايات المتحدة إلى ثورة علمية جديدة، ولهذا شخّص هؤلاء المفكرون عدداً من المفارقات في النظام العلمي الأميركي الحالي في محاولة للبحث عن حلول، فتمثلت أولى المفارقات في الثقة، إذ يردد الأشخاص في الدوائر المهنية القول إنهم يؤمنون بالعلم، بينما النظام العلمي لا يبدو أنه يضع ثقة كبيرة بالعلماء الحقيقيين. فعلى سبيل المثال، كشفت دراسة استقصائية للباحثين الذين حصلوا على منح سريعة، أن ما يقرب من 80 في المئة منهم قالوا إنهم سيغيّرون محور بحثهم الرئيس، إذا تمكنوا من توزيع أموال المنح بالشكل الذي يرغبون به، كما قال أكثر من 60 في المئة إنهم سيواصلون العمل خارج مجال خبرتهم بما يتعارض مع معايير المعاهد الوطنية للصحة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشكو عدد من العلماء الأميركيين في جامعة كاليفورنيا – بيركلي، أن وكالات تمويل المنح الحالية لا تسمح لعدد من أفضل العلماء في العالم بمتابعة مشاريع البحث التي يعتقدون أنها الأفضل. وهكذا وجد الباحثون والعلماء أنفسهم في وضع يحتفل فيه كبار الممولين بالأشخاص الذين يقولون إنهم يحبون مؤسسة العلم، بينما هم واقعياً مقيدون من قبل المؤسسة العلمية الفعلية.

تراجع الإنتاجية

وتتمثل المفارقة الثانية في التخصص، فعلى الرغم من تخصص كثير من الباحثين في مجال العلوم، إلا أنه لا يمكن للعلماء كأفراد التركيز بشكل كافٍ على إجراء بحث متعمق في المجال الذي يختارونه، ونتيجة لذلك أصبح الوقت الذي يقضونه للحصول على الدكتوراه يستغرق فترة أطول. فمنذ عام 1970، ارتفع متوسط عدد أعوام درجة الدكتوراه للطالب في مجال العلوم الحيوية من خمس سنوات إلى نحو ثماني سنوات. ووجد الاقتصادي في جامعة ستانفورد نيكولاس بلوم وزملاؤه أن إنتاجية البحث قد انخفضت أيضاً بشكل حاد في جميع المجالات منذ السبعينيات. وتوصّل جيمس إيفانز، الباحث في جامعة شيكاغو إلى أنه مع تزايد عدد الباحثين، تباطأ التقدم في بعض المجالات.

وفي الصورة الأكبر، تبدو عملية التخصص في العلوم صعبة لعلماء اليوم، لأن كثيرين منهم يضطرون إلى تكريس يوم واحد على الأقل في الأسبوع للسعي من أجل المال، بينما تقول غالبيتهم في استطلاعات الرأي أنهم يمضون ربع وقتهم في طلبات المنح، بالتالي يبذلون جهداً كبيراً في إطار نظام كان من المفترض أن يجعل من العلماء رهباناً متخصصين، إلا أنه يلقي بهم في سباق محموم للحصول على تمويل نادر.

مفارقة التجربة

وتتمثل السمة الثالثة للعلم الأميركي في مفارقة التجربة، فبينما لا تزال الثورة العلمية التي تلهم أبحاث اليوم تمجّد فضائل التجارب، فإن المؤسسات العلمية لا ترغب بتغيير النهج الحالي الذي يركز عملية التمويل العلمي في يد الوكالات الفيدرالية مثلما كانت منذ إنشائها عقب الحرب العالمية الثانية، إذ تموّل مؤسسات مثل المعاهد الوطنية للصحة والمؤسسة الوطنية للعلوم عدداً من المشاريع الرائعة، لكنها بطيئة وغير مبتكرة، ولهذا انبثقت فكرة المنح السريعة من خلال ملاحظة تباطؤ التمويل الفيدرالي في بداية الوباء، في حين يقترح كثيرون من المصلحين العلميين تقديم مكافآت سخية لمن يتمكّن من تحقيق اختراقات كبرى، أو تقديم تمويل غير محدود وغير مشروط للباحثين المتميزين المعروفين في مجالات معينة.

ويجادل بعض العلماء في ضرورة الدفع بمزيد من الممولين الذين يقومون بتجارب أكثر لمعرفة ما ينجح وما لا ينجح، والسماح لألف مبادرة على غرار المنح السريعة بالازدهار، وتتبّع إنتاجيتها على المدى الطويل، وتحديد ما إذا كانت هناك طرق أفضل لتمويل هذا النوع من الاكتشافات العلمية التي يمكن أن تغيّر مجرى التاريخ.

الحاجة لثورة جديدة

قبل أربعمئة عام، أطاحت الثورة العلمية الأولى الطرق القديمة في كيفية النظر إلى العالم وتبنّت التجريب على التقاليد، ولهذا يبدو أن الولايات المتحدة في حاجة إلى ثورة مماثلة اليوم، إذ لا تزال تعتمد على أسطول من الوكالات العلمية الفيدرالية التي أُسّست منذ عقود من الزمن وتتصرف بقدر واسع من البيروقراطية التي تعرقل الهدف الذي أنشئت من أجله. فقد ينشر مركز السيطرة على الأمراض "سي دي سي" بحثاً ممتازاً ، لكنه فشل تماماً في الاستجابة بسرعة وبشكل مناسب لمواجهة حالة الطوارئ الوطنية مع انتشار الوباء.

كما تحمي إدارة الغذاء والدواء من بعض المنتجات الطبية السيئة، لكن حمايتها تحرم الأميركيين أيضاً من بعض المنتجات الجيدة والمطلوبة بشكل عاجل، كما يقول موقع "ذي أتلانتك"، بينما تمول المعاهد الوطنية للصحة ومؤسسة العلوم الوطنية كثيراً من الأبحاث الرائعة، لكن هيمنتهما على التمويل العلمي تجعل من الصعب معرفة ما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة القيام بعمل أفضل بكثير.

بما أن العلوم في الولايات المتحدة تحتاج إلى مزيد من العلم، فهذا يعني، قبل كل شيء، أن هناك حاجة إلى مزيد من التجارب، وأن الوقت قد حان لوقف الاعتماد على مؤسسات القرن العشرين، بينما تحتاج أميركا إلى توجيهات أكثر واقعية في القرن الحادي والعشرين وتستجيب لمتطلبات العصر الجديد.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير